قضايا

وسام حسين العبيدي: فرانكو كارديني المؤرِّخ الشجاع..

لم أكن أعرف شيئًا عن المؤرِّخ الإيطالي "فرانكو كارديني" سوى قولٍ نقله "مايكل أنجلو ياكوبوتشي" في كتابه المهم: "أعداء الحوار – أسباب اللاتسامح ومظاهره" في ضمن حديثٍ له عن التاريخ وعدم الركون إليه بالمطلق، وذلك في قوله: (يدّعون بأنهم يتحرّكون بدافع اليقين المطلق [...] لأنه من الأسهل لهم أنْ يُرجعوا يقينهم إلى أقدم الأحداث الزمنية الممكنة، ومن بين الأحداث التي يزخر بها مستودع الذاكرة الكبير، يأخذون فقط الأحداث والتأويلات التي تخدم، أكثر من غيرها، دعواهم، عندما لا يخترعون الأحداث بشكلٍ كليٍّ، ويعلِّق فرانكو كارديني، أحد المؤرخين البارزين، قائلاً: "إن الأشياء التي ليس لها وجود، تكتسبُ حيّزًا كبيرًا على الرغم من ذلك، عندما يوجد شخصٌ ما، يُؤمن بها") هذا القول العميق في رؤيته لواقع التحيّزات وكيف تنشأ وتتأسّس من العدم..؟ دفعني لأنْ أعرفَ شيئًا عن صاحبه، وهل له حضورٌ في ساحة الأحداث المتصاعدة وتيرتها في العالم..؟ وبمجرّد أن كتبتُ اسمه على محرِّك البحث في الأنترنت، وإذا به يشغل أكثر المواقع الخبرية في العالم، مهتمًّا بالحدث الأبرز في العالم المتمثّل بما يجري في غزة منذ أول أيام العدوان الاسرائيلي على شعب فلسطين في قطاع غزة، إذ لم يكن مثل غيره من الباحثين في مراكز الأبحاث الذين أعمتهم الدعاية الغربية المناصرة للكيان الصهيوني في حربها الانتقامية من كل شيء في فلسطين، بل صارت مدوّناته سيلاً من السخرية على أولئك الذين يزوّرون الحقائق، من طوابير الصحفيين الذين لا شغل لهم ولا وظيفة سوى إقناع الجمهور – ومن الطبيعي أن لا تنطلي تلك الأساليب إلا على عامة الناس- أنَّ حماس تمثّل "الشر في هذا العالم"، ويؤكّد أنّها ليس إلا دعاية تشرعن سياسة زعماء الدول الأوربية في دعمهم اسرائيل، فكان له يربط بين هذه الدعاية، وبين ما تتبّعه بدقّة في كتابه: "تهافت الغرب" الذي صدر عام 2023، من صناعة لفكرة العدو/ الشيطان اشتغل الغرب على تضخيمها في متخيل المجتمع الذي يستمدّ منه الشرعية فيما يصدر عنه من فعلٍ أو قول يحارب به ذلك العدوّ المختلق، وبحكم اختصاصه الدقيق بتاريخ العصور الوسطى، كان له أنْ يستعيد مصفوفةً من الصور النمطيّة التي اختلقها العالم الغربي لم يتجاوز من خلالها فكرة "الشر المطلق" التي تتيح له بيسر شيطنة العدو، وبمقتضى ذلك تسويغ ردعه بكل وحشية من دون أي حساب لمبادئ حقوق الإنسان، كاشفًا من خلال ذلك كله وهمًا زرعه العالم الغربي، يتمثّل بالعلمنة التي تقوم على فصل السياسة بالدين، بما جعله يطابق بين المجتمع الغربي المعاصر ومجتمعات القرون الوسطى من هذه الناحية، إذ أبان في كتابه (تهافت الغرب) أنّ مفهوم "العدو المطلق" راسخٌ في الديانات الإبراهيمية المؤمنة بإله واحد، وبمقتضى تلك الأحادية سوّغ أتباعها – وهم في حقيقتهم لم يأخذوا سوى القشور من تلك الديانات وبما يكرّس سلطة المستفيدين دنيويًّا منها – أنَّ من يختلف معهم لا يكون إلا "الشيطان" بعينه؛ فلذا يجب استئصاله من الوجود، وعبر هذا التسويق لفكرة العدو المفترض، يدحض ما يدّعيه الغرب من سياسة ليبرالية، بوصفها لا تختلف مع الأنظمة الشمولية "التوتاليتارية" باختراع عدو تقدمه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن كل الشرور، وبهذا الطرح يختلف عن طرح "حنة آرنت" التي اكتفت بحصر هذا السلوك عند الأنظمة الشمولية، في حين يرى كارديني أن الليبرالية الغربية في القرن العشرين والواحد والعشرين، قادرة على إنتاج شكل جديد من الفكر الشمولي، يظهر كملمح للفكر الأحادي، مؤكدا أن "الليبرالية نفسها يمكن اعتبارها ضربا من ضروب التوتاليتارية"، منتهيًا بذلك إلى نقد جذور الفكر الحداثي الذي ارتكز على فكرة نيتشه "إرادة القوة" ومنها فرض "الغرب" هيمنته على كل ما عداه من دول يراها ليست أهلاً بالبقاء في هذا العالم، بما جعلت الغربيّ يقتنع أن قِيَمَه فقط هي القيم الكونية والمُطلقة. ولمّا لم يجد لمسار العلمنة - الذي جاور في ظهوره مفهوم الحداثة – أي أثر واضح لتقديم تبرير معقول لفض الاشتباك الحاصل بين ركني الحداثة: المساواة والعدالة، بوصفهما بحسب كارديني: متناقضين لا يتحقّق أحدهما إلا بانتفاء الآخر، إلا باقتراح "الإخاء" بوصفه ركنًا يؤمّن خلق توازن بين الركنين السابقين، وهذا الأخير لا يتحقق إلا بتبرير ميتافيزيقي يتجاوز التاريخ، بمعنى أنه ذو مصدرٍ إلهي، وهنا لم يكن للعلمنة أي تمثّلٍ واقعي يأخذ على عاتقه حلّ هذه المعادلة، إلا بفرض "إرادة القوة" محل الإخاء، وتكون الرغبة في الهيمنة المفهوم الأساس للحداثة التي جلبت الاستعمار، وهذا الأخير - بحسب كارديني - لا تكفي آلاف المجلدات لتعداد كوارثه ومعه كوارث الاستعمار الاقتصادي والنيوكولونيالية التي تتعامى عنها اليوم مؤسسات النظام الدولي.

وبهذا الاستنتاج، استدلّ كارديني على عقم الفكر الحداثي وكل ما أنتجه من مؤسسات دولية أثبتت عجزها الكلي أمام المجازر التي ترتكبها اسرائيل كل يوم بحق الفلسطينيين، الأمر الذي دفعه - في افتتاحية مدوّنته بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي – إلى دعوة نتنياهو بالتدبر في آياتٍ من سفر التكوين، متسائلا "هل رئيس الوزاء الإسرائيلي قادر على فهمها، أم إنه يعتقد بأنه أشد جبروتا من الرب؟" وهكذا نجده في افتتاحية مدونته بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، يؤكد أن "ثمة مذبحة متواصلة لا تَظهر أي بوادر عن قرب انتهائها، ومعها تتواصل عمليات تسترِ وسائل الإعلام على المجازر، والتقليل من شأنها، والنظر في الاتجاه الآخر، ولعب سياسة دس النعامة رأسها في التراب. يطلقون عليها اسم الحرب بين إسرائيل وحماس، لكنها الحرب التي أودت بحياة أزيد من 20 ألفت من الأبرياء، بما في ذلك عدد مهول من الأطفال".

وهو إذ ينتقد السياسة الغربية في هذا الكتاب وغيره من الكتب التي صدرت له منذ عام 1971 أكثر من مائتي مؤلف، من بينها "من الشرق إلى الغرب.. الإسلام وأوروبا والولايات المتحدة، 2017"، و "هل الإسلام يشكِّل تهديدًا أم لا، 2016"، و "نفاق الغرب.. الخلافة والرعب والتاريخ، 2015"، و "اختراع الغرب، 2004"، و "أوروبا والإسلام.. تاريخ من سوء التفاهم، 1999"، و "القدس.. الأرض المقدّسة وأوربا، 1987"  بتشخيصه مواطن الضعف التي تحسبها دوائر السلطة الغربية مواطن قوة، من قبيل تزييف الطابع الديني للحملات الاستعمارية، يؤكد أن الغرب مفهوم مخترَعٌ مثله مثل الشرق، وأن الغرب والحداثة وأوروبا ثلاثة مسميات يجري استخدامها وكأنها مرادفات، في حين أننا أمام ثلاثة مفاهيم متنافرة من الداخل، بل ذهب للتأكيد على أن العالم يحوي حاليا أكثر من "غرب" خارج "الغرب"، كما أن الحداثة التي تم تصديرها للعالم تحولت إلى "حداثات" آخذة في الترسخ في كل مكان من خلال وكلاء العولمة المحليين.

وختامًا بقي لي أنْ أتساءل: وأنا أقرأ لهذا المؤرِّخ الإيطالي بعضًا من أفكاره التي تناولتها بعض المواقع الإخبارية، أشعر بمدى الشجاعة لديه حين ينتفض على أبناء جلدته، ويقوم بانتقاد سياسة دول ينتمي إليها بصورة عامة، بمعنى أنَّه لم يتعصّب لثقافته الغربية، فيدافع بمقتضى ذلك التعصب، عن سياسة بلدانٍ تمثِّل حاضنته الفكرية والعِرقية، أو لم يضع في حسابه أنَّ ما يصدر له من انتقاد لتلك السياسات، سيُسهم في تقوية الآخر الذي يمثّل ضحيّة تلك السياسات الرعناء، وسيكون نقدُهُ مستندًا يرتكز عليه أبناء تلك الدول المقهورة جرّاء هيمنة الغرب عليها، في حين نجد في كثير من بلداننا الإسلامية، من يلزمون الصمت ولا ينبسون ببنت شفة، حين يكون الظلم أو أي فعلٍ يستحقُّ الإدانة والانتقاد، صادرًا من الجهة التي ينتمي إليها ذلك المفكِّر أو المؤرِّخ، إذا لم يجد منفذًا لتسويغ صدور ذلك الظلم وجعله مشرعنًا تحت غطاءٍ إسلاميٍّ أو قوميٍّ أو غير ذلك من المسوِّغات، وإنْ حصل العكس، بأنْ يظهر من يتبرّأ من فعل الجماعة التي ينتمي إليها  - في حال لو فرضنا ذلك الفعل عدوانيًا أو بعيدًا كل البعد عن أدبيات تلك الجماعة - ويجده فعلاً لا يمتُّ للدين أو للمذهب أو للقومية التي ينتمي إليها بصلة، فهذا يعني أنه فتح أبواب جهنّم على نفسه، وصار ذكره عندهم في أسفل سافلين..!!

***

وسام حسين العبيدي

 

في المثقف اليوم