قضايا

هاني جرجس عياد: الكيريتسو.. نظام التعاون التجاري

الذي صمم استقرار الاقتصاد الياباني

 يُعد نظام "الكيريتسو" (Keiretsu) واحدًا من أبرز الأنظمة الاقتصادية التي شكلت بنية الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يزال يشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الشركات في اليابان حتى اليوم. يعتبر الكيريتسو مثالًا على كيفية استخدام التعاون التجاري المستدام بين الشركات لضمان الاستقرار والنمو المشترك في بيئة اقتصادية تنافسية.

ما هو الكيريتسو؟

الكيريتسو هو تحالف من الشركات المتنوعة التي تتعاون مع بعضها البعض في إطار طويل الأمد. هذه الشركات غالبًا ما تتخصص في صناعات مختلفة مثل التصنيع، والخدمات المالية، والتجارة، لكنها تبقى مترابطة بشكل وثيق عبر روابط مالية وتجارية. تعتمد الشركات في نظام الكيريتسو على بعضها البعض لتبادل الموارد والمعلومات، مما يعزز من استقرارها في السوق ويقلل من المخاطر التي قد تواجهها.

في هذا النظام، تعتبر البنوك عنصرًا أساسيًا، حيث تقدم التمويل اللازم لشركات الكيريتسو، وتساعد في تسهيل المعاملات المالية بين الشركات الأعضاء.

تاريخ نشوء الكيريتسو

نشأ نظام الكيريتسو في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت اليابان بحاجة إلى إعادة بناء اقتصادها المدمّر. في هذه الفترة، تم تفكيك الزايباتسو، وهي المجموعات الاقتصادية الكبرى التي كانت تسيطر عليها العائلات اليابانية الثرية، وذلك ضمن جهود احتلالية أمريكية تهدف إلى منع تركيز السلطة الاقتصادية في يد فئة قليلة.

بعد تفكيك الزايباتسو، تطورت فكرة الكيريتسو كبديل، حيث كانت الشركات تحتفظ بعلاقات وثيقة مع بعضها البعض، لكن بطريقة أكثر مرونة وشفافية مقارنة بالنظام القديم. تحول الكيريتسو إلى شبكة اقتصادية مترابطة تضم مجموعة من الشركات الكبرى المتخصصة في مجموعة متنوعة من المجالات.

هيكل الكيريتسو

يتكون الكيريتسو من عدة مكونات رئيسية تشمل:

1.  الشركات الأم: الشركات الرئيسية في المجموعة التي تتحكم في صناعات مختلفة مثل السيارات، الإلكترونيات، البتروكيماويات، وغيرها.

2.  البنوك: تعتبر البنوك جزءًا لا يتجزأ من النظام حيث تقدم الدعم المالي للشركات الأعضاء في الكيريتسو، وتضمن استقرار السيولة المالية وتيسر عمليات التمويل.

3.  الموردون والموزعون: تتعاون الشركات المنتجة مع الموردين لتأمين سلاسل التوريد، بينما تعمل الموزعين على تسويق وتوزيع المنتجات.

4.  الشركات التابعة: شركات صغيرة أو متخصصة تتبع الشركات الأم ضمن نفس المجموعة، مما يخلق شبكة تعاون شاملة.

الخصائص الفريدة للكيريتسو

1.  الاستقرار المالي: من خلال التعاون المشترك في الأسهُم، تضمن الشركات استقرارًا طويل الأمد، حيث لا يكون من السهل على الشركات الأخرى الاستحواذ عليها أو التأثير عليها بشكل خارجي. التبادل المشترك للأسهم يمنع تحول الشركات الأعضاء إلى أهداف للاستحواذ العدائي.

2.  التعاون طويل الأمد: الشركات داخل الكيريتسو لا تسعى إلى تحقيق الأرباح السريعة بقدر ما تهتم ببناء علاقات طويلة الأمد. هذه العلاقات تعزز من الاستقرار المؤسسي وتضمن التطوير المستمر عبر الأجيال.

3.  المرونة والتكيف: على الرغم من الروابط القوية بين الشركات، يتمتع كل عضو في الكيريتسو بقدر من الاستقلالية في اتخاذ القرارات. هذا يسمح للشركات بالتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية والمحلية بسرعة.

4.  دور البنوك في تمويل الشركات: البنوك اليابانية، مثل البنك الياباني للتجارة الدولية والبنك الميتسوي، تعتبر شريكًا محوريًا في الكيريتسو. تقدم هذه البنوك تسهيلات ائتمانية للشركات الأعضاء، مما يساعد على تعزيز قدرتها التنافسية، خصوصًا في الأوقات التي قد تواجه فيها الشركات أزمات مالية.

التعاون داخل الكيريتسو

على عكس الأنظمة الاقتصادية الغربية التي قد تشهد منافسة حادة بين الشركات، فإن الكيوريتسو يركز بشكل أساسي على التعاون بدلاً من التنافس. تتعاون الشركات في ما بينها على عدة أصعدة، منها:

1.  البحث والتطوير: تقوم الشركات في الكيريتسو بتبادل الأبحاث والمعلومات التقنية من أجل تحسين المنتجات والخدمات التي تقدمها.

2.  الإنتاج المشترك: أحيانًا تقوم الشركات بتطوير خطوط إنتاج مشتركة لتقليل التكاليف وتحقيق الكفاءة.

3.  التوزيع المشترك: تقوم الشركات الموزعة في الكيريتسو بتوزيع المنتجات عبر قنواتها المختلفة، مما يضمن استقرار السوق.

أمثلة على الكيريتسو اليابانية

1.  مجموعة ميتسوبيشي (Mitsubishi Group): تعتبر مجموعة ميتسوبيشي واحدة من أكبر وأشهر الكيريتسو في اليابان. تضم المجموعة شركات تعمل في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك السيارات (ميتسوبيشي موتورز)، الإلكترونيات، السفن، والطاقة، بالإضافة إلى البنوك والشركات الاستثمارية. يشمل الكيريتسو عددًا من الشركات التي تتعاون في مشاريع مشتركة وتبادل الموارد بشكل مستمر.

2.  مجموعة ميتسوي (Mitsui Group):مجموعة ميتسوي هي مثال آخر على الكيريتسو التي تضم شركات متعددة تعمل في القطاعات المالية، والخدمات اللوجستية، والصناعة. تعد ميتسوي & كو واحدة من الشركات الكبرى ضمن هذه المجموعة التي تدير العديد من الأنشطة التجارية عبر الحدود.

3.  مجموعة تويوتا (Toyota Group): مجموعة تويوتا هي أحد أبرز الأمثلة على الكيريتسو في صناعة السيارات. إلى جانب تويوتا موتورز، تضم المجموعة شركات تعمل في تصنيع قطع الغيار، التكنولوجيا، والخدمات المالية، مما يعزز من قدرة تويوتا على قيادة السوق.

التحديات التي يواجهها الكيريتسو في العصر الحديث

على الرغم من نجاح الكيريتسو في تعزيز الاستقرار والنمو داخل الاقتصاد الياباني، فإنه يواجه تحديات كبيرة في ظل العولمة المتسارعة. مع الانفتاح الكبير للأسواق المالية وتطور التكنولوجيا، أصبح من الصعب على الشركات اليابانية الحفاظ على هذا النموذج المعتمد على التعاون الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الشركات اليابانية تتعرض لضغوط للتكيف مع البيئة الاقتصادية العالمية التي تركز على التنافس المفتوح.

دور الكيريتسو في المستقبل

بينما تزداد الضغوط على الكيريتسو في عالم العولمة، لا يزال النظام يوفر العديد من المزايا، مثل الاستقرار المالي وتبادل الموارد. قد يكون هناك تحول في الطريقة التي تعمل بها هذه الشبكات الاقتصادية، حيث تتجه بعض الشركات إلى بناء علاقات تعاون مع شركات خارج الكيريتسو. ومع ذلك، يبقى الكيريتسو نموذجًا مؤثرًا في شكل النظام الاقتصادي الياباني وفي تحديد طرق إدارة الأعمال داخل الشركات.

إمكانية تطبيق نموذج الكيريتسو في مصر

يُعَدّ نموذج الكيريتسو الياباني تجربة جديرة بالدراسة عند التفكير في آليات دعم الاقتصاد المصري. في ظل التحديات التي تواجه بيئة الأعمال في مصر، مثل ضعف سلاسل الإمداد وصعوبة التمويل طويل الأمد، يمكن لتبني مبادئ الكيريتسو أن يسهم في بناء تحالفات استراتيجية بين الشركات الوطنية، لا سيما في قطاعات مثل الصناعة، والزراعة، والخدمات اللوجستية. من خلال إنشاء شبكات تعاون متكاملة تضم البنوك، الشركات الإنتاجية، والموردين، يمكن تحقيق استقرار مالي أكبر، وتعزيز القدرة التنافسية المحلية، ومواجهة تقلبات السوق العالمية. نجاح هذا النموذج في مصر يتطلب بيئة تنظيمية داعمة تشجع على الشفافية، وتحفز الاستثمارات المشتركة، وتطور منظومة التمويل المصرفي بما يتناسب مع احتياجات هذا النوع من التعاون المؤسسي.

الخلاصة

إن نظام الكيريتسو في اليابان هو نموذج فريد من نوعه يعكس كيف يمكن للتعاون المؤسسي بين الشركات أن يعزز الاستقرار الاقتصادي. ورغم التحديات التي يواجهها في العصر الحديث، لا يزال الكيريتسو يساهم في قوة الاقتصاد الياباني ويشكل حجر الزاوية للكثير من الشركات الكبرى في اليابان. قد يتغير هيكل النظام بمرور الوقت، ولكن المبادئ الأساسية للتعاون المستدام ستظل جزءًا لا يتجزأ من نجاح الاقتصاد الياباني.

***

د. هاني جرجس عياد

في المثقف اليوم