قراءة في كتاب

جاسم الفارس: الفكر المادي الجدلي في ضوء القرآن الحكيم

تنطلق الدراسة من قاعدتين رصينتين، الأولى قرآنية تؤكد على قضية علمية الا وهي العدالة العلمية وأهميتها في التعامل مع الآخر، وهي (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا ‌يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ)المائدة/8. والثانية هي تعريف علم الكلام الإسلامي للعالم بـ (انه كل شيء ما عدا الله عز وجل) وبذلك فان العالم بقوانينه /سننه هو موضوع قابل للدراسة والتحليل في ضوء أدلة العلم وأدلة القرآن الحكيم.

والموضوع هو تفاعل مع كتاب المفكر الماركسي محمد عيتاني (القران في ضوء الفكر المادي الجدلي) في طبعته الثانية الصادرة عام 1981 عن دار العودة في بيروت.

يقدم الكتاب مادة علمية رصينة في فهم القرآن الحكيم، ويعد مشروعاً فكرياً ينبغي إعادة قراءته برؤية علمية في ضوء أساسيات المنهج الجدلي القائم على التطور والتقدم، وهو ذات المنهج القرآني الذي يؤكد على التطور والتقدم في إدارة الحياة. الانسانية والحضارية، كما سنرى، من حيث اعتماده اسس المنطق الفكري لمبادئ الإسلام كما تجلت في القران الحكيم، وكذلك اعتماده اسس المعرفة الحديثة والعلم العصري، وعلى أسس العقل والاستدلال الفكري في أوسع مفاهيمه، واعتماده الفكر القرآني بصورة مجردة لا تجريدية، بغية استخلاص قوانين الفكر الشاملة من نصوص القرآن الحكيم، وقد أكد محمد عيتاني على موقف القران النقدي والعقلاني والعلمي والمنطقي والجسور جدا والحافي بمقدار لامتناهي من المحاكمة العقلية والكثير من الجزئيات التراثية الدينية السابقة زمنيا على الإسلام في سياق الكثير من آياته وسوره.

ويؤكد المفكر محمد عيتاني على القيم العلمية للفكر القراني من حيث ان مجمل تطور الفكر البشري في ما بعد فقد جاء ليعزز هذا المنطلق الإسلامي المؤسس على منهجية العقل والفكر والمعرفة، الى أن عبّر العقل البشري عن ذاته أعلى تعبير في النطاق المثالي المجرد في المجموعة المتكاملة لفكر (هيجل) وهو أعلى ما توصل اليه فكر البشري الجدلي المثالي.

والسؤال المهم الذي اثاره محمد عيتاني: لماذا الجدلية في القرآن؟ وهل حقا في القرآن الحكيم منهجية جدلية؟

نعم، المنهج الجدلي ثاوٍ في القرآن الحكيم، وهو يعالج قضايا الوجود في عالم الغيب والشهادة، وكلاهما عالمان ماديان كما سنرى.

إن تعامل الفكر الإسلامي مع (المنهج المادي الجدلي) ضرورة حضارية وعلمية ومنهجية، وتطبيقه في إطار وعي قيم القرآن الحكيم العلمية وأخلاقيات العلم القائمة على اتباع الحقيقة واعتماد الدليل (قُلۡ هَاتُواْ ‌بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) البقرة/ 111 وكذلك اعتماد العدالة العلمية التي اشرنا اليها في مدخل الدراسة.

ان الموضوعية تفرض على العقل الإسلامي أن يكون مرناً في تعامله مع الفكر الإنساني والبحث في المشتركات العلمية مع القرآن الحكيم. إذ أن القرآن الحكيم يرفض في نهجه العلمي التطوري كثيرا من الطروحات المحسوبة على الإسلام التي تختصر القول في أن القرآن الحكيم تناول علوم الأولين والآخرين، في حين إن القرآن هو منهج يقودنا إلى فهم العالم واستشراف المستقبل، فضلاً عن أحكامه العملية التي تنظم شؤون الإنسان والمجتمع. الأساسية من خلال وعي التاريخ، كما تبين ذلك آيات (السير والنظر): (أَفَلَمۡ ‌يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوب يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ) الحج/46 ومن خلال المنهج الجدلي، كما في قوله تعالى: (قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ ‌مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا) الكهف/109

يتجلى المنهج الجدلي في القرآن الحكيم من خلال موضوعات العلم والتاريخ والخلق والعمل ونظام الكون وسنن الله في الكون والتطور التاريخي، هذه الموضوعات التي ولدت بعد خلق الانسان، ذلك ان (المادة /الأرض) سبقت الإنسان:. (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/30 وخلق الإنسان بقدرات كامنة اعلاها الدماغ وبدا يتفاعل مع الوجود المادي فتكونت أفكاره ونشأت حضارته، وتوضحت مواقفه من العقل والضرورة والحتمية والحرية والجمال والابداع، وجاء القرآن الحكيم ليعزز مكانة العقل الإنساني في البناء الحضاري ويعزز الحوار كونه أحد وسائل الوصول الى الحقيقة، ويؤكد على التجربة كذلك كما في قصة إبراهيم عليه السلام في حواره مع الله تعالى وطلبه مشاهدة إحياء الموتى، ويرفض الغفلة بوصفها غياب للعقل، ويؤكد القرآن الحكيم كذلك على الحتميات التاريخية كما توضح ذلك آيات الأجل: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ ‌أَجَلٗاۖ ‌وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ) الأنعام/ 2) دلالة على حتمية الموت . ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ‌أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ ‌أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ)الأعراف/34  حتمية السقوط الحضاري ..(وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي ‌لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ)الرعد/2 حتمية انهيار الكون ..

وكذلك يؤكد القرآن الحكيم على نظام الكون المحكوم بقوانين/ سنن لا تتبدل: (لَا ٱلشَّمۡسُ ‌يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ)الرعد/ 40

وعلى قوانين التغير الاجتماعي:(وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا قرية كَانَتۡ ءَامنة مُّطۡمَئِنة يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغداً مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ)النحل/ 112

ويلتقي القرآن الحكيم مع المنهج الجدلي في العمل على إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم في ادارة قوانين الارض ومستلزماتها المادية. أما العقائد. فأمرها متروك الى الله عز وجل.

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِناً وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ‌ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ)البقرة/ 126

عالج القرآن الحكيم (ظواهر الوجود) وكذلك عالجتها الفلسفة العلمية، وكلاهما اهتما بالقوانين الفاعلة في التطور وتنظيم العلاقة مع العالم بغية الوصول إلى حقائق الكون بدقة رياضية.

إن اختلاف الفلسفات ظاهرة وجودية وتاريخية معروفة، بحكم اختلاف الرؤية إلى مباحثها المتعددة للحرية والحب والسعادة والعدل، قوى التخلف والكبت والاضطهاد لا تنظر بذات العين التي ينظر بها عشاق الحرية والحب والسعادة المناضلين من أجلها،.

وكذلك بحكم التكوين الطبقي في المجتمعات الإنسانية، فالرأسماليون لا يفكرون مثل العمال، وصناع الثقافة الذكورية لا يفكرون مثل صناع ثقافة الإنسان والجمال والحرية.

ويعود اختلاف الفلسفات كذلك إلى تحديد العناصر الجوهرية في الوجود، فكما هو معلوم إن العالم مكون من بعدين أساسيين، البعد المادي والبعد المثالي، والبعد المادي معروف هو(الكون) بما فيه الأرض ومكوناتها، وكل ما يرى بالعين المجردة، أما البعد المثالي، فهو النفس الإنسانية ومكوناته العقلية والعاطفية،

إن المادة هي السابقة على الإنسان في الوجود، وقد قرر القرآن الحكيم هذه الحقيقة،( وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَة)البقرة/30 فكانت الأرض /المادة، ثم جاء الإنسان بقدرات عقلية كامنة أظهرتها العلاقة بالأرض فبدأ يتشكل الوعي، وبدأ يتعلم من التجربة اليومية ومشاهداته للظواهر وما تحدثه الظاهرة في الوعي، سواء أكانت طبيعية أم زراعية أم مائية وما إلى ذلك، وهذا ما يؤكده القرآن الحكيم، فالإنسان يولد ولا يعلم شيئاً عن الوجود والحياة، ومن خلال انتمائه الاجتماعي للأسرة والقبيلة والبيئة، يبدأ تعلم اللغة والأشياء حوله.(وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ ‌بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلأبۡصَٰرَ وَٱلأفۡـِٔئدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) النحل/ 78  ويبدأ الوعي بالترقي، وكلما كان المنهج المتبع في إدراك العالم صحيحا، يتمكن من إدراك أسرار الوجود، من خلال (الملاحظة)، فهي طريقة صحيحة في دراسة بعض ظواهر الوجود، وقد أكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة (فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ ‌طَعَامِهِۦٓ 24 أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا 25 ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّا 26 فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّا 27 وَعِنَبا وَقَضۡبا 28 وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلا 29 وَحَدَآئِقَ غُلۡبا 30 وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّا 31 مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ 32[عبس: 24-33]

إن الرؤية الفلسفية العلمية تدرس ظواهر الوجود قاطبة، وتقدم منهجاً يعين العلوم الاخرى على الإدراك والفهم الدقيق والعميق، فما هي طرق فهم العالم في المنظور الفلسفي؟

1- الطريقة الديالكتيكية: وهي النظر الى دوائر الوجود في حركتها المستمرة المتطورة والمتغيرة

2- الطريقة الميتافيزيقية: وهي التي ترى أن جميع ظواهرالوجود جامدة . فأي الطريقتين هي الطريقة العلمية الصحيحة؟ بالتأكيد الطريقة الديالكتيكية هي الأصح ودليلها إن الكون كله في حركه وتطور وتغير، وقد اقرالقران الحكيم هذه الحقيقة:

(وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡدٖ وَإِنَّا ‌لَمُوسِعُونَ 47 وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ 48 [الذاريات: 47-49] وكذلك [إبراهيم: 32-33]

لقد حقق العلم نجاحات متعددة وعميقة ومؤثرة في المسيرة التاريخية للمجتمعات الإنسانية، فاكتشاف الخلية أثبت أن جميع أعضاء الحيوانات والنباتات تتكون من أنواع الخلايا الشتى، الأمر الذي أثبت (وحدة تركيب الطبيعة الحية)، كما اكتشف قانون(حفظ الطاقة)، والطاقة هي إحدى الخصائص الأساسية للمادة وهي القدرة على العمل ومقياس حركة المادة، وهي تتحول من شكل الى آخر ولا يمكن فناؤها في العالم، ومثال ذلك ان الطاقة الميكانيكية. تتحول عند الضرب والاحتكاك الى الحرارة. وتتحول الطاقة الحرارية في المراجل والتوربينات البخارية الى طاقه ميكانيكية وكهربائية،

وكذلك اكتشاف داروين لأصل الأنواع ومحتواه: إن الكائنات الحية والإنسان والحيوانات والنباتات ظهرت نتيجة تطور استغرق ملايين السنين،وهذا ما تؤكده القرآن الحكيم: (وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ ‌أَطۡوَارًا 14) [نوح: 14]

ويؤكد المنهج الديالكتيكي أن التاريخ كذلك في حالة حركة وتغير في المجتمعات الإنسانية شهدت مراحل اجتماعية مختلفة تميزت بأفكار معينة هي ابنة البيئة، تغيرت عبر التاريخ بحكم تغير الواقع الحضاري. يؤكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة من خلال الآيات التي تحيل العقل الانساني الى التاريخ:

(إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ ‌نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ) [آل عمران: 140] وكذلك [الروم: 9-10]

ان تغيير العالم أهم مطالب الفلسفة الديالكتيكية، وقد اكد القران الحكيم على هذه الحقيقة بتأكيده على أنه هو منهج لمن شاء ان يتقدم او يتأخر، اي هو منهج التغيير الحضاري لمن شاء أن يتقدم باتباعه، او يتأخر بهجره:

*- (نَذِيرٗا لِّلۡبَشَرِ 36 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَتَقَدَّمَ أَوۡ يَتَأَخَّرَ 37 كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ 38 [المدثر: 36-39]،

*- (إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ 27 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَسۡتَقِيمَ 28[التكوير: 27-29]

ويواصل العلم اكتشافاته، لقد وصل عدد الجسيمات المكتشفة اليوم 59 جسيمة. من نوع الهادرون زيادة على العديد من الجسيمات الأساسية مثل الكواركات واللبتونات التي تشكل الأساس للمادة.

العالم في حالة حركة دائمة، فالحركة هي شكل المادة وجوهرها، والسكون نسبي،اكون ساكناً بالنسبه إلى حركة السيارة، ولكن في سكوني تتحرك الدورة الدموية وترمش العينان، اذن العالم في حالة حركة منتظمة، وقد اشار القران الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ ‌يَسۡبَحُونَ) [الأنبياء: 33-34]

وماذا عن الزمان والمكان في الفلسفة الديالكتيكية؟

تقر هذه الفلسفة أن المكان هو شكل وجود المادة، وان التناوب هو شكل حركة العالم، الليل والنهار، الشتاء والصيف، البرد والحرارة، النظام الإقطاعي خلفه النظام الاشتراكي، كل هذه الامتدادات وهذا التناوب. لا يمكن ان يجري خارج الزمان، وبناء على هذا فإن الزمان هو الآخر شكل وجود المادة، وعليه فإن المادة تتحرك في إطار المكان والزمان، وهما متلازمان ابدا، ويشير القرآن الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ ‌هَامِدَة فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ) [الحج: 5]

حتى العالم الآخر بالمنظور الديني (الجنة والنار) هو عالم مادي، وهذه حقيقة واضحة جدا في القرآن الكريم:

*- (يَوۡمَ ‌تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] واجمل تعبير عن الوجود المادي للعالم وتغيراته المستمرة حتى الخالدون في ذلك العالم هم في تغير وحركة مستمرين.

*- (حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ ‌وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) [فصلت: 20]

تبقى قضية أخرى في غاية في الأهمية ألا وهي قضية الوعي والمادة، يذهب الفكر الديالكتيكي الى ان المادة الحية تخرج من المادة غير الحية، في فهم هذه العلاقة يتميز الوعي العلمي عن الوعي غير العلمي، المثاليون يرون أن لا علاقة بين المادة الحية والمادة غير الحية، فالمادة الحية تتحرك وتنمو وتتكاثر، في حين المادة غير الحية ليست كذلك، ولم يدرك المثاليون الطبيعة المشتركة بين الاثنين، فالعضوية الحية تتكون من مجموعة عناصر مثل الكربون والهيدروجين والاكسجين والحديد وغيرها، وهذه العناصر غالبا نجدها في العضوية غير الحية، وقد اثبت العلم ان المادة الحية نشأت من المادة غير الحية.

وقد أثبت القرآن الحكيم -من قبل - هذه الحقيقة، بخلق الانسان: مادة خلق الإنسان غير حية (التراب بمكوناته المتعددة) ليظهر الإنسان المادة الحية الواعية المفكرة بفضل الدماغ الذي يميزه عن سائر الكائنات الحية.

ذكرنا سابقاً حركة المادة، ولكن لم نذكر كيف تتحرك، اي ما القوانين التي تحكم حركة المادة؟ يجيب الفكر الديالكتيكي على هذا السؤال كما يأتي: انها قوانين الديالكتيك وهي ادوات إدراك العالم والحركة والوعي، فما هو القانون؟ إنه العلاقة التي لا تسببها الظروف الطارئة الخارجية العابرة الناتجة عن الطبيعة الداخلية للظاهرات المترابطة، وفي القانون لا تنعكس كل الصفات إنما فقط الصلات الأساسية والحاسمة، والقانون المقصود هنا هو القانون الفلسفي الموجود موضوعياً في الطبيعة نفسها، وفي المجتمع وهو الذي يسميه القرآن الحكيم بالسنّة التي تحكم حركة العالم وهذه السنن لا تعتمد على اراء الناس ووعيهم، وقد كانت هذه (القوانين/ السنن) تعمل في العالم قبل ظهور الإنسان وما زالت وستبقى...

إن الفلاسفة الذين تكلموا عن دور العقل في تحقيق النظام والتأثير في القوانين، إنما هم يقصدون القوانين الانسانية الحقوقية وغير الحقوقية. ومن القوانين الموضوعية التي يهتم بها الفكر الديالكتيكي هو قانون تحول التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية، وقد اشار القران الحكيم الى حقيقة هذا القانون بالآية الكريمة:

*- (وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا ‌بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ) [الحجر: 22 ]

*-(إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خلقناه ‌بِقَدَرٖ [القمر: 49] في هذا القدر تكون الكمية والكيفية اي ان كل كمية لها كيفية تطابقها فإذا حدث تغييرات في الكمية فإنها لا تؤثر في الكيفية ما دام تتحرك في اطار معيارها الطبيعي، اي كأن شيئا لم يحدث، إلا أنه ما إن يحدث خلل في هذا القدر، أي تتفكك عضوية الكمية حتى تتحول الى كيف جديد، وهي عملية تجري ببطء شديد، ربما لا تلاحظ في البداية، وهو ما يفعله الكيميائيون حين يبتكرون مواد جديدة لصناعة مادة جديدة. فيعملون على تكوين (بوليمترات) للحصول على مواد جديدة وكيفيات جديدة .

والقانون الثاني في حركة العالم هو قانون وحدة الأضداد وصراعها، يقر الفكر الديالكتيكي بان الأضداد هي تلك الظاهرات او جوانبها التي تنفي بعضها البعض وتبرز التناقضات بين الناس حين المواجهة والتصادم، إذن التناقض هو العلاقة بين الأضداد، اما الاضداد فهي جوانب التناقض، والفاعل في هذه العلاقة هو الصراع، وليس الوحدة، فقوى الموت والحياة كامنة في الإنسان، والصراع بينهما ينتهي بانتصار الموت. وهكذا التحولات الاجتماعية، فالجديد كامن في المجتمع القديم القائم حالياً، والصراع بين القوى الداعية الى الجديد والقوى المحافظة مستمر مرة بطيئاً وخفياً، ومرة سريعاً وعلنياً لينتهي بانتصار الجديد بالثورة الواعية.

أما القانون الثالث في الديالكتيك فهو (قانون نفي النفي) وجوهر هذا القانون هو: في عملية التطور تقوم كل درجة أعلى بنفي وإقصاء الدرجة السابقة، وترفعها في الوقت نفسه إلى درجة جديدة،و تحافظ على كل المحتوى الايجابي في تطورها . في القرآن الحكيم إشارة إلى هذا القانون عبر الآيات التي تشير الى حركة الارض وتغيراتها.

*- (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ 205 [البقرة: 205]

*- (وَضَرَبَ ٱللَّهُ ‌مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ [النحل: 113]

ان هذه التغيرات التي تحدث في الأرض، إنما هي في اطار قانون نفي النفي، فكلما استقرت المادة عند حالة جديدة نفتها حالة جديدة بفعل معين، ولسبب معين، وهكذا تتم حركة الحياة سلباً وايجاباً.

إن حوار الأفكار بغية الوصول الى الحقيقة هدف الفلسفات الكبرى وهدف اساس من اهداف القرآن الحكيم العليا في اطار اخلاقيات العلم والمعرفة القائمة على العدل العلمي والبرهان .

***

د. جاسم الفارس

في المثقف اليوم