قراءة في كتاب

مصدق الحبيب: مقدمة كتاب "تطور النظرية الاقتصادية"

- دراسة تأريخ الأفكار والآراء، تشكّل القاعدة الأولية الضرورية لتحرير العقل

- (ليس صعباً أن تأتي بأفكار جديدة، بل الصعب هو أن تتخلص من الأفكار القديمة)... جون مينرد كنز

(كل تطور أو ابتكار يبدأ مع فكرة. والفكرة قد تكون أو لا تكون! ولكن حين تبدأ الفكرة صغيرة ينبغي أن تلقى الرعاية والتنمية، وربما التعديل أو التحوير ثم التنفيذ والاختبار وإعادة التنفيذ والاختبار لحين أن تصبح قابلة للتطبيق وجاهزة لأن تعطي ثمارها وتثبت قيمتها)... جون ألان روبنسن

***

لم تأت النظرية، أية نظرية، من الفراغ. انما تجد مبررات وجودها في الواقع المعاش، فتنشأ وتتطور في صلبه. فهي وليدة الحاجة للتعامل مع متطلبات العلم والموارد الاقتصادية والمتغيرات الاجتماعية، في غمرة كفاح الانسان الدائب من اجل البقاء والسعي نحو العيش الأفضل. ولأن النظرية عبارة عن مجموعة أفكار وفرضيات خاضعة للاختبار والتطبيق، فان نتائجها في الواقع ستخضع لا محالة الى التغيير والتنقيح والتعديل من أجل الوصول الى الموائمة الأمثل بينها وبين الواقع الملموس. وبالتأكيد فإنها ستتعرض الى الانتقاد، وربما الرفض. وقد تقاوم وتحيا، او تذوي وتموت. وهذا النوع من الصراع الفكري، الصامت في اغلب الأحيان، هو الذي يبرر استمرارها ويضمن تطورها ويؤدي الى تعدد الفلسفات والتوجهات التي تقود المشتغلين بها. فلا بد، إذاً، ان يستجيب تطور النظرية الاقتصادية لتأثير الاهتمامات، الفردية والجمعية، بحاجات المجتمع. كما يستجيب غالبا للمنافع الاقتصادية لمن يمتلك اليد العليا في صياغة قوانين السياسة الاقتصادية وإقرارها، فيما إذا كانت تلك اليد المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا تشير الى طبقات اجتماعية ام أحزاب سياسية أم مجموعات تكنوقراطية لها نفوذ عال في أروقة الحكومة.

من نافلة القول، ان الأفكار التي تؤلف النظريات لا تأتي بوحي من السماء! بل هي بنات العقول. والعقول بنات الظروف والاحداث والتجارب الشخصية. ومن هنا يتجسد ارتباط الِسيَر الذاتية للمفكرين بطبيعة المساهمات ونوعيتها، التي يجودون بها في حقول الفكر الخاصة بهم. فتاريخ الفكر عموما وتاريخ النظرية بشكل خاص عبارة عن تراكم للأفكار الفردية والجماعية وتطورها بمرور الزمن بمواكبة الاحداث والظروف المختلفة، وبالتالي تحولها الى تراث فكري واضح المعالم يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والحقب الزمنية. دراسة دينامية تطور البحث، ليس في الاقتصاد فحسب انما في كل العلوم، من شأنه ان يعزز تجارب البحث الجارية والمستقبلية ويجعل من صياغة النظرية واثباتها وتطبيقها واختبارها وتعديلها اعلى كفاءة وأكثر نفعا.

وإذا كانت النظرية عبارة عن انعكاس للواقع بمتغيراته المختلفة فان هذا يستلزم استبعاد النظرة الفوقية التهكمية للنظرية باعتبارها ترف فكري وممارسة تجريدية منسلخة عن الواقع. ان ارتباطها بالواقع يتجسد عبر دورها في تزويدنا بالإطار العام لكيفية التعامل مع احداث الحياة ومتغيراتها المؤثرة الكثيرة. وهذا هو ما يساعدنا على تنمية الامكانية لغربلة البدائل وتقييمها واتخاذ القرارات الاصلح لحل المشاكل المختلفة التي تواجهنا كأفراد، وعوائل، ومؤسسات، وحكومات. سيبدو ذلك جليا حين نتأمل عددا من تلك المؤثرات في حياتنا مثل التطور العلمي والتقدم التكنولوجي، تغير الأسواق وحدوث الدورات الاقتصادية وفشل نظام السوق الحرة في تحقيق التوازن الاوتوماتيكي، انقلاب الأنظمة السياسية وتغير السلطات الحاكمة واتساع او انكماش حجم التدخل الحكومي والسيطرة على الموارد الاقتصادية، تغير ذوق المستهلك ودوره في النشاط الاقتصادي، تطور الوعي الجمعي وانبثاق حركات التحرر والاستقلال سواء على المستوى الجماهيري او مستوى الفرد والعائلة، دخول المرأة لميدان العمل وتحررها اجتماعيا وثقافيا، ازدياد تداخل الفروع العلمية فيما بينها وولادة فروع وحقول جديدة، تطوير المعالجات التكنيكية ونشوء بناء النماذج الرياضية، وأخيرا انفجار إمكانات الكومپیوتر والذكاء الاصطناعي. كل تلك المتغيرات في واقع الحياة تؤثر وتتأثر بالنظرية وتطورها في دورة مستمرة لا نهاية لها.

من خلال تجربتي الطويلة في التدريس لاحظت ان طلاب الاقتصاد قد يسمعون بأسماء كثيرة في عالم التنظير الاقتصادي وهي تتدفق في سياق دروس النظرية وتاريخ الفكر الاقتصادي ودروس اخرى. لكنني أدركت ان الفرصة نادرا ما تسنح لهم لامتلاك المعرفة الكافية التي تمكنهم من الربط في الأفكار والوقوف على تطورها عبر الزمن، وهي موثقة مع تلك الأسماء بشكل واضح ومتسلسل. ولأن الفكرة الأساسية من هذا الكتاب هي تتبع مسيرة الكيفية التي توالت عبرها الأفكار وتطورت فيها النظرية الى ماهي عليه اليوم، فإنني آثرت ان يكون تسلسل الاقتصاديين ومساهماتهم عبر نسق متتابع زمنيا Chronological. وبذلك فقد تم ادراج أسماء تلك المجموعة المختارة منهم وفقا لتسلسل تواريخ ميلادهم. وبهذا نستطيع ان نرى بشكل واضح التغييرات وحالات التشابه والاختلافات في الأفكار الاقتصادية عبر الزمن، وخلال أربعة قرون، من القرن الثامن عشر والى القرن الواحد والعشرين. لقد آثر بعض كتّاب تاريخ الفكر الاقتصادي ان يتجه الى تقسيم ذلك التاريخ الفكري بموجب المدارس الاقتصادية. نرى ذلك مثلا عند الأستاذ نيهانز Niehans الذي بدأ بالمدرسة الكلاسيكية باعتبارها تشمل كل ما كان قبل 1830، ثم المدرسة الحدية من 1830 الى 1930، تليها مدرسة بناة النماذج الاقتصادية الممتدة الى ما بعد 1930. هناك تقسيم آخر يضع كارل ماركس كآخر الاقتصاديين في المدرسة الكلاسيكية، ثم المدرسة الحدية متمثلة بشكل متميز في ڤلراس وجڤنز ومنگر، يليهم النيوكلاسيكيون والرياضيون. وأخيرا المعاصرون ابتداءً من سامولسن. شخصياً، لم أجد في مثل هذه التقسيمات غير الغموض والتشويش وغياب المعيار الواضح، مما يضع القارئ في لعبة تخمين المدارس وحقبها الزمنية، ومن ينتمي الى هذه المدرسة، ومن ينتمي الى تلك؟ ولذلك فقد فضلت ان نتناول الأشخاص ومساهماتهم بغض النظر عن الانتماء وعن تسميات المدارس وتحديد حقبها الزمنية.

تطورت فكرة الكتاب في البدء عن مقالات تعريفية قصيرة اعددتها للقارئ الاعتيادي من اجل ان تُنشر في صحف النت. كانت تلك المقالات حول مجموعة مختارة من مشاهير الاقتصاديين الذين تركوا آثارا بليغة في الفكر الاقتصادي وما تبعها من تأثيرات في الواقع الاقتصادي للأفراد والشركات والدول. فمع العدد الهائل للاقتصاديين المؤثرين عبر التاريخ يصبح من المتعذر ان يلم أي كتاب بهم جميعا او حتى بأغلبيتهم. ولذا فإنني أرى ان حسنة الكتاب هي ليست بتقديم الجمع الغفير منهم، انما بحسن الاختيار وفقا لمساهماتهم الأساسية، ووفقا لما أصبح كإجماع بين الاقتصاديين تقريبا. وبذا اطمح ان يفضي هذا الاختيار الى اقل ما يمكن من اعتراضات القارئ المتوقعة مثل لماذا وضعت هذا واستبعدت ذاك؟

من المتوقع أن يتساءل البعض عن كيفية اختيار هؤلاء الاقتصاديين، ولماذا تحدد عددهم بأربعين فقط؟ الجواب السريع المطمئِن على هذا السؤال هو ان الاختيار لم يتم عشوائيا، بل جاء بشكل رئيسي لثلاثة أسباب:

- السبب الأول، هو اننا لو نظرنا الى الأفق الواسع لتطور الفكر الاقتصادي على مدى قرون، فلابد لنا ان نقف عند حدٍ ما لتأشير البداية والنهاية، اذ لا يمكن عمليا مناقشة كل التأريخ على امتداده. البداية هنا كانت مع آدم سمث باعتباره الاقتصادي الذي نال، وربما بالإجماع، لقب "أبو الاقتصاد"، رغم وجود أفكار اقتصادية قبله، لكنها لم تتشكل بمنظومة وسياق لتكوين حقل فكري واضح كما كان الحال مع ظهور كتاب سمث الموسوم "ثروة الأمم" المنشور عام 1776. أما النهاية فلم يكن تحديدها سهلا! وكان بالإمكان ان تبقى من الناحية النظرية مفتوحة، لكنني آثرت ان أنهي سلسلة اختياري عند جوزف ستگلتز، حيث يعتبره البعض آخر النيوكلاسيكيين اللامعين الذي لا يزال على قيد الحياة. وبالتأكيد فان هذا الخيار شخصي، وطبيعي ان يختلف معه أي مؤلف آخر.

- السبب الثاني هو المتعلق بالجانب التكنيكي او اللوجستي الذي يتلخص بالرغبة في انتاج كتاب يكون من ناحية شاملا بشكل معقول، ومن ناحية أخرى يكون بحجم مناسب لتتسنى تغطية مواده خلال فصل دراسي واحد. كانت النية في البداية اختيار خمسين اقتصاديا، وقد تقلص العدد فيما بعد الى أربعين لاعتبارات الحجم هذه.

- السبب الثالث هو ما وجدته يشير الى الاجماع او شبه الاجماع في الادب الاقتصادي على تلك المجموعة المختارة من الاقتصاديين الذين تمثل مساهماتهم محطات أساسية في مسيرة تطور النظرية الاقتصادية. أستطيع ان أقول اننا لو ألقينا نظرة على الكتب الاقتصادية ذات العلاقة بهذا الكتاب ككتب النظرية والفكر الاقتصادي وتاريخ الاقتصاد وكذلك الدراسات والمقالات المنفردة حول سِيَر بعض الاقتصاديين ومساهماتهم الفكرية لوجدنا انها جميعا او لنقل الغالبية العظمى منها يدرج هذه المجموعة من الاقتصاديين الذين تم اختيارهم هنا باعتبارهم مَن أرسى الدعائم الأولى للنظرية الاقتصادية.

أعتقد بانه لا مناص من وجود الميل والرأي الشخصي في كتاباتنا، مهما حاولنا ان نلتزم بأقصى درجات الموضوعية لان ملامح الانحياز أو تلميحات النفور الطفيفة قد تظهر على السطح رغما عنا. لكنني أرى نفسي محظوظا هنا لأنني أسرد سيَرَ الاقتصاديين ومساهماتهم التي ليس فيها مجال لإبداء الذاتية إلا نادرا. وبذلك فقد حرصت كل الحرص ان ابقي ميولي وآرائي خارج تلك الحلبة.

على ان مادة الكتاب لا تنتمي لصنف المواد التي قد يقرأها القارئ مرة واحدة او يدرسها وينتهي منها، انما تنتمي لصنف المراجع التي تستعرض التاريخ وتتابع تطور الطروحات الفكرية من مفكر الى آخر. ولهذا فمن المتوقع ان يعود لها طالب الاقتصاد مرات عديدة لاستكشاف المساهمات النظرية المختلفة وضبط الأسماء والتواريخ والحوادث وملاحظة التسلسل الفكري الذي قد يربط تلك المساهمات بخيط طويل واحد. وهنا لا بد من التأكيد بأنه على الرغم من ان مواد الكتاب الأربعين قد تُقرأ كمواد مستقلة بذاتها لكن الترابط الفكري للموضوع العام وتسلسل المعالجات الفردية عبر الزمن يضيف لها العمود الفقري الذي يجعل من هذا الكتاب يبدو وكأنه قطار واحد موصول العربات.

يحتوي هذا الكتاب على مادة أراها ضرورية وواجبة لطلاب الاقتصاد من اجل وضع مواد الدروس الأخرى المطلوبة في مناهجهم في مسارها المنطقي وسياقها التاريخي، كمن يضع النقاط على الحروف لإكمال الجملة. وضرورتها تتجلى في هدفها لاستكمال خارطة المعرفة الاقتصادية في المرحلة الجامعية.

لا أستطيع أن أدّعي بأن الكتاب يعوّض عن كورس شامل ومركّز في تاريخ الفكر الاقتصادي، بل انني أرى أهميته كمادة مساندة لمواد ذلك الكورس، من شأنها ان تتناول مسيرة تطور الفكر الاقتصادي من زاوية مختلفة. زاوية يمتزج فيها الذاتي والموضوعي، ويصبح موضوع الابداع الفكري مثل سباق التتابع (البريد) الذي يأخذ فيه المفكّر الاقتصادي العصا ممن قبله، ويعدو بها بجد وحماسة، ليناولها الى المفكّر الذي يليه. وهكذا يتواصل طريق التقدم الفكري في ميدان أبدي. على انني أرى ان التوقيت المثالي لدراسة هذا الكتاب هو السنة الأخيرة من البكالوريوس والسنة الأولى من الدراسة العليا. وبهذا يكون الطلاب المتهيئون لدراسة هذا الكتاب قد استوعبوا من قبل المعلومات الكافية خلال دروسهم السابقة لتكوين الخلفية الضرورية لربط تلك المعلومات الأولية سوية واستنتاج المعنى الأمثل منها في الاجراء المنهجي الذي نسميه Capstone project. في هذا المجال أشعر انني مدين لدراستي وتجربتي الطويلة مع الاقتصاد كطالب أولا، وكأستاذ وباحث ومشرف لاحقا. هذه التجربة التي لها الفضل الكبير في اعانتي على الالمام بهذا التاريخ الطويل من التطور في الفكر الاقتصادي. على انني لا أزعم خلو هذا الكتاب من الهنات والاخطاء، وربما مواضع من سوء الفهم والتقدير أحيانا. فكل ما يرد فيه من هذا القبيل هو مسؤوليتي الشخصية ومن صنيعي وحدي، وهذا ما اعتذر عنه مقدما.

 في الختام لابد من القول بأنني مدين أيضا بالشكر الجزيل والامتنان لأخي وصديقي الدكتور محمد الأزرقي، الأستاذ المتمرس في كلية ماونت هوليوك، الذي واكب مشروع الكتاب من البداية وحرص على حثي وتشجيعي للاستمرار خلال الفترات التي انقطعت فيها عن العمل به. وهو الذي قرأ مسودة الكتاب من الغلاف الى الغلاف وشاركني في مناقشة بعض المواد، وجاد بملاحظات قيمة، إضافة الى تكرمه بكتابة التعريف المختصر الذي يظهر على غلاف الكتاب الخلفي.

أود ان أقدم الشكر الجزيل لصديقي الاثير وزميل دراستي في بغداد الدكتور صلاح حزام، الخبير الاقتصادي في المجلس الأعلى للتخطيط في سلطنة عمان. الصديق الذي لم ينقطع عن التواصل معي ومشاركتي هموم المهنة واخبارها خلال الأربعة عقود الماضية، رغم البحار التي تفصل بيننا. وهو الذي تكرم أيضا بقراءة مسودة الكتاب كاملة وتفضل بكتابة التقديم للكتاب والتعريف به.

في عودة الى بدايات دراستي في قسم الاقتصاد بجامعة بغداد، يقتضي مني واجب الوفاء أن استعيد بآيات من المحبة والعرفان ذكرى استاذي الفاضل الدكتور إبراهيم كبة الذي درست على يده مادة تاريخ الفكر الاقتصادي وتعرفت خلال محاضراته الثرة على أسماء اغلب الاقتصاديين المذكورين وأدوارهم هنا. فلروحه الطيبة الطمأنينة والسلام الابدي.

***

مصدق الحبيب

Granby, Massachusetts

November 17, 2024

في المثقف اليوم