قضايا
درصاف بندحر: التابع والنضال بالثقاقة
يعود أصل كلمة تابع بالإنكليزية Subaltern إلى القرن السادس عشر وتعني العريف في الجيش البريطاني وهي الرتبة الأقل مباشرة من رتبة الضابط، وهو من يتبع الأوامر وفق سلم التراتبية العسكرية.
"أنطونيو غرامشي" الفليسوف الإيطالي استخدم هذا المصطلح "التابع"، في كتاباته السياسية وذلك للإشارة إلى الفئات الأقل مكانة في المجتمع، غير القادرة على التعبير عن حاجاتها أو تطلعاتها أي الفئات المهمشة.
نشأت دراسات التابع في مطلع الثمانينات بفضل مجموعة من الباحثين الهنود سعوا إلى قراءة نقدية للتاريخ الهندي من خلال دراسة أوضاع المهمشين أو التابعين. هم يرون أن التاريخ في الهند كتب من منظار النخبة التي تخرجت من النظام التعليمي البريطاني.
وللتذكير احتلت بريطانيا الهند سنة 1758 ودام الاحتلال قرابة 200 عام حيث استقلت الهند سنة 1947 بعد سنوات من المقاومة اللاعنفية للحكم البريطاني، بقيادة "المهاتما غاندي و"جواهر لال نهرو".
المفكر الهندي "غوها" هو الأب المؤسس لدراسات التابع، حيث قام بوضع أسس هذا المجال.
في منتصف التسعينات بدأت دراسات التابع تستعمل في مختلف المجالات مما جعل منها مقاربة للتاريخ قائمة بحد ذاتها لا تقتصر على منطقة جغرافية أو مجال محدد.
انتقد باحثو دراسات التابع التحليل الماركسي للتاريخ الهندي الذي ركز على دور النخبة المثقفة في تطوير الوعي السياسي لدى الشعب في مواجهة الاستعمار البريطاني. في مقابل ذلك هم يركزون على دور الهامشيين في عملية التغيير السياسي والاجتماعي في الهند. فالتاريخ لا يمكن أن يكون وفق رواية واحدة موحدة بل هو عبارة عن مجموعة من الروايات التي تجتمع لتعطي صورة أشمل عن مجرياته. لقد قلبت دراسات التابع موازين القراءة التقليدية للتاريخ.
المفكرة الهندية الأمريكية «غياتري سبيفاك» قامت بتوظيف مقاربة التابع ضمن قضايا الجندر وتناولت بالبحث نمطًا مخصوصا من التبعية، ومن الوصاية على الذات والوعي والجسد كابدتها المرأة ولا تزال.
تحدثت "سبيفاك" عن طقس حرق النساء الأرامل لأتفسهن بعد موت أزواجهن، المعروف بـ"ساتي" في الهند.
المرأة في هذا الطقس تبرز كإنسان مغيب الإرادة والوعي. فهي لا تملك من أمرها شيئًا.. هي مجرد تابع للرجل، لا تملك حق الاستفسار ولا الاعتراض، بل إنها مدفوعة، بثقل التقاليد وبسطوة النصوص الدينية وعنفها الرمزي وبطريقة غير واعية خاضعة للقولبة، إلى الوفاء لزوجها الميت بإضرام النار في جسدها.
فكيف يمكن استعادة وعي التابع؟
يثمن "ڨرامشي" دور المثقف ويرى أن الثقافة هي محرك الإنسان، وليس كما ذهب كارل ماركس، بأن الاقتصاد هو المحرك للإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ. فالثقافة تذكي روح الحرية، وتجعل الإنسان يفكر ويخرج عن الدوائر المغلقة.
إن المرأة التي وجدت في فكرة الحرق تعبيرا عن الوفاء، صوتها مخنوق، صامت، محكوم بقوة المتبوعين، بهيمنة الثقافة السائدة. وهذا ما يمنعها من أن تعي بذاتها.
إن هذا الصوت المكتوم يجب أن يجد من بين الطليعة المثقفة، ومن بين الطليعة النسوية المثقفة بالذات، من ينوب عنه ويتحدث بلسانه إلى حين استعادته لعافيته واستغنائه عن تمثيله.
صدق الشاعر اللبناني وديع سعادة عندما قال:
"لمسه العالم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.
لم يكن هو السيّد.. كان المرتجفَ مثلهم في الريح.. وبالكاد خرج منه صوت...
الذي لم يكن سيّدا، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه."
خلاص "التابع" لا يكون إلا حين يخرج عن صمته ويكف عن حديث نفسه إلى نفسه ويسلك طريق النضال من أجل الاعتراف به ككائن له إرادة وحضور فاعل.. هذا الطريق لا يمر إلا عبر معاضدة المثقفين العضويين المؤمنين بثقافة الانحياز إلى الطبقة التي ينتمي إليها كل في مجاله.. الاستاذ في القسم والعامل في المصنع والفلاح في الحقل والمحامي في المحكمة والطبيب في المستشفى.. كل من موقعه يسعى إلى خلق طرائق جديدة للتفكير ترتقي بالإنسان نحو ما هو أفضل وأكرم لإنسانيته.
***
درصاف بندحر - تونس