قضايا
مصدق الحبيب: في نظرية الفن (3)
القيمة التشخيصية بين الفن التقليدي والفن الحديث
فرناند ليجيه Fernand Le’ger (1881 – 1955) رسام ونحات وسينمائي فرنسي وهو احد اهم مؤسسي المدرسة التكعيبية، رغم ان اسلوبه تميز بالتركيز على الخط المنحني والسطوح المحدبة والمقعرة اكثر مما هو على الخط المستقيم والزوايا الحادة والسطوح المستوية. ولذلك فقد تميزت بعض اعماله بمجسماتها الاسطوانية والانبوبية، مما دعى بعض النقاد الى تسمية اسلوبه المتفرد بـ Tubism بدلاً من Cubism.
في هذا النص حاولت ان استقي اهم الافكار التي طرحها هذا الرسام الهام حول معنى وضرورة الفن الحديث في بواكير ظهوره كاتجاه ومنهج فنيي، وباعتبار ان ما سطره هذا الفنان اصبح من اصول النصوص التنظيرية في الفن. جاء ذلك في مقالته الموسومة "القيمة التشكيلية في الفن التشكيلي" المنشورة في مجلة Montjoie عام 1913. وقد اعيد نشر المقالة في كتاب "الفن والنظرية 1900-2000" الذي حرره چارلس هاريسن وپول وود، كأ وسع انثولوجيا تخص افكاراهم المهتمين بالفن وتطوره من نقاد ورسامين وصحفيين خلال قرن من الزمن.
من البدء، يركز ليجيه على ما أسماه بواقعية التصور والادراك Realism of conception ويميزها عن الواقعية المألوفة لدينا والتي يسميها الواقعية المرئية Visual realism التي نراها ونلمسها في محيطنا والتي جسدتها اعمال مئات الرسامين التقليديين عبر السنين. فهو يعتقد ان الفن الحديث، وبالذات المدرسة التكعيبية فيه تحملنا على تصور ما هو واقعي رغم ان ما نراه على سطح الكانفس لا يحاكي بالضبط ما هو خارجه من اشياء. وانها تجسد ذلك الادراك بواقعية الاشياء من خلال علاقات التناغم والتضاد والتناقض فيما بين العناصر الصورية عبر انشاء اللوحة، ومن خلال تكسير المنظور وتجزئة المشهد الذي يعبر عن طبيعة وحال الحياة المعاصرة.
ويؤكد ليجيه ان قرونا من الفن التقليدي عوّدت المتلقي ان يقيّم العمل الفني بقدر ما يستطيع ذلك العمل من محاكاة ما هو موجود حولنا باكثر مايمكن من الدقة في التشخيص، واقرب ما تجسده اللوحة من الصفات الفيزياوية للاشياء حسب ما تراها العين خارج اللوحة. الا ان الامر اختلف في الفن الحديث. فلم يعد ذلك النقل الحرفي للواقعية المرئية هو المعيار الفني لقيمة العمل، ذلك ان قيمة العمل التشكيلي الآن لا تشترط المحاكاة أو بالاحرى لم تعد دقة التشخيص هي المعيار الامثل لفنية العمل. ويشدد على ان هذا التطور في التقييم ينبغي ان يكون بمثابة العقيدة الثابتة في الفن التشكيلي المعاصر، بل من بديهيات فهمه وتذوقه.
ويعتقد ليجيه بأن الواقعية المرئية تتجسد عند الفنانين التقليديين عن طريق تحقيق الترتيب المتزامن Simultaneous ordering للعناصر التشكيلية الاولى، الخط والفورم واللون، هذا التزامن الذي يضمن سلامة التشخيص التشكيلي وبدونه لا يمكن لأي عمل ان يدعي كلاسيكيته الخالصة. حيث ان اي اخلال في هذا التزامن او اي نقص في واحد من تلك العناصر سيفسد حال العنصرين الآخرين ويخل بالصفة التشخيصية التي تؤمن المحاكاة الدقيقة للواقع المرئي. كان ذلك شرطا اساسيا لتحقيق القيمة المطلقة Absolute value للعمل الفني في زمن ماقبل الانطباعية، ولم يحيد عنه اي فنان مبدع يسعى لبلوغ تلك القيمة الفنية المطلقة لعمله. ولكن جاء الانطباعيون وقلبوا الطاولة فرفضوا شرط القيمة المطلقة وابدلوها بالقيمة النسبية Relative value، فكان ذلك بمثابة انطلاق الشرارة الاولى للفن الحديث. يمضي ليجيه الى الجزم بأن الانطباعيين هم المؤسسين الأوائل لما تطور بعدئذ فاعطانا الفن الحديث باشكاله المختلفة. ذلك انهم رفضوا الانصياع لمحاكاة الواقع الفوتوغرافية وعمدوا الى الغاء شرط وحدة وتناغم العناصر التشكيلية الثلاثة فأعلنوا، ضمناً، ان نهجهم يركز على عنصر اللون فقط ويشتغل على ديناميته الفيزياوية. وبذلك لم يعد الانشغال بالعنصرين الآخرين، الخط والفورم مهما بقدر أهمية اللون لديهم. كما لم تعد وحدة العناصر التي لا تنفصم ضرورية لتحقيق القيمة الفنية. ولا ضير ان يؤول هذا الى الاخلال بالتشخيصية الدقيقة والابتعاد عن الواقعية المرئية.
هذا يقودنا ايضا الى ان موضوع العمل الفني لم يعد مهما ايضا، حتى في ثيمات الحياة الساكنة (الجامدة) Still life. فمثلا مشهد تفاحة خضراء موضوعة على قطعة قماش حمراء كان يشير في ما قبل الانطباعية الى العلاقة بين شيئين وعلاقتهما بما يحيط بهما من مشهد ومن نواحي عديدة كالمنظور ومساقط الضوء والوضعية والخلفية والانشاء. أما لدى الانطباعيين فلا يتعدى ذلك سوى الاهتمام بعلاقة تونات لوني التفاحة والقماش وتونات ما يحيط بهما وبموجب ما تقتضيه كمية الضوء في المشهد.
ويعزو ليجيه ذلك التحول التاريخي في فهم الفن الى الانطباعيين الاوائل وبالذات سيزان Cezanne ومانيه Manet اللذين يعدّهما بمثابة الرجال الذين اشعلوا فتيل الانتفاضة وقادوا الثورة في المسار الصحيح الذي يحمل روح العصر. ويؤكد انها ثورة وردة فعل تاريخية وليست امتداد او تطور لما كان قبلهما. ويستشهد بفكرة ان أي تحول تاريخي لاي حركة عظيمة يتطلب ثورة تقلب الامور على عقب بدلا من الاقتناع بسلسة اصلاحات يفترض فيها ان تهندس التغيير التدريجي "Revolution vs. evolution ". وفي هذا الصدد، لا يرى ليجيه ان الجمهور يعي هذه الثورة، بل يلاحظ ان اغلب الجمهور الفني يعتقد ان ما يشهدونه من فنون حديثة ماهو الا موجة ثقافية عابرة ستتكسر وتنحسر، وانها مسألة زمن ينتظرونها كما ينتظرون عبور موضة غريبة. وهذا بالطبع ما لا يليق بهذه الثورة التي تقدم فنا امتلك كل مقومات بقاءه وازدهاره، بل انه سيصبح الفن المهيمن لزمن قادم طويل. وما علينا الا ان نصيغ له مفهوما كاملا وشاملا يثبّت خطاه ويعزز مسيرته كما فعل من سبقونا في عهودهم المنصرمة.
وهنا يعترف ليجيه بانه ليس من السهل ان يتخطى الفن ما اعتاد الناس على رؤيته وفهمه كفن. وان ترسيخ هذا التحول كفن جديد لا يقتصر بالتأكيد على شجاعة او حماقة فنان معين منفرد يأخذ على عاتقه تحجيم دور التشخيصية وتقليل قيمتها لدى الجمهور بتحطيم المنظور والغاء الموضوع وفصل الروابط العاطفية للمشهد والاتيان بعناصر جديدة غير وثيقة الصلة بما هو مألوف! ان الامر، فيما اذا اردنا التعمق في حقيقته، عبارة عن انعكاس حتمي لتغير الواقع والحاجة الى التجاوب والانسجام مع معطياته وتغيراته. بل يمضي للقول انها مسألة ألفة روحية ومصاهرة وثيقة مع روح العصر الجديد بكل ما يتميز من سرعة وتجزئة وتشظي وانحسار عاطفي ووجداني. يضرب ليجيه مثالا فيقول ان الطراز المعماري الذي كان شائعا وشعبيا في القرن الخامس عشر كان الطراز القوطي Gothic ولكن كل شئ قد تبدل في نهاية العصور الوسطى عندما اخترع گوتنبرگ آلة الطباعة التي آذنت ببدء عصر صناعي وتكنولوجي جديد انعكس على التصميم المعماري وبقية الفنون.
وهكذا فان احداثا كبرى كاختراع التصوير الملون والافلام المتحركة وتزايد شعبية مختلفة ونمو ذائقة جديدة للمسرح والسينما ساعد على بدء عصر جديد يتطلب وسائل تعبيرية مناسبة ومختلفة عما سبق. ووسائل التعبير الجديدة قد لا تستخدم العناصر القديمة كالموضوع والحبكة العاطفية وغيرها مما كان عمادا لوسائل التعبير السابقة. فلو تأملنا التصوير الفوتوغرافي مقارناً برسم البورتريه، على سبيل المثال: فالتصوير يتطلب جلسة واحدة قياسًا بعدة جلسات امام رسام البورتريه، اضافة الى ان الكامرة قادرة على ان تعطي شبها مضبوطا دقيقا وتفاصيل كاملة وبكلفة أقل. وهذا ما حتم على حرفة رسم البورتريه ان تذوي وتتضاءل في عصر اكتمل فيه بديلها الافضل.
ويختتم بالقول ان لكل فن زمنه، وعلى اي فن ان يتحرك ضمن فضاءه الخاص ويعمل بموجب وسائله التعبيرية التي تتيحها معطيات الواقع الحضارية والتكنولوجية. على ان المفهوم الحديث للفن ينبغي ان يؤكد على حقيقة انه لا يعني التجريد العشوائي العابر انما التعبير الكامل عن الاجيال الحاضرة والزمن الذي تعيشه.
***
ا. د. مصدق الحبيب