قراءة في كتاب
مصطفى غلمان: الفيلسوف ابن ساعته.. فلسفة الزمن الأخلاقي والمرابطة الفكرية
الفلسفة كفعل وجودي: في كتابه الأخير "الفيلسوف ابن ساعته"، يقدم الفيلسوف المغربي الكبير طه عبد الرحمن بيانًا فلسفيًا أخلاقيًا متواصلًا، لا يكتفي بالمقام النظري، بل يضع الفلسفة في قلب التجربة الوجودية للإنسان، ويعيد إليها وظيفتها الروحية العميقة. هذا النص هو أكثر من مجرد تأمل. إنه تجربة فكرية حية، تتشابك فيها الأسئلة الكبرى حول معنى الوجود، والمعضلات الأخلاقية، وعلاقة الإنسان بزمنه، وعلاقته بالآخرين. الفيلسوف، وفق طه عبد الرحمن، ليس كاتبًا يقدّم أطروحة محكمة، بل مرابط على حافة الزمن، يحرس ما تبقى من المعنى في عالم تتفكك فيه المراتب التقليدية للقيم والمعرفة.
المفارقة الجوهرية التي يطرحها الكتاب هي التمييز بين كون الإنسان ابن عصره وكونه ابن ساعته. فالساعة عند طه ليست مجرد لحظة ميكانيكية قابلة للقياس، كما رأى برغسون في نقده للزمن الرياضي، بل هي لحظة أخلاقية، زمن الفطرة، الذي يضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع الشر ويجعله مسؤولاً أمام ضميره. الساعة التي نحملها في أيدينا آلة بلا قلب، أما الساعة التي نحملها في ضمائرنا فهي التي تعيد للزمن نبضه، وتستدعي الفيلسوف للحراسة، لا للشرح للرباط، لا للمراقبة الباردة.
في صميم هذا النص، يتبدى سؤال فلسفي مركزي: ماذا يبقى من الفيلسوف حين تنهار المعاني التقليدية والقيم الكبرى؟ . ولأول وهلة، يبدو هذا السؤال متصلًا بظلال نيتشه حين أعلن موت الإله، وبقلق هايدغر حول نسيان الوجود، وبصمت ليفيناس الذي جعل وجه الآخر منقذًا من عبث العالم. لكن طه عبد الرحمن يختلف عن هؤلاء؛ فهو لا يضع الفيلسوف في موضع الراصد السلبي أو الناحي، بل في موضع المرابط، الذي يقف على محور الزمن الأخلاقي، متصدياً للشر المطلق، ومستبقاً للانهيارات، شاهداً على الانكسارات وفاعلاً لإعادة بناء المعنى.
الفيلسوف، في هذه الرؤية، لا ينتمي فقط إلى عصره، بل إلى ساعته الأخلاقية، وهو الزمن الذي يختبر فيه الإنسان قدره، ويتحمل مسؤولياته الأخلاقية في مواجهة الانحلال الرمزي والعدمي. وهكذا، تصبح الفلسفة فعل حياة، لا مجرد نظرية، ويصبح الفيلسوف شاهداً وفاعلًا في الوقت نفسه، حيث يقيم المعنى في قلب التجربة الإنسانية.
الثغور الخمسة: أفق الفلسفة الائتمانية
يحدد طه عبد الرحمن خمسة ثغور أساسية تشكل البنية المعرفية والفلسفية لكتاب "الفيلسوف ابن ساعته". هذه الثغور ليست مجرد مواقع ضعف، بل هي نقاط قوة، مواقع مرابطة للمعنى، وأفق لتفعيل الفعل الأخلاقي.
أولاً: ثغر العقل
يبدأ طه من تجربة نكسة 1967، حيث انكسر العقل قبل السيف. هذا الانكسار يعكس ما أشار إليه فوكو حول أزمات أنماط التفكير التي تسبق انهيار المؤسسات الاجتماعية والسياسية. السؤال عند طه لم يكن لماذا انهزمنا، بل لماذا انهزم عقلنا؟ من هذا السؤال، يولد مشروع إصلاحي يجمع بين التفكر والتعمل، أي بين الفكر والفعل، على غرار المدرسة البراغماتية لديوي، التي ترى أن الفكر لا يكتمل إلا في الفعل.
ولتحرير العقل، يقترح طه امتلاك عدتين أساسيتين: عدة المنطق كأداة لتحليل النصوص والتفكير النقدي، وعدة فلسفية لتحرير العقل من الانبهار والتقليد. هذا الجمع يمكن العقل من استعادة عدته البيانية، التي توفق بين المعقولية والمعنى، في تقاطع مع التأويلية الحديثة كما عند غادامير، ويتيح له المشاركة الفعالة في بناء الزمن الأخلاقي.
ثانياً: ثغر التراث
يطرح طه سؤال التراث باعتباره موقع مواجهة مع الإرث الحداثي الأوروبي، من ليڤي-ستروس إلى مدرسة الاستشراق، لكنه يتجاوز الانشغال بالدفاع إلى بناء المعنى. التراث لا يجب أن يكون مجرد موضوع دفاعي، بل مصدر إنتاج معرفي وروحي.
طه يدعو إلى تثغير التراث: جعله خط دفاع ومساحة إنتاج، وليس مجرد أداة لتبرير الذات. هذا الرأي يتقاطع مع تشارلز تايلور في أهمية الهوية الثقافية في تشكيل الذات الحديثة، ومع بنيامين في تأملاته حول الماضي الذي "يومض في لحظة الخطر". التراث، وفق طه، ليس ما نكرر، بل ما يواصل فعله فينا، وما يبقي قدرة الإنسان على مقاومة الانحلال الفكري والثقافي.
ثالثاً: ثغر الحداثة
الحداثة قوة بلا قلب، عقل بلا روح، وتقنية دون حكمة، تضع الإنسان في أفق مادي ضيق. هذا النقد يلتقي مع فكر هايدغر الذي رأى في التقنية تحول الإنسان إلى "مورد"، ومع هابرماس الذي حذر من انفصال الحداثة عن العقل التواصلي.
لكن طه يميز بين روح الحداثة، التي توقظ العقل والإرادة، وبين تجلياتها التاريخية والمادية، التي تحصر الإنسان في بعد مادي ضيق. الحل ليس رفض الحداثة، بل استعادة روحها عبر ربط العلم بالأخلاق، والعقل بالإيمان، بما يشبه مشروع "العقل المندمج بالقيمة" كما عند برغسون وتيلار دو شاردان. هذا الربط يتيح للإنسان التقدم دون فقدان بعده الأخلاقي والروحي.
رابعاً: ثغر الأخلاق
أخطر أمراض الحداثة هو فصل الأخلاق عن العلم والسياسة والفن والإيمان، وهو ما يطلق عليه طه "داء الفصل". في هذا الإطار، تتقاطع رؤيته مع ليفيناس الذي جعل الأخلاق "أول فلسفة"، ومع زيغمونت باومان في نقد الحداثة السائلة التي تفكك الثوابت وتترك الفرد عارياً.
ويرى طه أن الأخلاق لا تشفى إلا بإرجاعها إلى أصلها الميثاقي، الذي يعيد الربط بين الإيمان والعمل، والوعي بالفعل. ومن هذا المنظور وُلدت الفلسفة الائتمانية، التي تتجاوز العلمانية بالوصل، وتعيد الإنسان من الانقسام المستمر بين التقدم والتقوى، بين العقل المتضخم والروح المنطفئة.
خامساً: ثغر الشر المطلق
الهاوية التي يطل منها الإنسان على ذاته، حيث الشر لا يمثل نهاية الطريق، بل مواجهة الحقيقة الأخلاقية للإنسان. هذا الثغر يتقاطع مع تفاهة الشر لأرندت، ومع مفهوم الشر المتجذر لبول ريكور، ومع تحذيرات كانط حول الشر الراديكالي. الفيلسوف هنا مرابط، لا متفرج، مستعد لمواجهة الانهيارات، وحارس لما تبقى من المعنى، شاهداً على العالم المتصدع ومستبقاً لأهوال الشر.
الفيلسوف بين السؤال والرباط
طه عبد الرحمن لا يكتب لإثبات نظرية، بل ليمارس الفلسفة كفعل حياة أخلاقية. الفيلسوف ليس من يملك الحقيقة، بل من يحتمل توترها، يقف على حافة السؤال دون أن يسقط في يقين الأجوبة الجاهزة. الفعل الأخلاقي هنا ليس مجرد واجب نظري، بل تجلي للروح في مواجهة المادي والعدمي. الفلسفة تصبح تجربة للوجدان والعقل معًا، ووسيلة لفهم الذات أثناء عبورها للعالم، وليس العالم فقط.
إن سيرة "الفيلسوف ابن ساعته" تتشكل من مرابطة العقل والتراث والحداثة والأخلاق والشرّ. الفيلسوف هنا ليس متفرجا على الانهيار، بل عامل على إعادة بناء المعنى من داخله، رافعًا نبرة السؤال ومربطًا أفق الأمانة والواجب والمسؤولية. الفلسفة عند طه عبد الرحمن تتحقق كفعل حياة أخلاقية متواصلة، تتجاوز الزمن الميكانيكي إلى الزمن الأخلاقي للفطرة، وتعيد نبض المعنى في عالم فقد كثيرًا من نبضه الأخلاقي.
بهذا يكون طه عبد الرحمن قد أسس منهجية فلسفية قائمة على الرباط والمرابطة، حيث يصبح الفيلسوف ابن ساعته، مرابطاً في وجه الانحلال، شاهداً على الانكسار، ومبشراً بإمكان إعادة بناء الزمن الأخلاقي والمعنى في عالم يموج بالفوضى والتشظي.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان






