قراءة في كتاب
نور الدين حنيف: مقدمة في ديوان (فيهْ اللِّي فِينا) للزجالة سناء مطر
1 - بين يدي الديوان:
تقدم الشاعرة الزجالة (سناء سكوكي \ سناء مطر) ديوانها الأول في مسيرتها الإبداعية المفتوحة على المزيد من العطاء ، مطرّزاً بجمالية البناء الزجلي القائم على اختيار المفردة اللهجية بدقّة متناهية توخّياً لرفع منسوب إستيطيقا الزجل إلى أعلى، حتى لا تسقط الشاعرة (سناء) في متاهات الشبه المقيت الذي يعربد في ساحة الزجل المغربية ويتنطّع بوجهٍ قبيحٍ وصفيقٍ عارٍ من كل ملمحٍ للإبداع.
و تقدّم ديوانها مؤثّتاً داخل عشرين زجلية هي في الأصل عشرون لوحة. وتضم كل لوحة صرخاتٍ في وجه العدم والقبح والفساد. وهي مفردةٌ تتشكل داخل علامة سيميائية هي (اللُّوحَة) بضمّ اللام المشددة عوض فتحها داخل العلامة العالمة (اللَّوْحَة). توخيّا لاستنبات الفكرة الزجلية داخل الوجدان الشعبي الذي يتعامل مع (اللُّوحَة) بنسقية صوتية خاصة تختزن عمقا تراثياً أشدّ خصوصية.
عشرون زجلية تبنّتْ الصدق الفني في الصوغ الزجلي المتجاوز لخطاب اللهجة التواصلي داخل شرنقات اليومي الفاتك بشعرية النص. عشرونَ زجليةً توخّت فيها صاحبتُها اللمزَ والغمزَ وفنّ التلميح. كما صدحتْ فيها عبرَ أصواتِ الفضح والشجْبِ والتصريح. وعزّزت جمالِيات قولها بالإشارة لمن له قبضٌ سريعٌ تنفع فيه اللّمحة قبل العبارة.
هكذا تنشد الشاعرة الزجالة (سناء) على خشبة الواقع برقصاتٍ لهجية تميدُ بوجدانِ القارئِ ميدا، وتميس بخياله ميساً رُويداً رُويدا. وهكذا ارتأى مخيالُها أن تجرفنا إلى ضفاف نهرها الهادرِ بالإدهاش حتى نستجمّ بفيضِ شمس حروفها برهاتٍ من الزمن قبل أن تستفزّ عقلنا كي نلتفتَ إلى ما في الواقع من تغوّل يزحف إلى وجداننا كي يفسده بفعل تغوّل المفسدين. ومن ثمّة وجب القول مسبقاً إن الديوان صرخة نقدية اجتماعية وإن لم تخلُ من همسٍ عاطفي لا يمسّ البعد الرسالي الزجلي في شيء بقدر ما يعضده ويُقوّيه ويمجّد فيه كل همس وكل صراخ وكل نقد.
تبدأ الزجالة (سناء) مشروعَ صوغِها الفنيّ والهادف بلوحة (الروح) التي لم نُؤْتَ من علمها إلا قليلا. ثم ينثالُ مهرجان اللوحات تباعاً بما يلي: الليل – الدّقْ – حتالينْ – تْوامْ – نْواح الروح – الزّْهرْ – هِيَ – القلب – السّعدْ – امْرايْتِي – النية – فيهْ اللّي فِينا – المعڭاز – المضلوم – ما سوقيشْ – البحر – فرْنَسْ – شْكونْ يقدرْ – نْسيتي). وهي في هذه المسيرة الفنية لا تكتب زجلا بل تنشد روحاً وتُغنّيها في مواجهة الماحول المتغوّل، قابضةً على مقولات الضوء ضد العتمة الكاسحة لرؤانا المنهزمة. وهي بهذا التوق المشعّ تريد أن تنتصر على الإعتام بكل ما أوتيت من حروف تتجاوز وجودها القاموسي الضيق إلى وجود فني يعبق بالجمال اللهجي كما يعبق بروح الرسالة.
2 - بعض الموسيقى:
و أول الغيث موسيقى. إن الزجالة (سناء) لا تقول زجلا كي تعجن اللهجة في ضباب الشعر كما يفعل الكثير ممّن تطاولوا على الإبداع وهو ينقلون خطابهم اليومي بين دفّتي كتاب ثم يصرخون بالزجل وما هو بالزجل. الزجالة (سناء) تراهن على المعنى والدلالة والمبنى والموسيقى. إنها تؤمن أن الزجل إبداعٌ لهجيٌّ ينبغي أن يتخطّى مسامع المتلقي اليومية إلى عمليات التشنيف والإمتاع والإقناع. لهذا اختارت أن تسم زجلياتها بميسم الإيقاع الباعث على الانشداد إلى المحكي عبر الموسيقى أولا ثم المعنى ثانيا ثم الدلالة ثالثا ثم التأويل رابعا. وهي في هذا المنحى تلمّ كل طاقتها الصوتية لتضعها على ورق المقروء لأنها تدرك أن الإنشاد هو الشعر وهو الزجل. من ثمّة نفهم ميلها الكبير إلى ترتيب روحها في كل زجلية بناء على ما تمليه الزجلية من قرار فونيتيكي.
لنضرب على ذلك مثالاً من خلال الزجلية الأولى والموسومة ب (الروح). فهي اختارت أن ترتب أذهاننا داخل روي حرف (الڭاف) بتكراره في نسقية صوتية تبني توقعات المتلقي بناء ماكراً لأنها تستبدل صوت (الڭاف) بصوت (الكاف) وهو من جنسه حتّى لا تدخل ذائقة المستمع في رتابة الزجل ولتبقى حالمة بإدهاش الزجل. والجميل في مستوى القصيدة الصوتي هو ختم كل مقطع بحرف دلالي ومعبر وحامل لمعنى القفلة، ويتعلق الأمر بهاء ضمير الغائب الماتحة بعض صواتَتِها من هاء السّكْتِ، وذلك في سياق قافية أمكر، وهي متجلية على النسق الآتي (عسّي عليه - ما اتْڭدي عْليه - اتْراري بيه).
و المثال الثاني اخترتُه من الزجلية الأخيرة في الديوان، وفيها لعبت الزجالة لعبة التنويع الصوتي تبعا لطبيعة الموضوع والدلالات القائمة فيه. والباعث على ذلك طبيعة السخرية الماضية في فضح الواقع القائم. من هنا جاءت الأروية والقوافي ساخرة في تنوع بائن يشد المتلقي إلى مفهوم الضحك الأسود من خلال تشاكلات صوتية واخزة. ومثال ذلك (اشْحيط الكلمة اللّي، تحكو بالتومة، اللِّي تجمع ف رزمة - التخراش لي تَتْخم، والحق لي تزمْ - نسيتي الجوف، نهار طاح مكروف - فمُّو يڭفض، ف ندامة عض - رجعتي تسول، ارْجع اتْسَكْوَلْ) وكم هو ملاحظٌ هذا التنويع في الأروية بطريقة زجلية تبني الموسيقى داخل نسق صوتي مستفز ومعالج وناقد في نفس الآن.
2 - في سيمياء الخير والشر:
أرى أن الديوان في كله وجلّه طرحٌ لهجيٌّ لكينونة الخير والشر. ومن منظور الزجالة سناء فالأمر يتعلق بثنائية وجودية لا بالمفهوم الفلسفي العدمي ولكن بمفهوم الحضور والغياب الذي يلقي بظلاله على روحين: روح المبدعة وروح المتلقي.
من هنا نفهم لِمَ افْتتحتِ الزجالة سناء مهرجان قولها بزجلية (الروح) وكأنّها تروم بذلك فتحاً لمفهوم الشهادة بأن تكون الروح عالمة وشاهدة على كل المواقف التي ستتبنّاها الشاعرة بخصوص صراع طرفيْ الثنائية (الخير والشر). قالت الزجالة سناء: (جيتك يا روح بْ زوڭة) والزوڭة مفردة لهجية من قاع اللسان المغربي وتفيد الصراخ أو الإعلان، وقد استأنسنا في ذلك التخريج بمفردة (الزواڭة أو الزواكة) بحرف الڭاف أو بحرف الكاف.
و أول تجلٍّ لهذه الثنائية ترسمه الشاعرة في عبارة واخزة تفضح ما في الكائن الحيّ من تناقض صارخ، في تعبير لهجي يتّسم بالإيجاز القويّ، ويُغني عن كثير من الإسهاب المجاني. قالت: (فْعايلو مسرارة - جغديد مدلوكة)... والعبارة اللهجية هنا في هذا المثال جمعت في فنّ الزجل بين طرفيْ نقيض، أي بين مقولة الجمال مشخّصةً في (مسرارة) وبين مقولة القبح مجسّدةً في (جغديد). ولا أجمل ولا أدقّ ولا أوجز من هذا الصوغ الزجلي الذاهب بالمتلقي مذاهب الإقناع قبل الإمتاع عبر ثنائية متضادة حاملة لأكثر من دلالة، نستسيغها مع الشاعرة في سياق عاميّ يربط مفردة (الجغديد) بشيءٍ قبيح في وجداننا الشعبي هو السمّ أو الإفراط في الملوحة. من هنا قولهم في الدارجة المغربية (تاكلْ فيهْ جغْديد).
و هذا مجرد مدخل لاستيعاب هذه الثنائية التي تقضّ مضجع الشاعرة سناء وتدفعها إلى القول عبر فن الزجل كي تفضح تغولات هذا الواقع من منظور زجلي شعري يُشرّح بعضَ أوصال المجتمع للكشف عن بعض حالاته المرضِية. ومن تجليات هذه الثنائية الكثيرة في الديوان نذكر التوتّر البائن بين الظلام والضوء اللذين عبّرتْ عنهما الشاعرة داخل انزياحات بليغة بلاغةً شعبية تمتحُ بعضَ انسيابها من البلاغة العالمة، في مثل ربطها لمقولة الليل بالطول والعراء والصمت المُطبِق. في حين لوّحتِ الشاعرة للضوء بمفردة إيحائية شديدة الإيحاء، وهي القمر في حضور محتشم جعلته الشاعرة يستجدي النجمات كي يقلّص من جبروت الظلام.
ناهيك عن أطراف أخرى فاضحة لأمراض هذا المجتمع، وذلك من قبيل ثنائية الظلم والعدل، الحق والباطل، الرحمة والجبروت، الكرامة والرعونة، الخضرة والجفاف، الغدر والأمان، الحظ الجميل والنحس، الحب والكراهية، الوطنية واللاوطنية، وغيرها مما دلّ على وعيِ الزجالة سناء الفنيّ بكل أشكال الخلل القائمة في المجتمع والعاملة باجتهادٍ مقيتٍ على نخر الذات المغربية في صميم جوهرها حتى يتسنّى لمسلسل الفساد بسط إرادته الغاشمة على مشاريع الخير والجمال والنقاء.
إن الشاعرة سناء لا تقف بمشروعها الزجلي عند حافات التشخيص المجاني لهذه الثنائيات العاجّة بالتناقض والعدمية والسلب. ولا عند حدود التسجيل المرآتي القائم على الوصف المنفلت أو على المقولة الهاربة (قلْ كلمتكَ وامْش) بقدر ما تقدّم رؤياها الفنية عبر بوابة الزجل، تقول فيها ما ينبغي قوله من باب الاستنكار أولاً والشّجبِ ثانيا وإرادة التغيير ثالثا. هي تبصر الواقع من خلال الفن، وتروم طرح رؤياها المغيرة لحساسية استقبال تغولات الواقع داخل طاقة إيجابية لا تنحني لرياح الفساد ولا يفزعها حبروته. لأنها تعلم أن ما بين جوانحها حرفٌ قويٌّ وبعيدٌ وماضٍ في تشريحه وتفكيكه وتحليله للظواهر الفارضة سلطتها على الوجدان الفردي والجمعي معا. ولهذا اختارت ألّا يكون حرفها طيعاً لفكرة الانهزامية ولا مستجيباً للعدمية الخاوية ولا راكعاً لسطان التغوّل الاجتماعي. إنها اختارتْ حرفا قويّاً قالت في توصيفه (أنظر اللّوحة 13):
يمكن لغايا
يجيك تزنزين
يمكن حرفي
ما شبعان ادْهين
و ليني دقتو ف الجبين
ترسم حفرة الزين
و توشم ف القلب منويين
و شحيطو بلا سواك
يعمر العين.
إنه حرف يتعامل مع الثنائيات المتناقضة من باب الوعي بالذات التي لا تلين لمساومة والتي تملك كل إمكانيات الضرب على أيدي الفساد بطريقة تترك أثرا إيجابيا في الموضوع. (وليني دقتو ف الجبين – ترسم حفرة الزين). هكذا تؤسس الشاعرة لحرفها، أي لفن زجلها داخل وظيفتين: واحدةٌ تشريحية وثانية جمالية.
4 - جماليات الصوغ الزجلي في الديوان:
لا نستطيع أن نحاصر هذه الجمالية لا في المعنى ولا في المبنى لأن هذا الحصار من شأنه أن يفتك بالرؤية الفنية للديوان. ومن ثمّة يجرنا إلى تفكيكية غير عادلة. لهذا يكون من الأنسب أن نقرأ الديوان في معناه وفي مبناه وفي ددلالاته داخل أفق واسع هو استحضار المتلقي في عمليات تذوقه أولا وتأويله ثانيا. ولكي نقترب من هذا الهدف الجمالي لابدّ أن نستوعب جيّداً أننا إزاء مشكلة فنية ترتبط بأداة التعبير. إن البحث في جمالية الشعر العربي الفصيح أمر مألوف وميسّر لأننا نقرأ الفصيح داخل أداة اللغة العربية المعربة والفصيحة والماتحة ماهيتها من ضوابط وقواعد نحوية وصرفية دقيقة تمثل المرجعية التي نحتكم إليها في كل نشاز. ولكننا في مضمار الزجل لا نمتلك هذه القدرة لأننا نتعامل من شعر يستعمل اللهجة، وهي المتعددة في ربوع الوطن، وهي المشكّلة تبعا لوجدان الحزام الجغرافي الذي ولدتْ فيه وترعرعتْ.
ناهيك عن استعمال هذه اللهجة في التخاطب اليومي مما يوهم البعض ممّن يدّعون زجلا أن الزجل أمر سهل الإبداع مادام قد صيغ بالعامية. بل العكس هو الصحيح والسليم. فالإبداع داخل لغة التخاطب اليومي يملي على المبدع نباهة متفردة وحرصا شديدا على إحداث القطيعة داخل المألوف حتى يتسنى للمتلقي إدراك أن الزجال فلان قد أمتعنا بابتعاده عن تكرار لغة التخاطب اليومي في ديوانه، وأدهشنا بصناعة المسافات الممكنة بين لهجته المشتركة وبين زجله المتميّز.
و الشاعرة سناء استطاعت أن تتملّص من هذه الإشكالية بأن عانقت مشروع الإدهاش الفنيّ في الزجل وعدم السقوط في تكرار مفردات التخاطب اليومي كما يصنع كثير ممّن حُسِبوا ظلماً على محاريب الزجل المغربي.
و تقدّم لنا الشاعرة ديوانها معجوناً في لغةٍ... أو بالأحرى... لهجةٍ تعيشُها في حياتيْن استطاعتْ أن تفصل بينهما: حياتها الخاصة حيث اللهجة وسيلة وحياتها الفنية حيث اللهجة إبداع. وهنا مربط الفرس. فقد صاغت الزجالة لوحاتها خارج سلطة العامية بأن صنعتْ لهجة فنّها الخاصّة حتى لا يختلط حابلُ اليومي مع نابل الفنيّ. ثمّ أخذت ملامح الماحول وعجنتها في بؤرة روحها المحلّقة، وحرصت أن تطبع كل مفردة بكل الممكن من الطاقة الإيحائية حتى يخرج زجلها ماضياً مضاءَ الترياق في الجسد. وهي في هذا المشروع الفنيّ استدعت اللهجة في جناحها الدينامي القادر على محاورة المتلقي حتى لا يتمّ عزله داخل برج الاستمتاع فحسب.
و لا أدلّ على هذه الجمالية من اللوحة الرابعة (حتالين) حيث المساءلة سيدة الموقف، والغلاف المؤطر لها وخزٌ جميلٌ بلدغ أمكر. ولا يكون أمر المتلقي إلا تبنّياً لموقف الشاعرة أو تعاطفاً في أضعف الإيمان. قالت الزجالة سناء:
حتالين
وسادنا حجر
سعدنا شمر
مشطون يتعافر
لداوير الزمان يجر
احلامنا سكنتوها لمقابر
نزفت بالخناجر
مرشوڭة ف الصبر
والسؤال هنا مصوغٌ في ذكاء العبارة المسكوكة داخل الوجدان المغربي بحمولة مكتظّة بالمضاضة والقرف من هذا الماحول المتجبّر. (حتالين) سؤال لهجي فني أخرجته الشاعرة من بداهة الدارجة البسيطة إلى قلق السؤال الوجودي الواضع لكينونة المتكلمة ولكينونة المتلقي في أتون المساءلة المقلقة والباعثة على المزيد من تناسل الاسئلة الذاهبة مذاهب الحفر في أركيولوجيا الفساد، لا المتبخرة في ضباب الامتصاص وكأنها أقراص مهدّئة أو منوّمة.
إن جمالية النص الزجلي هنا لا تؤمن بدغدغة الوجدان في المتلقي من أجل استحسان المقول. وإنما تؤمن بضرورة نقل المتلقي من حالات الصمت إلى حالات الكلام، ومن وضعيات الفرجة الخاوية إلى وضعيات المشاركة، ومن لغة الاستسلام إلى لغات الشجب والاحتجاج.إنها جمالية القول في شقين: شقّ الوخز وشق التنبيه.
و لنمضِ قدما في استكناه ملامح هذه الجمالية وهي كثيرة وغزيرة في الديوان، ونستشهد لها تمثيلا لا حصرا، ونذكر من قبيل ذلك اللوحة 16 (ما سُوقِيشْ):
ما سوقيش
الى الخاطر راب
والحق ف اللْسان
اتْعابْ...
ما سوقيش
الى اللّْغى خسر
و الدم حجر
و الصح ف لخلا
اتْوضر
و قد تكررت مفردة (ما سوقيش) عشر مرات في لبوسٍ زجلي فنيّ لادغ يقدّم الموقف الوجودي للذات المتكلمة داخل الوعي المضاد للفكر السائد. كيف ذلك ؟ نحن نعلم أن مفردة أو عبارة (ما سوقيش) هي في الاصل عبارة استسلامية تمتح مادتها الانهزامية من ثقافة متجذرة تقول (المصيبة إذا عمّتْ هانتْ) على مستوى الثقافة العالمة... كما تقول بلسان الثقافة الشعبية وبلسان الوجدان الجمعي (دير راسك بين الروس ؤ عيطْ آ قطّاع الريوس) وهذا كله يندرج في مسلسل تجويف الذات المغربية وإفراغها من ثقافة الموقف إلى ثقافة الاستسلام والعبثية واللامبالاة والأنانية (أنا، ومن بعدي الطوفان).
لكن الشاعرة وظّفت جمالية الموقف داخل جمالية التعبير. فموقفها إيجابي وواعٍ بالمسؤولية، وهي لا تزجّ بالعبارة (ما سوقيش) في تكرار الانهزامية المقيتة بقدر ما تحول العبارة إلى سلاح مضاد عبر مسلسل التداعيات الواصفة والموصوفة في القصيدة لحالات العدمية والتي تختمها الشاعرة بموقف نقدي قوي. قالت بعد أن شخصتْ حالات الخرق والسلب:
ما سوقيش
إيهْ... ما سوقيش
ؤُ بالسّيف غنعبر
و نبني عشيش
و للصبر نرش بقشيش
نعتق النية من النهيش
و العطفة من لَقْميش
و اللّي من كلامي زعفان
احسن لِيهْ
يِعيش هربان
را عضة لمعڭور
تريّبْ الشان
هكذا تحول الشاعرة الهزيمة إلى نصر، والخواء إلى عمار والضعف إلى قوة... بعد أن تستدرج المتلقي إلى خطاب الهزيمة، لتعلن في وجهه صرخة القيام والنهوض بدل الاستسلام. إنها جماليات الموقف حين يستدعي اللغة\ اللهجة في مكرها الأدبي، وهي تستفز القارئ وتحرّك مكامنه في أبعاد إنسانية عامرة بالخير والجق والجمال.
ختم:
هذا غيض من فيض، لم يسعفنا مقام التقديم كي نلمّ بكل شروط الكتابة الزجلية لدى الشاعرة والزجالة المختلفة سناء سكوكي. وحسبنا من هذا وذاك أننا استنفرنا بعض مكونات الديوان فتحاً لشهية الكلام فيه في لاحق الإيام. وحسبنا أيضا أننا علمنا أننا إزاء شاعرة بكل القوة الممكنة لشابّة تبحث عن شكل فني لزجلها خارج الشبه القبيح والتكرار الأقبح. وإنما هي الباحثة في تحدٍّ جميل وجليل عن الأجمل في لهجتنا المغربية الحمّالة لكثير من أوجه الجمال. ولا يسعنا في هذا المقام الطيب إلا أن نتمنّى لها مسارا إبداعيا متصاعد العروج لا يعرف للتراجع في الإدهاش معنى، حتى يتسنى لها أن تبصم الساحة الزجلية المغربية بميسمها الخاص والجميل والمدهش.
***
نور الدين حنيف أبوشامة - المغرب