قراءة في كتاب
علي حسين: مئة عام على صدور كتاب "كفاحي.. الشر ما يزال يتربص بالعالم"

لقد جعلني القدر أولد في (برون) وتقع هذه المدينة الصغيرة على حدود هاتين الدولتين الألمانيتين اللتين تبدو إعادة اتحادهما لنا العمل الذي يجب علينا القيام به، يجب أن تعود النمسا الى أحضان الأمّ الألمانية الكبيرة". بهذه السطور يبدأ أدولف هتلر كتابه الذي وضع له عنوان " معركتي " وترجم الى العربية بعنوان " كفاحي "، والذي كتبه في السجن بعد أن صدر حكم بحبسه لمدة خمس سنوات لاشتراكه في محاولة انقلاب في ميونيخ عام 1923، وقد قسمه المؤلف الى قسمين، الأول يروي فيه سيرته الذاتية، والثاني يقدم من خلاله مفاهيمه السياسية، ولم يلق الكتاب عند صدوره اهتماماً من السياسيين لكنه انتشر بسرعة في المانيا، وسخر منه القائد الفاشي الإيطالي موسوليني وهو يقول:" كتاب مضجر، لم أتمكن أبداً من قراءته، إن الأفكار التي يعبّر عنها هتلر في هذا الكتاب، ليست أكثر من كليشيهات شديدة العادية".
وقبل الحديث عن الكتاب يجب تبيان أن مؤلفه أراد منه أن يكون أشبه ببيان دعائي، مزج فيه بين سيرته الذاتية مع نظرته المتدنية للشعوب الأخرى وتأليه العنصر الآري " الذي هو أصل الشعب الألماني"، فالسمة الأساسية في الكتاب، هي وضع برنامج للسيطرة على العالم من خلال تصنيف الأمم والشعوب درجات درجات، مع وضع الشعب الالماني في أعلى المستويات.
العام 1889، هو العام الذي ولد فيه الرجل الذي كان يعتقد أن الإرادة الإلهية اختارته للتبشير بتفوق الجنس الآري، وقد اختار في بداية الأمر دراسة الفنون وخصوصاً الرسم، في الثالثة عشرة من عمره يعثر على كتاب " خطابات الى الأمة الالمانية " لفيشته، وتظل عبارات الكتاب عالقة في ذهنه يرددها مع نفسه، كان فيشته قد كتب أن:" الفكر الألماني سيفتح مناجم جديدة، وسيدخل النور والضوء الى كل هاوية، وينسف كتلاً هائلة من الأفكار، سوف تستخدمها العصور القديمة لتبني لنفسها بيوتاً. ستكون العبقرية الأجنبية النسيم اللطيف، أما الفكر الألماني فسيكون النسر، الذي يرفع بجناحه القوي جسمه الثقيل، ويطير طيراناً قوياً مارسه طويلاً، فيحلق من أعلى إلى أعلى لكي يقترب من الشمس التي يسحره تأملها ". في الخامسة عشرة من عمره يتوفى ابوه وبعد عامين يفقد أمه، فيقرر الرحيل الى فيينا، لا يحمل معه سوى حقيبة ملابس داخلية وتصميم على أن يصبح شخصية مرموقة.
يفشل في دراسة الرسم، فيقرر أن يصبح مهندساً معمارياً، وفي هذا الاختيار يفشل أيضاً، فيقرر أن يجرّب حظه في السياسة، يكتب في دفتر يومياته: " لا ينال النجاح في السياسة إلا من يكون خشناً ومتعصباً، فالجماهير تنفر من الضعفاء والفاترين وتخضع للرجل القوي، الكامل الصفات، المتعصب، الذي يوقع الخوف في القلوب، ويمارس الإرهاب "، بل إن الشاب هتلر يذهب أبعد من ذلك، حيث ينتهي الى نتيجة تقول إن الديمقراطية فاسدة من جذورها:" إنها بالنسبة إليّ هذا الطاعون العالمي بمثابة الحقل الزراعي الذي يمكن للوباء أن ينتشر فيه ". في العام 1912 كان قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره، بلا عمل يسترزق من رسم لوحات مائية للمارة في ميونيخ، في العام 1914 تنفجر الحرب العالمية الأولى ويصيح هتلر فرحاً: " لم تكن مفروضة على الجماهير، والله شاهد على ذلك بل العكس، كان يتوق إليها الشعب. في العام نفسه يُنجز كتاب أوزفالد شبنجلر "تدهور الحضارة الغربية" الذي يقرأه هتلر بعد سنوات فيرسل رسالة الى شبلنجر يخبره فيها أن أفكارهما واحدة فلا بد لألمانيا من:" أن تنتصر..أنا متفائل.. سننتصر"، لكن مع منتصف عام 1918 بدأت القوات الألمانية تتراجع، وبنهاية تشرين الأول استسلم جميع حلفاء المانيا، وكانت الجيوش البريطانية والفرنسية تقترب من الحدود الألمانية، بدأت المدن الألمانية تتمرد، الامبراطور الألماني غيليوم الثاني يتنازل عن العرش، الأفكار الثورية تنتشر بسرعة، العمال يريدون جمهورية مثل السوفييت، ولم يكن أمام الجيش الذي عاد منكسراً إلا طريق واحد هو سحق التمرد في ميونيخ وبرلين والمدن الأخرى، كان هتلر ينتظر الفرصة يشاهد ما يجري ويكتب: " في هذه الليالي ولد في نفسي الحقد، الحقد على صانعي هذا الحادث ".. في تلك الأيام يتقدم للتعيين ويعين ضابطاً في جيش الرايخ مهمته رفع معنويات الجنود، بعدها ينظم الى حزب مغمور اسمه حزب العمال الألماني، وقرر أن يعيد تنظيم الحزب، فغير اسمه الى حزب العمال الألماني الوطني – الاشتراكي، ووضع برنامجاً جديداً، وشعاراً عبارة عن صليب معقوف، في التاسع من تشرين الثاني عام 1923 يشترك مع الجنرال لودندورف في محاولة انقلابية فشلت فشلاً ذريعاً، وأدت الى مقتل العشرات من عناصر الحزب والى اعتقال هتلر حيث أصدرت السلطات المحلية بياناً وصفت فيه الإنقلاب بأنه من تدبير:" عصابة من المتمردين المسلحين، عهدت بمصير ألمانيا إلى السيد هتلر الذي لايحمل صفة مواطن ألماني إلا منذ وقت قصير ". كانت المغامرة قد بدأت في اللحظة التي ألقي فيها القبض على هتلر الذي صارت له صورة " البطل المغدور السيئ الطالع "، ورغم أن الحكم خفض من خمس سنوات الى ثلاثة عشر شهراً، إلا أنه قرر الانتقام، وبدأ يخطط لتحقيق مشروعه القديم، كتاب يرسم به أفكاره، وكان لديه مرافق يقوم على خدمته اسمه أدولف هس، وكانت هناك سيدة وقعت في غرام هتلر تزوره كل أسبوع تحمل معها بعد ان تنتهي الزيارة بعض وريقات مخطوطة من كتاب سمي فيما بعد " معركتي أو كفاحي " تذهب بها الى مطبعة قديمة في أحد شوارع ميونيخ.
في الخامس والعشرين من شباط 1920 نشر هتلر مقالاً في إحدى الصحف الألمانية التي لم تكن معروفة عرض فيه فكرته عن العرقية وأصرّ على أن:" ذوي الدم الألماني، هم وحدهم مواطنون في الرايخ "، وفي المقال يدعو الى إقامة الدولة العرقية التي من شأنها أن تجعل الفرد السليم وحده يقوم بالانجاب، أما الاخرون فإنها ستنزع منهم القدرة على التوالد: "لو أن الأفراد المنحطين جسدياً قد حرموا لمدة ستمائة سنة من القدرة على التوالد فإن البشرية، ستتمتع بصحة لا تستطيع اليوم أن تكوِّن فكرة عنها إلا بصعوبة ".
صدر كتاب هتلر، في جزأين عام 1925، وأشار فيه الى أنه سيرة ذاتية، لكنه كان من خلاله يبث خطاب الكراهية للأجناس الأخرى، وان يعلن تهديده للبشرية، والكتاب يعده الباحثون اليوم درساً عملياً في التطرّف وتشكيل الأحزاب التي تقوم على مبدأ العنصرية، والغريب أن الكتاب بيع أثناء صدوره أكثر من 250 ألف نسخة، وبعد تسع سنوات عندما وصل هتلر الى السلطة عام 1933 وحتى لحظة انتحاره عام 1945 بيع أكثر من عشرة ملايين نسخة، مع ملايين أخرى كان النازيون يوزعونها على الشباب، حتى أن غوبلز أصدر قراراً بأن يهدى الكتاب الى كل عروسين جديدين.
وقد أجمع الباحثون على أن هتلر في الكتاب لم يكن أكثر من رجل دعاية، ففي واحدة من صفحات الكتاب نقرأ: " إن قبول الجماهير لما يسمعونه محدود جداً، وذكاؤهم بسيط، ولكن قدرتهم على النسيان هائلة، ونتيجة لهذه الحقائق يجب أن تكون كل الدعاية الفاعلة مقتصرة على بضع نقاط قليلة، ويجب أن نضرب على وتر هذه الصيحات باستمرار حتى يفهم الجمهور ما تريد منه أن يفهمه بصيحاتك " ويؤمن هتلر بالدعاية ويعترف أنه " يمكن بالدعاية اللبقة والقاطعة جعل الجمهور يؤمن بأن الجحيم هو الفردوس ".
يقرر المؤرخون أن هتلر لم يفهم شيئا من التاريخ، ويؤكد علماء الأجناس أن آراءه في العرقية مجرد هراء، بينما يعتبر علماء التربية أن آراءه في التعليم تعود للعصور الوسطى.. كان هتلر نصف متعلم، خليطاً من عدة تأثيرات، ميكافيللي وفيشته، وأضاف اليهما قراءته المتكررة لكتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت ".
في مكتبة هتلر التي عثر عليها بعد انتحاره في الثلاثين من نيسان عام 1945، مجموعة كبيرة من الكتب، قيل إن هتلر كان قد جمعها، وكان يقرأ كل مساء، وقد تبين أنه كان معجباً بشكل كبير برواية دون كيخوته لثيرفانتس. ولديه أكثر من نسخة منها وأعاد مراراً قراءة كتاب مغامرات روبنسون كروزو لدانيال ديفو، وهناك نسخ عديدة من كتاب الأمير لمكيافيلي، ويبدو أنه كان يضع خطوطاً على الفقرات التي تعجبه من الكتاب، فوجد الباحثون خطوطاً حمر تحت هذه العبارة التي كتبها مكيافيلي في كتابه الأمير:" انتقلنا الآن الى التفكير في ما ينبغي عليه سلوك الأمير ومواقفه إزاء رعيته، أعرف أن كثيرين كتبوا عن هذا الموضوع، ولكن دعني أسأل سؤالاً: " هل من الأفضل أن يكون الحاكم محبوباً أم مرهوب الجانب ؟ ولكن نظراً لصعوبة تحقيقهما معاً، وإذا كان لابد من الاختيار فإن الأكثر أماناً أن تكون مرهوب الجانب من أن تكون محبوباً، فثمة ملاحظة نلمسها لدى الناس بعامة أنهم جاحدون متقلبون مخادعون حريصون على تجنب المخاطر، يقتلهم الجشع واذا كنت نافعاً لهم فكلهم معك، يفتدونك بدمهم وأموالهم وحياتهم ما دام الخطر بعيداً، ولكن إذا ما دنا الخطر انقلبوا عليك. "
بعد مئة عام على صدور كتاب " كفاحي " تعيش اوربا ومعها امريكا على وقع صعود أشكال جديدة من التطرّف الفكري تغذيه الاحزاب اليمينية المتطرفة.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية