قضايا
محمد الربيعي: الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
يشكل الفساد المالي والاداري في العراق عقبة كأداء امام التنمية المستدامة، حيث يستنزف موارد الدولة ويحرم المواطنين من حقوقهم. هذا الفساد المنهجي يكلف العراق ملايين الدولارات سنويا، مما يعيق حل المشاكل الاقتصادية ويؤثر سلبا على مستوى المعيشة. ومع ضعف الاليات الحالية لمكافحة الفساد، تبرز الحاجة الى حلول مبتكرة. يعتبر الذكاء الاصطناعي احد هذه الحلول، حيث يمكنه ان يكون سلاحا فعالا في الكشف عن شبكات الفساد ومحاربته في مختلف القطاعات.
دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد
يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دوراً حاسماً في مكافحة الفساد في العراق من خلال عدة طرق:
مساعدة هيئة النزاهة في الكشف عن الفساد:
يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكون حليفا قويا لهيئة النزاهة العراقية في معركتها ضد الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. من خلال تعلم الالة وتحليل النصوص والرؤية الحاسوبية، يمكن للذكاء الاصطناعي كشف الاحتيال وتتبع شبكات الفساد وتقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات. يمكن للانظمة الذكية تحليل ملايين من المعاملات المالية وعقود المشاريع واقرارات الذمة المالية للكشف عن اي انماط غير عادية او متناقضة قد تدل على فساد، كما يمكنها تتبع التدفقات المالية بين الافراد والشركات لتحديد شبكات الفساد المعقدة ومقارنة البيانات الضريبية للشركات والافراد مع بيانات الدخل والمصروفات الاخرى للكشف عن اي تلاعب او سرقة مالية من الدولة. بالاضافة الى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النصوص والمستندات للكشف عن التلاعب بالوثائق وتحليل العقود واستخراج المعلومات المهمة من كميات كبيرة من النصوص القانونية والتنظيمية. كما يمكن للانظمة الذكية تقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات والبحث عن المؤشرات المبكرة للفساد مثل زيادة غير مبررة في الثروة او تغير مفاجئ في نمط الانفاق. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي اتمتة العديد من المهام الروتينية مثل تدقيق الفواتير واصدار التراخيص مما يقلل من فرص التدخل البشري والفساد ويزيد من كفاءة عمل المؤسسات الحكومية. كما يمكن للانظمة الذكية تحليل محتوى وسائل التواصل الاجتماعي للكشف عن معلومات حساسة قد تشير الى فساد مثل نشر معلومات سرية او التفاخر بالثروات غير المشروعة. وبأستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن لهيئة النزاهة العراقية تحقيق نتائج افضل في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية.
مثال على تطبيقات الذكاء الاصطناعي: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات المشاريع الحكومية للكشف عن اي تضارب في المصالح او ارتفاع غير مبرر في الاسعار، ورصد التحويلات المالية للمسؤولين الحكوميين والشركات المرتبطة بهم للكشف عن اي انشطة مشبوهة، وتحليل عقود النفط والغاز للكشف عن اي بنود غير عادلة او مخالفة للقانون.
تحليل البيانات الضخمة:
يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة في مكافحة الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. ويمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نماذج تتنبا بالاحتيال المالي والاداري، مما يساعد على منع وقوع الجرائم قبل وقوعها.
رصد التلاعب بالبيانات:
يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف بدقة عالية عن التلاعب بالبيانات والمستندات الرسمية التي غالبا ما تكون حجر الاساس لعمليات الفساد، وذلك من خلال مقارنة البيانات الاصلية بنسخها المعدلة، وتحليل الانماط والتشوهات التي تدل على التلاعب، مما يساهم في كشف المحاولات الخبيثة لاخفاء الادلة وعرقلة سير العدالة.
تحليل وسائل التواصل الاجتماعي:
يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على فحص وتحليل كميات هائلة من البيانات المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي، مما يمكنه من كشف معلومات حساسة قد تشير الى وجود فساد، وبالتالي يساهم في الكشف عن شبكات الفساد وتتبع تحركات الفاسدين.
اتمتة العمليات:
يمكن للذكاء الاصطناعي ان يحول المؤسسات الحكومية العراقية الى بيئة عمل اكثر شفافية وكفاءة، وذلك من خلال اتمتة العديد من العمليات الروتينية مثل معالجة المعاملات واصدار التراخيص وتدقيق الفواتير. هذه الاتمتة تقلل بشكل كبير من التدخل البشري وتحد من فرص الفساد المستشرية في الرشاوى والمحسوبية، مما يساهم في بناء نظام حكومي اكثر عدالة وشفافية، ويعزز الثقة بين المواطنين والمؤسسات.
تحديات وتوصيات:
على الرغم من الامكانات الواعدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، الا ان تطبيقه الفعال يتطلب التغلب على مجموعة من التحديات. اولا، تعتمد فعالية انظمة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على جودة البيانات المدخلة، فبيانات غير دقيقة او ناقصة قد تؤدي الى نتائج مضللة. ثانيا، يجب الحفاظ على خصوصية البيانات الشخصية، خاصة وان الذكاء الاصطناعي يتعامل مع كميات كبيرة من المعلومات الحساسة. ثالثا، تتطلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي استثمارات مالية كبيرة في البنية التحتية التقنية والتدريب والتطوير. واخيرا، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي وجود كوادر بشرية مؤهلة قادرة على تصميم وتشغيل هذه الانظمة واتخاذ القرارات المستنيرة بناء على النتائج التي تقدمها. بالتالي، فان نجاح دمج الذكاء الاصطناعي في جهود مكافحة الفساد يتطلب تخطيطا استراتيجيا شاملا وتعاونا بين مختلف الجهات المعنية.
لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، يجب اتخاذ الاجراءات التالية:
لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد في العراق، يتطلب الامر جهوداً متكاملة ومتسلسلة. اولا، يجب بناء قدرات الكوادر العاملة في مجال مكافحة الفساد من خلال برامج تدريبية مكثفة تركز على استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في تحليل البيانات وتطوير النماذج التنبؤية. ثانيا، يتعين سن تشريعات وقوانين واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، مع ضمان الحفاظ على الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. ثالثا، يجب تعزيز التعاون الدولي من خلال تبادل الخبرات والمعرفة مع الدول التي حققت تقدما ملحوظا في هذا المجال، والاستفادة من الحلول التقنية الناجحة. رابعا، يجب ضمان الشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي من خلال نشر المعلومات حول اليات العمل والنتائج المحققة، مما يعزز الثقة في هذه التقنية. وفي السياق العراقي، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دورا حاسما في تحليل عقود المشاريع الحكومية وتتبع التدفقات المالية والكشف عن التلاعب بالبيانات، مما يساهم في مكافحة الفساد في قطاعات النفط والغاز والمشتريات الحكومية. علاوة على ذلك، يمكن الاستفادة من قدرات الشباب العراقي في مجال التكنولوجيا لابتكار حلول مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات الفساد. ومع ذلك، يجب توفير البيئة المناسبة لدعم هذه المبادرات من خلال توفير الموارد اللازمة وتشجيع الابتكار.
الاستفادة من التجارب العالمية:
يمكن للعراق الاستفادة من تجربة سنغافورة في استخدام نظام الكتروني شفاف للحكومة. يمكن تطوير نظام مماثل في العراق لجمع وتحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع الحكومية والعقود والمالية العامة. من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن الكشف عن اي انماط مشبوهة او مخالفات للقانون في وقت مبكر، مما يساعد في منع وقوع الفساد.
دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد باستخدام الذكاء الاصطناعي:
يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مكافحة الفساد، خاصة عندما يتعلق الامر باستخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي. يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في هذا المجال من خلال تطوير تطبيقات وادوات رقمية مبنية على الذكاء الاصطناعي تساعد المواطنين على الابلاغ عن حالات الفساد وتتبع سير التحقيقات، وبناء الوعي بأهمية النزاهة ومكافحة الفساد وتدريب المواطنين على استخدام الادوات الرقمية لمكافحة الفساد ومراقبة اداء المؤسسات الحكومية ومقارنتها بالمعايير الدولية للشفافية والنزاهة والشراكة مع الحكومة في تطوير وتنفيذ استراتيجيات مكافحة الفساد القائمة على الذكاء الاصطناعي واجراء البحوث والدراسات حول اثر الفساد على المجتمع وتقييم فعالية الاجراءات المتخذة لمكافحته واقتراح حلول مبتكرة والدفاع عن حقوق المواطنين في الوصول الى المعلومات والعدالة ومحاسبة المسؤولين عن الفساد. من خلال الاستثمار في التكنولوجيا وبناء القدرات، يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في بناء مجتمع اكثر عدلا وشفافية.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي من مكافحة الفساد المتجذر في اركان السلطة؟
حقيقة ان الفساد عندما يكون متجذرا في اركان السلطة يشكل تحديا كبيرا لمكافحته. ومع ذلك، فان الذكاء الاصطناعي يقدم ادوات قوية يمكن ان تساعد في مواجهة هذه القوى المتنفذة، حتى في ظل وجود حكومة فاسدة. يمكن للذكاء الاصطناعي ان يساهم في الكشف عن الانماط المشبوهة في البيانات الضخمة، وتعزيز الشفافية من خلال منصات البيانات المفتوحة وتمكين المجتمع المدني بادوات تحليل البيانات المتقدمة وحماية المبلغين عن الفساد وبناء بدائل لانظمة الحوكمة الفاسدة. وبذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف الفساد ويعزز الشفافية ويمكّن المجتمع المدني ويحمي المبلغين عن الفساد ويبني بدائل للانظمة الفاسدة. ولكن، يجب التاكيد على ان الذكاء الاصطناعي ليس حلا سحريا، فهو اداة قوية، ولكن يجب استخدامه ضمن اطار اوسع من الاصلاحات السياسية والمؤسساتية. كما يجب ان يكون هناك ارادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد، حتى يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحقيق اقصى تاثير.
خاتمة
الذكاء الاصطناعي يمثل اداة قوية يمكن ان تساهم بشكل كبير في مكافحة الفساد في العراق. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذه التقنية بحذر وبناء الاطار القانوني والتقني اللازم لضمان استخدامها بشكل فعال وامن. من خلال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، يمكن للعراق تحقيق تقدم كبير في مكافحة الفساد وبناء دولة المؤسسات والقانون.
***
ا. د. محمد الربيعي
.....................
* بروفسور ومستشار علمي مهتم بقضايا التربية والتعليم في العراق، جامعة دبلن
مقال له علاقة: محمد الربيعي. الذكاء الاصطناعي موّلد او مسرّع للابتكارات العلمية ؟ www.azzaman.com