قراءة في كتاب

ابتسام يوسف الطاهر: روناك شوقي "اورورو" المسرح العراقي المغترب

اضاءة على رسائل في الوجع والمسرة للمخرجة روناك شوقي

 اعتدت ان اقرا الكتاب الذي يعجبني مرتين لا كتب عنه، لكن استعارتي لكتاب روناك شوقي (رسائل في الوجع والمسرة) الصادر عن دار المدى، فرض عليّ اعادته واحتفظت ببعض الملاحظات عنه. اذن هي قراءة او اضاءة بسيطة لما وجدت فيه من متعة القراءة ولما فيه من مسرات واوجاع المسرح العراقي خاصة في الغربة واوجاع الفنان العراقي. بل اوجاعنا نحن الذين ابتلينا بالاغتراب المزمن!

فتحت لنا الفنانة روناك خزائن قلبها بكرم لم نعهده في كتب السير الذانية العراقية. ففي مجتمعنا وبين مثقفينا يصعب على الكاتب ان يحكي عن يومياته او مذكراته بشكل مباشر وصريح.. خاصة اذا كان المبدع متواضعا ومتميزا بحيائه. لذلك لجأت الفنانة روناك الى سلوب الرسائل جعلت من مذكراتها رسائل تبعثها لقاريء مجهول، أي لنا نحن القراء.. كتبتها باسلوب سلس وقريب من القلب "نعم ايها الصديق، بحثت عن الصديقة او الصديق الذي اتمتع معه بسرد يومي وتفاصيل حياتي وافكاري التي تتارجح بين اثبات الذات وتفسير ما يحيطني، فلم اجد، خصوصا في هذا الزمن الذي نعيش فيه الوحدة والوحشة.. وتردي العلاقات الانسانية.." ص 11

فكانت هذه اول الاوجاع التي يعانيها المغترب العراقي لتشتت الجالية العراقية ربما، ولافتقادها للمركزية اي لمن يحتضن الجالية كعائلة كبيرة.

فجاء الكتاب ليس مذكرات فقط عن تجربتها المسرحية بل وثيقة تاريخية عن تجربتها مع المسرح العراقي في العراق لغاية نهاية السبعينات وبعدها تجربتها في موانيء الغربة. وبلغة هادئة حكت عن تجربتها في الحياة، عن طفولتها وشبابها، سلطت خلالها شمعة انارت عتمة الذاكرة عن احياء بغداد القديمة، عن الحلم والامل، عن دخولها عالم المسرح الباهر. عن مسراتها القليلة واوجاع المسرح الكثيرة. بل ممكن اعتبار كتابها كوثيقة تاريخية ارشفت لتلك المرحلة منذ بدايات دخولها عالم التمثيل والاخراج، وارفقته بصور عديدة لكافة المراحل.. ولكن للاسف كانت الصور ابيض واسود، كان الاولى (بالناشر) ان يعتني بهذا الامر اكثر من اهتمامه بالربح المادي، لاهمية التوثيق لتلك المراحل المهمة في المسرح وحياة المخرجة روناك شوقي.915 ronak

روناك شوقي مخرجة وممثلة معروفة في اوساط المثقفين وجمهور المسرح العراقي فهي ابنة عائلة معروفة بعطائها الفني والدها الفنان المعروف خليل شوقي واختها الممثلة المسرحية المعروفة مي شوقي. تميزت روناك في الاغتراب بالاصرار على التحدي ومواصلة العطاء بالرغم من ظروف الغربة الصعبة التي تواجه الانسان العادي فما بالك بالفنان! لكنها عرفت بنشاطها المسرحي وقدمت العديد من المسرحيات في سوريا ولندن منها هبوط انانا، كلكامش، الموت والعذراء، راكبو البحر ومسرح ..حلم وغيرها من المسرحيات التي استعانت خلالها ببعض المواهب الشابة التي لم يكن لها تجربة في التمثيل لكنها نجحت في اطلاق مواهبهم تلك فهي بالنسبة للمسرحيات التي قدمتها اخراجا وتمثيلا، كانت اشبه باورورو الهة الخلق في ملحمة كلكامش التي ذكرتها في كتابها (رسائل في الوجع والمسرة) “اخذت قبضة طين وعجنتها بالماء ونفخت فيها روح الحياة” ص 179

فهي لم تستسلم لظروف الحياة والتزامها الوظيفي في المؤسسات الاعلامية حيث عملت في لندن منذ قدومها في اوال التسعينات من القرن الماضي. بل اتخذت من وظيفتها وسيلة لتوفير المال لانتاج المسرحيات التي قدمتها، بعيدا عن الممولين الذين قد يفرضون عليها شروطهم. ثم اسست ستوديو الممثل في لندن ، لكن اشكالات العمل اداريا وماديا شكلت عبئا عليها، فحاولت ان تجعلها مؤسسة ثقافية خيرية للحصول على دعم الدولة البريطانية. لكن التزامها الوظيفي لم يتح لها الفرصة لمتابعة المشروع. كان الاولى ان يبادر صديقا ما لمساعدتها في متابعة ذلك المشروع، على الاقل من الفنانين المغتربين العراقيين. وكان ذلك ربما الوجع الاهم الذي يعانيه الفنان العراقي اضافة للاوجاع الاخرى التي يعيشها او يواجهها الفنان المغترب، وحتى الفنان العراقي في داخل الوطن في محنته مع التعتيم الاعلامي واهمال الدولة لهم، وافتقاد العراق لمن لهم روح وطنية فنية يستثمرون اموالهم في منح المواهب فرصة لاعلاء كلمة الفن العراقي، سواء في السينما او المسرح او التلفزيون.

في فصل اساتذتي تحكي عن وجع الاهمال المقصود ربما، لتراثنا الفني "لماذا لا نخلد عظمائنا؟ كل العالم يحتفل بذكرى مبدعيه من اجل ان تتذكرهم الاجيال المقبلة الا نحن...نحن لا نملك ذاكرة جماعية، ولم نتعلم من تجارب الشعوب الاخرى كيفية احترام مبدعينا، كيف نجعل وجودهم حيا متجددا؟ مع الاسف كل شيء في وطني رخيص وعابر لذا اعلنت انسحابي من المسرح رغم انه مازال لدي كم هائل من القدرة والخيال والافكار" ص354

 في مسرحية -مسرح.... حلم – التي اخرجتها عام 1999 في لندن والماخوذة عن مسرحية لتشيخوف اغنية التم، "المسرحية تحكي قصة ممثلة مشهورة في ليلة تكريمها تركوها منسية في زاوية معتمة من المسرح "ص182.

كما لو هي تحكي عن التعتيم الاعلامي الذي يعاني منه المبدعون العراقيون على كافة المستويات، ماعدا القلة من المشاهير. وكذلك تجربتها هي كمخرجة وممثلة لم تحظ بما تستحق من اهتمام وتكريم. لكن هذا لم يثنها عن رسالتها الفنية في المسرح، فقدمت العديد من المسرحيات في كل محطات الاغتراب في سوريا ولندن بشكل خاص، منها : شهرزاد، ابيض واسود، وحشة وقصص اخرى، همس الياسمين، ومسرحية على ابواب الجنة. "سعيت الى التجريب في اساليب التعبير عن عالمين: الخارج حيث الطبيعة وجمالياتها المجسدة سينمائيا كلغة، والداخل حيث التعفن في التقاليد والعادات.." ص185

مسرحياتها العديدة تتحدث عن تجربتها وعن اسلوبها في الاخراج ورؤياها في التمثيل واختيار الموضوع "ارى المسرح رؤية تنضج مع البروفة.. لا احب التنظير في المسرح.."

ربما هو تواضعها ومسحة الخجل التي رافقتها تجعلها تستثقل التنظير لمسرحياتها. وربما تلك الصفة حرمتها من التحاور مع الاخر والاقتراب منه في حياتها اليومية، ففي جولتها اليومية تصف عجوزان انكليزيان تراهما يوميا بصحبة كلبهما خلال مشوارها اليومي مع كلبها ، والكلاب في لندن ، حقيقة، لها الدور الكبير في التعارف والتحاور مع من نشاركهم لندن منذ اكثر من ثلاثين عاما مع ذلك نفتقد للعلاقات الاجتماعية الانسانية معهم. تلاحظ غياب المرأة فتخمن انها ربما رحلت عن الحياة "كان ملزما بأن ياخذ كلبه عسى ان يجد خطواتها مرسومة هناك، حزنت كثيرا وشعرت بان الارض لم تعد كما عهدتها ..طيبة.." ص 198

يحز في النفس ان تعرف الكثير عن السينما والمسرح المصري او اللبناني والسوري، بينما لا تعرف سوى القليل عن السينما او المسرح العراقي، او الاعمال التلفزيونية، او عن الممثلين العراقيين خاصة الجيل الجديد سواء داخل الوطن او من المغتربين.

فقد رايت بين الشباب العراقي ابداع في التمثيل من خلال فيديوات من التي ابتدعها اليوتيوب، ولكن للاسف لم يلتفت لها صناع السينما ولا المعنيين بانتاج الاعمال التلفزيونية في العراق! ولا رجال الاعمال

من الاغنياء العراقيون الذين همهم جني الملايين بدون تعب، فاستثمروا في المباني خارج العراق او مشاريع اخرى. لم يظهر منهم من له روح وطنية وشجاعة على المغامرة والحرص على الفن العراقي ليستثمر طاقات الشباب لمنح الحياة للفن السينمائي او التلفزيوني او المسرح العراقي، بالرغم من الارباح التي يجنيها المنتجون او الممولون للاعمال الفنية.

 اضافة الى التقصير والعجز المخجل الذي يصيب اجهزة الاعلام العراقي بقطاعيها الخاص والحكومي! فالاعلام المصري جعلنا نتابع تطورات السينما والمسلسلات التلفزيونية من خلال البرامج الحوارية خاصة لنا نحن المغتربين. مثل برنامج منى الشاذلي وعمرو الليثي واسعاد يونس واشرف عبد الباقي، وغيرهم من الذين عرفونا على الكثير من الاعمال السينمائية والفنانين الشباب المميزين. بينما المحطات التلفزيونية العراقية تفتقد لهكذا برامج وقدرات ومواهب تدير الحوارات بشكل مميز وممتع.  فالبرامج الحوارية على المحطات العراقية ، على قلتها لاتشجع على متابعتها لسوء اعدادها وقلة معرفة المحاور باصول الحوار والاصغاء لما يقوله الضيف، ولافتقاره للبحث في انتقاء الاسئلة التي تتماشى مع عمل وعطاء وتاريخ الفنان الضيف.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2025

 

في المثقف اليوم