قضايا

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (6)

المراهق في التربية الحديثة

فترة المراهقة من الفترات الحساسة والمهمة جدا في حياة الفرد، وتمثل مرحلة انتقالية بين الطفولة والشباب.

عندما يلج الفتى أو الفتاة مرحلة المراهقة فإن مسؤولية العائلة التربوية تتضاعف وتتركز أكثر.

تبدأ مرحلة المراهقة من سن الرابع عشر حتى سن العشرين لدى الفتى، ومن سن الثاني عشر إلى الثامن عشر لدى الفتاة- حسب البيئات-؛ فبعضها فيها يكون البلوغ مبكرا خاصة في وقتنا الحاضر، والمراهقة بدأت تزحف على الطفولة، ويتبع هذا المناخ، والغذاء، واللباس، والأفرشة، والتلوث البيئي، وأمواج الإنترنيت، والعواصف الشمسية، ومشاهدة أفلام غير مناسبة لسن ما قبل المراهقة، وكلها تلعب دورا كبيرا في تسريع البلوغ لدى الذكور والإناث.

في هذه المرحلة تحدث تغييرات في جسد الفتى المراهق، والفتاة المراهقة بسبب تدفق الهرمونات في أجسامهم. ينمو جسديا حيث تنضج أعضاؤه التناسلية. وعقليا حيث تتسع مداركه وخبراته؛ فيكون أكثر ذكاء وأسرع في التعلم، وينمو عنده الإدراك وتتسع مخيلته. واجتماعيا حيث تنشأ لديه علاقات اجتماعية يكتسب منها الخبرات، ويتحمل المسؤوليات، وتكون لديه القيم المعنوية عالية ونقية من خلال المواقف والتجارب التي تعترضه.

إدراك وفهم مرحلة المراهقة يتبع وعي الأبوين. علاقة الأهل بالمراهق تكمن بشكل أساس بالتعرّف على شخصه، ومعالم التغيير التي تطرأ عليه في هذه الفترة الحساسة. ويكمن وعي الأم بمثاليتها، وقدرتها على تدوير ذكائها العاطفي الأمومي بالتعاطي مع ابنها المراهق، وابنتها المراهقة وإدارة دفة العلاقة معهما بعمق المحبة والاحتضان، وواقعية الأب بمحبة، واحترام، واهتمام، وحنكة، وحكمة، وحلم في بناء علاقة منفتحة ومرنة مع المراهق أو المراهقة، والحديث معه، ومصارحته بكل ما يعتريه من مشاكل ومعاناة وعقبات، ومعرفة تصوراته، وآرائه، وطموحاته.

في التربية الحديثة يكون كل من الأبوين مستمعا جيدا، ومصغيا لابنه، يستوعب أفكاره وآراءه دون معارضة، أو مشاكسة، أو إقصاء الرأي، يحاور ابنه باحترام، ويسدي له نصائحه دون تسلط، أو استبداد، ويحسن الثقة به، ويوليه أهمية كبيرة، ويؤثره على نفسه، ويصاحبه في بعض مشاويره الاجتماعية ومسؤولياته خارج المنزل، ومنحه الحرية داخل المنزل، واحترامه، وتقديره، وعدم مساس مشاعره بالألفاظ الفضة.

الصراحة مع المراهق في هذه المرحلة مهمة لحمايته من أخطار المحيط والمجتمع الخارجي دون تسلط. يحاول الآباء في هذه المرحلة من فرض السيطرة على الابن المراهق خاصة الذكور، فالإناث تجتاز فترة المراهقة بهدوء دون مشاكسة لأن البنت بطبيعتها هادئة مسالمة. ومن جدير القول أن تخطّي فترة المراهقة بالنسبة للفتاة أسهل من الفتى، والفتاة دوما بجنب أمها وهي تحرص على ابنتها، والفتى يتميز بالخشونة والعناد والتهور.

علاقة الأهل المتينة مع المراهق تعتبر صمام الأمان له من الوقوع في الأخطاء الجسيمة والانزلاق مع الشلة السيئة. المراهق يولي اهتماما كبيرا للأصدقاء أكثر من الأهل، وهذا ما يثير قلق الأهل خوفا عليه من مخاطر الشلة. ويحذر الأهل من انضمام أبنائهم إلى بعض الجمعيات السرية التي قد يكون لها أثر سلبي على المراهقين كون أعضاؤها فاشلين تربويا واجتماعيا، وقد ينغمس أفرادها في سلوك غير صحيح اجتماعيا، أو جنوحي سيما إذا كان زعيم الجماعة من النوع الضعيف غير الناضج، أو السلبي السيئ الذي يدفع أعضاء المجموعة إلى ارتكاب جرائم العنف والشر والسوء التي تسبب خطرا كبيرا على المجتمع[1]،"ويكون استقطاب الأطفال في مجموعات بمثابة الشلة أو الصحبة أو الرفقة، يكوّنون معا قواعد سلوكية لهم، وتكون لهم مصطلحاتهم وثقافتهم الفرعية، ويدين الأطفال فيها بالولاء للجماعة، ويصبح انتماؤهم لبعضهم أهم أحيانا من انتمائهم لأسرهم"[2]؛ فهو بحاجة للشلة ظنا منه أنه يحقق ذاته من خلالها، حيث يقتفي أثرها في كل سلوكياته. ويكون معطاء في العلاقات خاصة إذا كان قد نشأ في عائلة معطاء كريمة، يقلد أهله، ويعطي، ويقدم، ويبالغ بالعطاء لهم، وينجر العطاء إلى العلاقة العاطفية مع الجنس المختلف، فيعطي فيها ويضحي بنفسه من أجلها بكل غال، وأحيانا يتلقى الصدمات العاطفية الحادة بسبب عطائه المادي والمعنوي؛ لذلك يميل المراهق للانتماء إلى جماعات تضم أفراد الجنس الواحد، وتتميز بالتجانس بين أعضائها في المستوى العقلي والتربوي ويكونون حريصين في اختيار زعيم الجماعة أو قائدها، حتى تتحقق أهداف الجماعة. والصداقات التي تعقد في المدارس الثانوية والجامعة لها أهمية كبيرة؛ لأنها تساعد الشباب في الحصول على الطمأنينة واستكمال نموهم الانفعالي الإيجابي المفيد. الانضمام إلى الجماعة ضمن فريق عمل هدفه تنمية الروح الجماعية، والقدرة على التكيف، وتعلم حسن التعامل مع الناس. يقول أحد الشباب:

كان أبي مدربا لفريق كرة القدم في مدينتنا وكان يهتم بتربيتنا بطريقة مدهشة، وكان يؤكد باستمرار على أهمية(الإنجاز الجماعي)، ويبدو أن طبيعة عمله جعلته هكذا، وكان في الحقيقة قدوة حسنة لنا في هذا الأمر وغيره، ويؤكد على معاني حسن الاستماع لوجهات نظر الآخرين، وفهم طبيعة العمل الذي يشترك فيه أعضاء الفريق، حتى لا ينشب الصراع بينهم، وفهم الخلفية النفسية والفكرية لأعضاء الفريق، فقد يميل بعض الناس إلى التشاؤم أو التفاؤل المفرط، أو شدة الحساسية للتدخل في خصوصية الغير، فكل هذا يؤدي إلى تشتت وتنازع فريق العمل والروح الجماعية التي يتحلى بها، والاعتراف بالخطأ. تنمية الروح الجماعية هو مطلب إصلاحي وحضاري ومهني[3].

يتحتّم على الأهل تعليم الابن تقدير نفسه من غير مقارنة بغيره من الناس، وإن تقدير الآخرين المفرط الذي يبالغ في تقييم الناس الحقيقي هو ضرب من الغرور، ويجب أن يكون الشاب متيقظ الضمير ولا يسعى لحب الظهور، بل أن يسعى ليكون هو ذاته من غير تصنّع، وينبغي أن يكون قنوعا إزاء الظروف الخارجية، وصبورا في العمل كما يقول المثل "تحمل وامتنع، وأن يكون متزنا في تحصيل اللذات، فعندما يكون الشاب صبورا في صعوبة الحصول على اللذات فسيكون عضوا مفيدا للجماعة ويتخلص من الضجر[4].

ما يؤرق الأهل هو كيفية حماية المراهق والمراهقة من المخاطر المحيطة خاصة خارج محيط الأسرة، وهنا يبرز دور الأهل الحقيقي المسؤول.

لحماية المراهق من الأخطار يسعى الأهل إلى توفير الأمن الشخصي له عبر أشكال الحماية؛ منها، معرفة الأماكن التي يرتادها، وتعليمه الرياضات المختلفة للدفاع عن نفسه، وتعليمه فن حماية نفسه من التنمر المجتمعي كأن يصدر من الأصدقاء، أو المعلمين، أو الجيران، أو أي إنسان آخر. والتنمر قد يكون بأشكال متعددة كالاستهزاء بشكله، أو لباسه، أو عشيرته، أو منطقته، وهنا يسعى الأهل لأن يسدوا النصيحة له بضرورة إخبار المرشد الاجتماعي، أو التربوي، أو إدارة المدرسة، أو إخبار الجيران، أو أي شخص آخر كان قد تنمر عليه وتلقينه درسا لن ينساه.

والنقطة الأهم اليوم هي حماية المراهق من مخاطر الانترنيت، ويمكن التأكيد هنا على أن الأسر الواعية تجد أن أفضل طريقة لحماية الأبناء من خطر الانترنيت هي كتابة وثيقة تعهد بين الأهل والأبناء تنص موادها على الالتزام بشروط وآداب الاستخدام؛ منها عدم إرسال صورهم عبر الانترنيت للأصدقاء أو أي أحد كان، الحذر من أي عمل فيه مال، وعدم فتح كاميرا الجهاز الذكي، وعدم إعطاء معلومات شخصية عنهم وعن أهليهم، وعدم فتح بريد الكتروني دون معرفة الأهل، واستخدام أسماء مستعارة، ولا يفصحون عن أسمائهم الحقيقية، كذلك وضع الأجهزة في صالة المنزل باعتبارها مكانا عاما للعائلة. ويتوجب على الأهل التعرف على أصدقاء الابن ومجالستهم واختيار الرفاق الجيدين والمتفوقين الذين ينحدرون من أسر محترمة أصيلة فالشلة لها دور كبير في شخصية المراهق، وقد تؤدي مرافقتهم إلى الإخفاق في الأداء المدرسي، أو إدمان التدخين أو المواد المخدرة، وغيرها.[5]

هذه التوجيهات عامة لا تخص الابن المراهق فقط انما البنت المراهقة كذلك. وبالنسبة للفتاة المراهقة فإن على الأهل أيضا أن يمنحوها الثقة الكاملة، وإذا منحت الثقة فإنها لا تخون الأهل مطلقا، خاصة هي قد تلقت تربية متينة مبنية على أسس سليمة من القيم والاعتبارات والأخلاق الفاضلة وأهمها المحبة المشبعة. في هذا الزمان من المفضل أن تكون البنت مع مجموعة الصديقات الموثوق بهن وصحبتهن في المدرسة وخارجها، والذهاب معهن إلى المدرسة والعودة بالوقت المحدد. وعلى الأم أن تتعرف على صديقات ابنتها، وتختار هي لها الصديقة السوية من غيرها.

العلاقة المرنة والمتينة بين الأب وابنه المراهق، أو الأم وابنتها المراهقة تجعل الأبناء صادقين، صريحين، منفتحين، محاورين، يكتشفون ذواتهم بإيجابياتها وسلبياتها، وعلى الأهل التشجيع على الإيجابيات وطمس السلبيات بتوضيح انعكاسها على المراهق نفسه، وعلى أهله والمجتمع العام، من قبيل الصفات الذميمة كالكذب، أو رفع الصوت، والانفعال أثناء الحديث مع الآباء، أو اللامبالاة للأهل وعدم تلبية أوامرهم، أو عدم الرغبة في إكمال مشروعهم الدراسي. "دلت دراسة حديثة أجريت على اثني عشر ألف مراهق على أن العامل الأكثر أهمية وتأثيرا في رفاهية المراهقين وفي إحساسهم بالسعادة هو جودة علاقاتهم بآبائهم بغض النظر عن نوعية الأسرة التي ينتمون إليها كما أظهرت بعض البحوث أن المراهقين الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع آبائهم يقل احتمال تورطهم في مشكلات خطيرة"[6].

وهنا ينبغي التأكيد على ضرورة وجود الأبوين معا في مكان واحد في فترة المراهقة، والواجب على الأبوين تهيئة الجو الأسري المناسب الذي يحقق الأمان له لما لوجودهم معا من أهمية قصوى، حتى لا يتمرد المراهق على أي منهما، ويسلك دروبا قد تؤدي إلى عواقب وخيمة عليه مستقبلا.

العلاقة العاطفية بين الجنسين، والفراغ، والمهنة أهم مشكلات المراهق[7].

المشكلة العاطفية لدى المراهق تُحل عند الأسرة الواعية بتشجيعه على الانخراط في ممارسة هواياته في أندية الشباب الرياضية، وتعلم مختلف الفنون والمهن، وتعلّم اللغات عبر الانخراط في معاهد ذات الاهتمام الهادف، وفي هذه الحالة تُمتص طاقة الشاب الجسدية، أو تنخفض كثيرا.  ترشيد العلاقة بين الجنسين في زماننا الحاضر الذي تتعدد فيه المغريات والمثيرات والاختيارات التي لا حصر لها مهم جدا، وتقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة. وينبغي على العائلة والمدرسة من توجيه المراهقين والمراهقات توجيها سليما يقيهم الوقوع فيما لا تحمد عقباه من النتائج الوخيمة عن الاختلاط غير السليم بين الجنسين.

تكمن مشكلة الفراغ في الوقت الفائض عن وقت العمل، حيث أن المراهق يشغله التحصيل العلمي في الموسم الدراسي خاصة في المراحل الدراسية المتقدمة؛ لكن في أيام العطل، أو في بعض الأيام التي لا يكون فيها لديه شغل كثير؛ يكون الفراغ. وهنا تبرز عوامل مؤثرة في ملئه، ويتبع ذلك الأسرة التي يتربى فيها المراهق، ورغبات وميول الابن لممارسة نوع من الهوايات؛ فإذا كانت الأسرة ذات اهتمام ثقافي يمكن للأهل من إرشاد الابن وتوجيهه نحو ملء وقت فراغه بالمطالعة، أو الانخراط في دورات تعليم المهن الحرة، أو تعليم اللغات، أو الهوايات الأخرى كالرسم والموسيقى والتمثيل وغيرها الكثير، أو الانخراط في الأندية الرياضية لممارسة هواياته وإفراغ طاقاته، أو في الانضمام إلى الأندية الثقافية مع الأصدقاء الأسوياء، وتخطيط برامج مفيدة والقيام برحلات استجمام لمناطق سياحية. وقد يكون الانتماء للتيارات السياسية هو إحدى صور ملء الفراغ عند المراهق، وهذا ما ألفناه في مجتمعاتنا العربية التي نظّمت الفتيان والفتيات في سن المراهقة في الحركات السياسية. وفي الوقت الحاضر يمكن توجيه الشباب نحو دورات تعليم الحاسوب وبرمجته، والأجهزة الذكية الأخرى، وتعليم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي.

أما بالنسبة لمشكلة المهنة فإن ما يحددها هو نحو التخصص العلمي الذي يختاره الابن. قد يحدث في بعض الأسر أن المراهق لا يرغب في إكمال مشروعه الدراسي، وفي الغالب يحدث هذا في الأسر ذات المستوى العلمي المتدني، أو الأسر التي تمارس العنف والقسوة على المراهق منذ طفولته، والتنمر عليه بمختلف الألفاظ الفضة المؤلمة لنفسه فهنا يتمرد، ويعاند الأهل، ويصر على ترك المدرسة انتقاما لنفسه وثأرا لها. أما في الأسر المتعلمة المثقفة فإنه يكمل مشواره الدراسي ويتفوق إلاّ في حالات استثنائية كالأسلوب التعليمي غير السليم في المدرسة، أو معاناة المراهق من مشاكل عاطفية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها. وقد تتدخل عوامل بيئية مؤثرة في اختيار الشاب لمهنة معينة في المستقبل متمثلة بالظروف المحيطة كتأثير الأبوين والمعلمين، والظروف الاقتصادية؛ وتأثير المجتمع، وتأثير التعليم. يتطلب اختيار المهنة للمراهق والمراهقة طبيعة المستوى المهني للآباء، فمهن الآباء متفاوتة تبعا لاستعداداتهم وقدراتهم الذاتية من تربية و ذكاء، فحينما يكون الآباء والأمهات متفوقين في مستواهم الثقافي والتربوي فإن النتيجة الطبيعية يكون الأبناء بنفس المستوى من التربية العالية والذكاء الذي يمكّنهم من امتهان مهنة آبائهم كأن يكونوا أطباء، أو مهندسين، أو مخترعين، أو محامين، أو أساتذة، أو علماء، فالمشاهير أغلبهم سليلو أسر ذات مهن رفيعة، أو أصحاب أعمال أكثر من نبوغهم من بيوت أربابها إما عمال عاديون أو فلاحون[8]، لكن هذا لا يعني شرطا للنبوغ والتفوق فلكل قاعدة شواذ، وقد تنتج البيئات المحرومة أبناء متفوقين ومبدعين كما تقدم ذكره.

الأبوان على الدوام يتدخلان في اختيار مهنة المستقبل للابن والبنت؛ وقد يكون في تدخلهما صالحا للابن أو غير صالح، لكن من غير الصحيح أن يختار الأب اختصاصا لابنه حتى لو كان يعارض رغبته، مثلا إذا كان الأب طبيبا، أو مهندسا فإنه لا يقبل لابنه غير مهنة الطب، أو الهندسة، بينما الابن يرغب أن يكون تدريسيا، أو محاميا أو غيرهما، وهنا ينشأ الصراع بين الأب وابنه، وإذا سلك الابن رغبة الأهل فإنه ربما يفشل أو يتعثر في مشواره. وإذا اختار الابن ميله نحو مهنة معينة يرغبها على الأهل في هذه الحالة توجيه النصح والمعونة له على اختيار مهنته بالطريقة المناسبة لمستوى مواهبه وقدراته الذاتية، لا معارضته.

للأسرة المثقفة أسلوبها الخاص في كيفية حل مشاكل المراهق، ويتمثل بالحكمة في تحليلها وحلها عبر الحوار الحر دون إثارة الانزعاج والتعنت اعتمادا على تقبل الاختلاف بينهم وبينه حينئذ يستمع المراهق لأبويه ويكون مطيعا لهما؛ "وطاعة الشاب المراهق متميزة عن طاعة الطفل لأنها مقرونة بقواعد الواجب، يعني فعل شيء من أجل الواجب، وفعل الواجب يعني الطاعة للعقل. والطفل لا يعي الواجب، لذا فمن الأفضل أن يُترك حتى يعيه الطفل عند استيفاء شروطه ويكبر ويدرك فكرة الواجب"[9].

وأفضل طريقة لمساعدة المراهق على التطور هو إشراكه باحترام في اجتماعات الأسرة الأسبوعية. وفسح المجال له لكي يعبر عما يختلجه من أفكار ومشاعر أو مشكلات أو انطباعات حول الأسرة. ومساعدته في حل المشكلات، فاجتماعات الأسرة تقوي نفسية الابن، وتجعله ودودا، قوي الثقة بنفسه، وتخلق فيه حالة التوازن النفسي، وتنمي فيه القدرة على التعاون، وتنمي شعور الانتماء لديه، وتنمي مهارات حل المشاكل، وتعلمه التعاون مع الأسرة بوضع الحلول الإيجابية لكل قضية حياتية. وينبغي تجنب المبالغة في الحوارات وكثرة الكلام، لأن قلة الكلام تساعد الابن على الإصغاء أكثر.

كلما كان المراهق قد تلقى تربية رصينة في أسرة واعية تسودها المحبة، والاحترام، والتضامن، وقوة الأواصر؛ فإن أبناءها المراهقين يجتازون مرحلة المراهقة بسلاسة وسهولة، وأثبتت هذه الحقيقة "دراسة أمريكية أجريت على أربعمائة ولد من سن رياض الأطفال وحتى سن الرابعة والعشرين- أن المراهقين في الأسر المتماسكة ذات الروابط القوية والأسر التي تسودها الشورى والاهتمام المتبادل هم الأقل شعورا بالضغوط وهم الأكثر إيجابية في النظرة إلى الحياة وشؤونها ومشكلاتها في حين كان الآخرون أكثر عرضة للاكتئاب والضغوط النفسية، وأكدت دراسة علمية أخرى أن 80% من مشكلات المراهقين في عالمنا العربي هي نتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، حيث يتشكل عند الأبناء انطباع بأن آباءهم تقليديون وغرباء عن زمانهم، أو أنهم لا يهتمون بمعرفة مشكلات أولادهم، أو أنهم غير قادرين على فهمها أو حلها. الإقناع والحب ومحاولة التفهم تساعد على كسب الأبوين للمراهقين وإن الضغط والتوبيخ واستعجال الثمار والنتائج مما يباعد بينهما وبينهم ويجعل تأثرهم بتوجيهاتهما ضعيفا[10].

تبقى مرحلة الطفولة والمراهقة هما ما يحدد نمط شخصية الابن في فترة الشباب. مرحلتان تحملان إيجابيات وسلبيات كل منهما في حياته؛ فالصراعات التي يخوضها في الأسرة مع الأبوين والإخوان والعلاقات التي يسودها الشدّ والجذب؛ تُدخله في منافسة وصراع مع الإخوان والأتراب والأصدقاء، فيحب بعضهم، ويبغض الآخر، وينجذب إلى بعض، وينفر من الآخر، فتتراكم الخبرات التي تتكون من خلالها أنماط سلوكية قد يعي بعضها، وقد لا يعيها؛ وهي ما تحدد نمط العلاقات مع أصناف الناس في مستقبل الأيام.

من هنا تكون نتيجة البيئة والمجتمع التي تتكون فيهما شخصية الفرد في مرحلتي الطفولة والمراهقة في كلا المحيطين إما فرد متوازن ومنضبط السلوك، مفعم بالسلامة والراحة والأمل ومقبل على الحياة بكله كونه قد تلقى تربية صحية سليمة متوازنة في بيئة صحية سليمة، وإما فرد مضطرب غير سالم مثخن بالجراح النفسية كونه قد تربي في بيئة مريضة، غير سالمة سلوكيا ونفسيا وتربويا، من أب مستبد عنيف وقاس ومتسلط وعدواني، أو أم متسلطة ومستبدة وقاسية[11].

بعد هذا الاسترسال في موضوع تربية الطفل يمكن القول:

إن تربية الطفل في كل مراحلها ومختلف نواحيها تعتمد على التطبيق والعمل، أو ما يسميه الفيلسوف كانط (التربية العملية) التي تشتمل على (المهارة والفطنة والأخلاق)؛ فالمهارة يجب تطويرها وتنميتها حتى تتحول تدريجيا إلى عادة، وهي ضرورية جدا للموهبة، والموهبة تضع الطفل في موقع الإبداع والإنتاج المفيد، والفطنة يكتسبها الطفل من خلال فهم سِمات الآخرين والرصانة، واستخدام فن تنظيم السلوك الخارجي، وإخفاء غير اللائق- مثلا- إذا كانت لدى الفرد أخطاء شخصية فإنه لا ينبغي أن يمارسها أمام الآخرين وعليه إخفاؤها، لأنها لا تحظى بقبولهم، وليس معنى الإخفاء الخداع أو النفاق إنما هو لياقة اجتماعية، وعليه أن يكون شجاعا لكي يمارس طموحه ورغباته لكن برقابة داخلية صارمة لا يرفضها الآخرون، والأخلاق هي(تحمّل وامتنع)؛ وتعني لا يجب أن نخضع إلى أهوائنا بوجود الآخرين وأن نتحلى بالشجاعة ونروّض أنفسنا على التحمل، ومقاومة الأهواء والعادات والطلبات الخاصة، والعمل على أداء الواجبات المشتركة بينه وبين المجتمع العام[12].

بالتربية العملية يصل المربي إلى نقطة التوازن؛ فالاهتمام الكامل بالطفل في الحاضر يجعله متأهّبا للمستقبل؛ ف"تربية اليوم الحاضرة هي رصيد المستقبل القادم، فنحن نعد الجيل اليوم لمشكلات اليوم، وبإعدادنا هذا نكون قد حصّنّاه ضد مشكلات المستقبل، نحن نعطيه طريقة العمل والبحث وندله على أن يكتشف ويوازن ويختار ونسلحه بسلاح المعرفة العلمية التي يمكن أن يطبقها في المستقبل، ولكننا لا نعده لذلك المستقبل، لا نقولبه في قالب معين، ونرسم له طريقه في حياته المستقبلية، نحن نعطيه مفتاح حياة اليوم؛ ليستعمله أنى شاء في مستقبل حياته"[13].

المربي الواعي يستطيع تنمية بذور الخير في نفس الطفل في كل مبادئ التربية بنواحيها المتعددة؛ ف"التربية الجيدة هي بالضبط النبع الذي يتدفق منه كل خير في هذا العالم، إن البذور المخبأة في الإنسان تحتاج إلى أن تنمو دوما أكثر فأكثر"[14]، بالضبط مثل البذرة إذا ألقيت في أرض خصبة فيها كل متطلبات الإنبات الجيد فإنها تنبت وتعطي ثمارا يانعة، على عكس البذرة التي تلقى في أرض سبخاء فإنها إما تموت، أو تنبت هزيلة ضعيفة غير مثمرة(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[15]  .

يقول عالم الاجتماع الأمريكي جون ديوي: "أعطني الطفل للتسع سنوات الأولى من عمره ثم لا يهمني من يأخذه بعدي".

براعة المربي الشجاع تكمن في توظيف أدوات التربية المذكورة من وعي وثقافة، وحوار بلغة الخطاب الأنيق، والرصيد التربوي المكتنز بالقيم الفاضلة، وتوظيف العامل الوراثي بالأسلوب الأسلم.

بالنتيجة كلما كان المربون في المجتمع واعين ومثقفين وأقوياء فإن الأبناء سيكونون أقوياء أسوياء، والمجتمع قويا، وواعيا، ومسؤولا، وسويا؛ سيما إذا عمّ الإجماع على الالتزام بالقيم المجتمعية الفاضلة، والحفاظ عليها، والتمسك بها، ورصّها فيما بين الأفراد التي تكوّن الأسر، والأسر بدورها تكوّن المجتمع. من ترعرع في ظل أسرة فيها سلامة نفسية فهو حسن الحظ، فالدلال والترف العاطفي اللذان تلقّاهما في ظل أسرته، ومجتمعه يمكّنانه من التصدي بقوة حينما يصطدم بالعالم الخارجي الذي يكتنفه الكثير من التحديات.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

...........................

[1] أنظر: عاقل، فاخر. مصدر متقدم، ص394.

[2] دوركايم، مصدر متقدم، ص364.

[3] بكار، عبد الكريم. ابن زمانه. بدون مكان النشر: 1435هـ- 2014م،  ص119-121.

[4] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص115-116.

[5] أنظر: بكار، مصدر متقدم، ص66-75.

[6] نفس المصدر، ص32.

[7] محمود، د. إبراهيم وجيه. المراهقة خصائصها ومشكلاتها. د.م: دار المعارف، 1981، ص73.

[8] أنظر: عاقل، فاخر، مصدر متقدم، ص268-269.

[9] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص91.

[10] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص91.

[11] أنظر: الحفني، عبد المنعم. مصدر متقدم، ص210-212.

[12] كانط. مصدر متقدم، ص96-97.

[13] ناصر، إبراهيم، وطريف، عامر. مدخل الى التربية. عمان: دار الفكر، ط1، 2009، ص111.

[14] نفس المصدر، ص32.

[15] الأعراف-58.

 

في المثقف اليوم