قراءة في كتاب
صلاح الدين ياسين: قراءة في كتاب "التجربة النهضوية الألمانية"
كتاب: التجربة النهضوية الألمانية من تأليف الباحث التربوي المغربي عبد الجليل أميم، صدر عن مركز نماء للبحوث والدراسات ببيروت في العام 2014. يتكون المؤلف من أربعة فصول رئيسية، بسط الدارس من خلالها أهم مرتكزات التجربة النهضوية الألمانية في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية، معتمدا في ذلك على كم كبير من المراجع باللغة الألمانية. ويشدد الباحث على أن القصد من تناول هذه التجربة هو الاستئناس والإفادة من أوجه نجاحها للبناء عليها وتطويرها ذاتيا، وليس بغرض المحاكاة نظرا إلى الخصوصية التي تسم كل تجربة على حدة.
مقومات الاقتصاد الألماني
في الوقت الذي كانت فيه بعض البلدان الأوروبية – وفي مقدمتها بريطانيا – تخطو خطوات حثيثة في طريق التحول إلى قوى صناعية متقدمة مستفيدة من الآفاق التي فتحتها أمامها الثورة الصناعية، واجهت ألمانيا جملة من العقبات والمثبطات في سبيل تحولها من اقتصاد زراعي – إقطاعي تقليدي إلى اقتصاد صناعي حديث، ولعل أبرزها:
- طبقة سياسية محافظة يتكون جزء كبير منها من النبلاء وأصحاب الأراضي الذين أعاقوا التحول نحو نمط الإنتاج الصناعي الحديث، فضلا عن الدور السلبي للكنيسة في هذا المضمار.
- لم تنجز ألمانيا وحدتها القومية إلا في وقت متأخر (1870)، إذ تجاذبتها قبل توحيدها مجموعة من الدويلات التي لم توجد بينها روابط اقتصادية وتجارية واضحة، وبالتالي افتقر الاقتصاد الألماني إلى سوق وطنية منسجمة تخول له تصريف إنتاجه الصناعي.
- نظام تعليمي ركز على العلوم الإنسانية وأهمل العلوم الطبيعية.
- ضعف البنية التحتية:
إلا أن الألمان أفلحوا في تخطي تلك العقبات عبر نهجهم لمجموعة من التدابير الناجعة في أفق التحول إلى دولة صناعية متطورة، وفي جملتها: تطوير البنية التحتية (سكك حديدية، طرق برية) لتزويد المصانع بما تحتاجه من مواد أولية ومعدات، اتباع سلسلة من الإجراءات أدت إلى القضاء تدريجيا على النظام الإقطاعي ونفوذ القوى المحافظة (كالفصل بين الكنيسة والدولة).
كما يضيء الباحث على الفترة الذهبية التي شهدها الاقتصاد الألماني واستعادته لعافيته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وامتدت من سنة 1950 إلى 1970، الشيء الذي يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل لعل أهمها: الإمكانات العلمية والتكنولوجية المتطورة (الآلات)، استفادة ألمانيا الغربية من عدد كبير من اليد العاملة المؤهلة ممن قرروا العودة إلى الوطن بعد انقضاء الحرب، توافر رأس المال باعتباره شرطا ضروريا لتحريك عجلة الإنتاج الصناعي (الدور الذي لعبته المعونات الأمريكية وبرنامج مارشال لإعادة إعمار وتأهيل الاقتصادات الأوروبية).
وعموما، تتمثل قوة الاقتصاد الألماني في التركيز على التصدير وقدرة منتجاته وسلعه الصناعية على النفاذ إلى الأسواق الدولية بفضل إتقانها وجودتها العالية، إذ تتكون الصادرات الألمانية بشكل رئيسي من السيارات والآلات والمنتجات الكيميائية والأجهزة الكهربائية الثقيلة، وهي صناعات ثقيلة كان لها إسهام كبير في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة.
وعطفا على ما تَقَدَّم، تتبنى ألمانيا نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي مثلما طرحه الاقتصادي الألماني ألفرد مولر، وهو نموذج يتبنى المسلك الليبرالي في إدارة الاقتصاد وفق قوانين السوق بعيدا عن تدخل الدولة وتحديدها للأسعار والأجور، لكنه بالمقابل يراعي الجوانب الإنسانية والاجتماعية (سياسة ضريبية عادلة، الإنفاق الحكومي على القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم). وعليه، اقتنع الألمان بأن اقتصاد السوق التنافسي هو الخيار الأفضل لأنه يشجع على الإبداع والابتكار، لكن ذلك لا يعني ترك الحبل على الغارب، إذ يتم تأطير السوق بقوانين صارمة تسهر على تنفيذها هيئات رقابية لضمان عدم الانزياح إلى ممارسات احتكارية تقوض المنافسة وتخدم مصالح القلة الثرية.
عوامل نجاح التجربة النهضوية الألمانية
عطفا على الاعتبارات الاقتصادية التي سبق التطرق إليها، ثمة عوامل أخرى تفسر إلى حد بعيد نبوغ النموذج الألماني، وتتراوح بين ما هو سياسي وثقافي وقيمي، بالإضافة إلى نجاعة النظام التعليمي المتبع في ألمانيا.
وفيما يخص العوامل ذات الصبغة السياسية والمؤسساتية يمكن الإشارة إلى أن الألمان استفادوا من دروس تاريخهم، إذ اهتدوا إلى النظام الفيدرالي كحل أنسب لتدبير الاختلافات المحلية والجهوية في إطار ديمقراطي دون المساس بالوحدة الوطنية، نظرا إلى تاريخ الصراع والتناحر بين الدويلات الألمانية قبل أن تصبح ألمانيا دولة قومية موحدة. وصولا إلى عامل مهم يتمثل في وجود إرادة سياسية قوية تعبر عنها برامج الأحزاب المتنافسة والتزامها الثابت بدعم الصناعة الوطنية وفتح الآفاق أمامها خارجيا، الشيء الذي تجسده السياسة الخارجية الألمانية المتصفة بالبراغماتية والمؤطَّرة بالمصلحة الوطنية والأوروبية تحت غطاء المظلة الأطلسية - الأمريكية.
أما بالنسبة للعوامل المقترنة بالثقافة والمنظومة القيمية الألمانية، يمكننا ذكر أبرزها على النحو التالي:
- دور الدين الإيجابي كمحرك للنهضة باعتباره مصدر القيم الأخلاقية للمجتمع التي تعزز الشعور بالمسؤولية والواجب.
- الثقافة الإبداعية ومن تجلياتها العدد الكبير لبراءات الاختراع المسجلة، بحيث تتسم الشركات الألمانية بقدرة كبيرة على الإبداع والتجديد لمسايرة مستجدات السوق العالمية بفضل الاستثمار الهائل في البحث العلمي والرأسمال البشري.
- نظام تعليمي متطور على كافة المستويات (الأهداف والفلسفة العامة، البنية التحتية، الطابع العملي من خلال ربط مخرجاته بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي... الخ).
***
بقلم: صلاح الدين ياسين