قضايا

رشيد الخيّون: حاكمية الفلاسفة.. أصل الحاكميّةِ الدِّينيَّة

اشتهرت عن أفلاطون(قبل الميلاد) نظريتُه في حاكميَّة الفلاسفة؛ والبحث عن العدالة المطلقة، مرجعها جمهوريته، ظهرت عند أبي نصر الفارابيّ(تـ: 339هج) في «آراء أهل المدينة الفاضلة»- كتب الفارابي فلسفته بالعربيّة- وفي «دولة إخوان الصّفاء»، الواردة في رسائلهم(الرّابع الهجريّ).

نجد ثمة صِلة بين الجمهوريات المثاليّة والمدن الفاضلة، وولاية الفقهاء المطلقة. فالفقيه الحاكم كالفيلسوف الحاكم، الذي وضعه أفلاطون على رأس الشَّعب؛ وأفلاطون، الذي كان أصل هذه المثاليات، ومنها الحاكميَّة الدِّينيَّة، كان يتكلم «عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارج هذا العالم، لا هو في الزَّمان، ولا هو في الأبديّة»(طرابيشي، معجم الفلاسفة)؛ وقيل: «ما نطق أفلاطون بحرف إلا صار كبيراً، وما قال شيئاً إلا واستحال صغيراً... وحسبنا أنْ نقتطع منه بعض العبارات، حتَّى نجعل منه مسيحياً»(أغوسطينوس/ المصدر نفسه). فليس أشهر مِن «الحب الأفلاطونيّ» لكنه بالمثال فقط، فكل ما قاله أفلاطون، ويتصل بنظريته «المثل»، أو «النّماذج»، ليست واقعاً.

يكون الفيلسوف في جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة هو الحاكم، ينقل الفارابيّ قائلاً: «يعهد إلى هؤلاء الفلاسفة بالوظائف الحربيَّة والإداريّة إلى سن الخمسين؛ فالذين امتازوا في النّظر يُرقّون إلى مرتبة الحُكام، ويدعون الحُراس الكاملين؛ بأمثالهم تصلح حال المدينة، لأنَّ الفيلسوف وحده يعلم الخير، ويريده إرادة صادقة، هو وحده يتصور القوانين العادلة، تصوراً علمياً...»(الفارابيّ، الجمع بين رأيي الحكيمين).

يضع الفارابيّ اثنتي عشر خصلة سماها «خِصال رئيس المدينة الفاضلة»، وهي ما يقابلها باكتمال الشّرائط في الفقيه، أو مّن يُدير الحاكميّة نيابة عن الله، وهذه الخصال لا تكتمل إلا بالفلاسفة، وعند الفقهاء إلا بالفقهاء؛ وهو حسب الفارابي: «رئيس المعمورة مِن الأرض كلها»، والولي الفقيه أو الحاكميّة الدينيَّة غير محصورة ببلد مِن البلدان، بل الأرض كافة، لأنَّ الأرض مُلك الله، وهو وكيل الله؛ كذلك كان حاكم المدينة الفاضلة. فهذا ولي المدينة وهي الأرض، وذاك يُعرف بولي المسلمين، حيث وجدوا.

مِن خصال حاكم المدينة الفاضلة: جيد الفهم والتّصور، جيد الفطنة، كبير النّفس، محباً للعدل لجوجاً في طلبه، مبغضاً للذات الكائنة، قوي العزيمة، محباً للتعليم، تسمو نفسه إلى الأرفع؛ بمعنى إنسان كامل معصوم؛ عالماً حافظاً للشرائع والسّنن، له قوة إرشاد. لكنَّ الفارابي الفيلسوف لا تفوته الواقعيّة، فيقول: «واجتماع هذه كلُّها في إنسان واحد عَسر، فلذلك لا يوجد مَن فُطر على هذه الفِطرة، إلا الواحد بعد الواحد»(الفاربيّ، آراء أهل المدينة الفاضلة).

بما أنَّ الفارابيّ تأثر بأفلاطون، واقتبس أحوال جمهوريته، فهو السّابق على القائلين بولاية الفقهاء، والحاكميَّة، لأنه القول نفسه بولاية الفلاسفة.

أما عن الخصال المطلوبة بالفقهاء الأولياء فهي ثمانٍ، بينها: العقل الكامل، والتدبير والإدارة، والأعلمية بالاجتهاد، ولا يكون طماعاً، ويكون كريماً، إلى جانب الإسلام والإيمان، والعدالة(الشّيخ كديفر، نظريات الحُكم في الفقه الشّيعيّ).

غير أنَّ المختلف بين الفلاسفة المنشئين للنظرية، والفقهاء المقتبسين، أنَّ الفارابيّ، وقبله أفلاطون، حدد التعليم والفلسفة أساساً، بينما حددها الفقهاء بالإلوهيّة (الحاكمية) والنّيابة عن الإمام(الولي الفقيه)، والاثنان نواب عن الله؛ فالله هو المشرع والحاكم، وما الفقهاء إلا نوابه على الأرض. أما الفلاسفة فحددوها بأنفسهم وأخلاقهم، ليسوا نواباً عن الآلهه. كانت مثالية أفلاطون هي الأصل؛ ومثلما ورد، أنه تحدث عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارجه؛ تنظير لا واقع له. فعلى عظمته، ورّط أفلاطون البشريّة بمثاليات لا حدود لها، كلها تهون؛ إلا مثاليته في السِّياسة وإدارة الدَّولة، فهذه قاصمةٌ.

أما ما تعلق بمثالية «العشق»، فعبّر عنها ابن حزم الظَّاهريّ(تـ: 456هـ) بمثالية المشاعر الحالمة، وهو الفقيه المعروف: «فيا لكَ جارَ الجنبِ أسمعُ حسَه/ وأعلمُ أنَّ الصِّينَ أدنى وأقربُ/ كصادٍ يرى ماءَ الطَّويَّ بعينهِ/ وليس إليه مِن سبيلٍ يُسَبَّبُ»(طوق الحمامة).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم