قضايا
حاتم حميد محسن: سياسات الإصلاح والدروس المستفادة من فشل الثورات
كان الإصلاحي ادموند بيرك (1729-1797) يبدو كأنه رجلا متناقضا ومثيرا للقلق. فمن جهة، هو اعتبره البعض "ابو سياسة المحافظة"، ومن جهة اخرى، هو كان اصلاحيا متحمسا. لكن كلا النزعتين – المحافظة والاصلاح – ليستا متناقضتين اذا كانت هناك أشياء في المجتمع يجب الحفاظ عليها وأشياء اخرى بحاجة للتغيير. فمثلا، اذا كانت في المجتمع ديمقراطية فاعلة، فان المواطنين المتحمسين يجب ان يكونوا نشطين في الحفاظ عليها كما في الاصلاح. والاصلاح يجب ان يكون عملية حذرة تحسّن الديمقراطية بدلا من إضعافها. وحتى عند تحديد العيوب، يجب ان نعترف بالصفات الايجابية. ادموند بيرك جسّد هذه المحاولة في التوازن بين الغرائز الاصلاحية والمحافظة.
وُلد بيرك في دبلن من ام كاثوليكية واب محامي في كنيسة أيرلندا. هو اتّبع أنجليكانية أبوه بينما اخته اتبعت كاثوليكية امها. يرى بيرك ان الدين والطبقة الراقية أساسيان للحضارة، لكنه لم يكن طائفيا، ودعم قانون الإنعتاق الكاثوليكي catholic Relief bills للفترة 1778-1791. كان بيرك عضوا في البرلمان البريطاني من عام 1766 الى 1794، وترك بصماته هناك كخطيب ومنظّر سياسي. حاليا يتذكره الناس لعمله (تأملات حول الثورة في فرنسا، 1790)، وهو عمل محافظ كُتب كرد فعل لراديكالية الثورة الفرنسية التي حدثت قبل ذلك بسنة.
كمصلح هو نجح بقيادة التغيير وتقليص السيطرة الملكية على الحكومة، ودعم قضايا خارجية مثل الثورة الامريكية، واستقلال اكبر لآيرلندا، وممارسة أفضل لحكم شركة الهند الشرقية للهند. سنعرض لحجج بيرك في الحذر المحافظ، ونتوصل من هذه الحجج الى مبادئ عامة للاصلاحات اليوم.
طبيعة سياسة المحافظة لدى بيرك
تدور محافظة بيرك حول إعجابه بالنظام السياسي البريطاني. قياسا بالانظمة السياسية الاخرى في زمانه، حازت بريطانيا على مزايا برلمان راسخ ونشط، وحرية أكبر للصحافة، وإنفتاح على الإصلاح. الكثير من تلك القضايا كان يتطلب المحافظة في السياسة البريطانية، لذا كانت سياسة المحافظة منطقية الى حد ما.
ولو نظرنا الى افكار بيرك في العديد من أحاديثة وكتاباته، يمكن لنا ربط اثنين من حججه على اساس من تلك الرؤى. هاتان الحجتان يمكن استخلاصهما من كتبه (تأملات في الثورة في فرنسا، 1790)، وكلامه في لجنة التحقيق في حالة التمثيل النيابي عام 1782، ونداء من اليمين الجديد الى القديم (1791). الحجة الاولى تقترح انه بالنظر للتطور المعقد والبطيء لأي مجتمع مستقر، فمن الصعب جدا التدخل الثوري الناجح في المجتمع عن طريق الثورة. الحجة الثانية تحذّر من المخاطر العالية عندما يتعلق الأمر بالبدء بتغيير اجتماعي كبير. كلا الحجتين توازنان بين عدم اليقين ومخاطر التغيير مقابل ما يراه بيرك "افتراضا ثوريا". لذا فان تركيز بيرك ينصب اولا على مخاطر التدخل في الدستور بدلا من التركيز على الشروط الجيدة للاصلاح.
يمكن تلخيص الحجة الاولى كما يلي: إحداث تغيير اجتماعي ناجح هو امر صعب بسبب:
1- المجتمع معقد ويصعب فهمه
2- المجتمع يتطور ببطء ونتائج التغييرات المؤسسية تبرز فقط بمرور الزمن.
3- التدخل يتطلب "مفكرين عميقين" وليس محامين روتينيين متواضعين.
بكلمة اخرى، التغيير الاجتماعي الجيد يتطلب اناس حكماء بدلا من رعاع بلا حكمة، كاولئك الذين بدأوا الثورة الفرنسية. بيرك يقارن ساخراّ تعقيدية المجتمع بتعقيدية الساعة:
"الانسان الجاهل، الذي هو ليس أحمق بما يكفي للتدخل في الساعة، هو مع ذلك واثق تماما لتفكيكها الى قطع متناثرة ثم وضعها مجتمعة حسب رغبته، ماكنة أخلاقية من شكل آخر من حيث الاهمية والتعقيدية، مركبة من عجلات ونوابض وموازين وقوى مضادة ومتعاونة".
لهذا السبب، ينصح بيرك بالتردد قبل التدخل بمثل هكذا تجمع معقد كالمجتمع. لكن المجتمع ليس فقط معقد جدا، انه يتكون عبر فترة طويلة من الزمن: "انه صُنع بظروف غريبة ومناسبات وأمزجة وميول وعادات اجتماعية مدنية وأخلاقية للناس، الذين يكشفون عن أنفسهم فقط عبر فترة زمنية طويلة". اذا كان تطور النظام السياسي بطيئا، فان محاولات تحسين عمله يجب ان تتم بنفس الطريقة عبر اطار زمني أطول.
الإصلاح التدريجي البطيء هو الوسيلة الملائمة الوحيدة لتطور الدولة، طالما ان نتائج أي تغيير قد لا تكون واضحة في البداية: مايبدو جيدا في البدء يتضح انه سيئ والعكس صحيح. وكنتيجة لصعوبة التغيير الاجتماعي الجيد، نحتاج الى اكثر من "تصرفات بسيطة او توجيهات للسلطة". في الحقيقة، نحن نحتاج الى "مفكرين عميقين" وليس الى نوع من المحامين الضعفاء الذين وُجدوا في برلمان الثورة الفرنسية:
"الدستور البريطاني لم يكن ناجحا بعدد من الرجال المتعجرفين مثل برلمان المحامين الضعفاء في باريس .. انه نتيجة أفكار عدة أذهان في عدة عصور. انه ليس بسيطا، ليس شيئا سطحيا، ولا يُقيّم بفهم سطحي ... الدستور البريطاني قد تتم الاشارة الى مزاياه للعقول الحكيمة والمتأملة، ولكنه ذات مرتبة عالية جدا من التميّز بحيث لا يمكن تكييفه مع تلك العقول العادية. انه يأخذ العديد من الرؤى، يعمل العديد من المركبات، لا يُتوقع فهمه بالتفاهمات الضحلة والسطحية. المفكرون العميقون سيفهمونه في منطقه وروحه" (تأملات في ثورة فرنسا، 1790).
احتمال وجود مفكرين عميقين نشطين للتدخل في المجتمع عرضه بيرك بإحساس سلبي في نقده لمنْ ليست لديهم المواصفات الضرورية، مثل الثوريين الفرنسيين. لكنه يجسد حالة ايجابية حين يؤكد ان المفكرين العميقين يتعلمون من التجربة بدلا من "المبادئ المجردة". في تلك الأثناء، يبدو ان الخوف من الحافز الثوري عبر دول القنال الاوربية، دفع بيرك لدعم الوضع الراهن في بريطانيا بين الارستقراطيين والطبقة الراقية بالاضافة الى الناخبين.
اذا كانت الحجة الاولى لبيرك تتعامل مع صعوبة تأثير التغيير الايجابي، فان حجته الثانية تشير الى المخاطرة:
1- كل المجتمعات لها عيوبها، لكننا يجب علينا ان نحافظ على الشعور بالتناسب حول هذه العيوب.
2- الأنظمة السياسية الاوربية التقليدية لها عدة سمات ايجابية ولذلك
3- "مسؤولية الإقناع" تقع على عاتق الذين يريدون تحمّل الكلفة الحتمية للتغيير المنهجي لتحقيق مكاسب غير مؤكدة.
يرى بيرك ان مهاجمة الثوريين لعيوب الأنظمة القائمة هي كما لو كانت هذه العيوب أساسية او هي الشيء الرئيسي. هو يقول، نحن يجب ان لا نرفض كليا نظاما فقط لأن فيه عيوب ثانوية: "الادّعاء الثاني للمجتمع الثوري هو "الحق في محاسبة حكومته على سوء السلوك" .. لا يمكن لحكومة البقاء للحظة واحدة اذا كانت في مهب أي شيء فضفاض وغير محدد كفكرة "السلوك السيء". (التأملات).
لذا، نحن يجب ان نحافظ على الإحساس بالتناسب حول أخطاء المجتمع. هذا الإحساس يترسخ لو اعترفنا بكل سمات المجتمع كما عرضتها فرنسا القديمة، بما في ذلك ازدهار التصنيع والفنون والمدن المعقدة والبناء المعماري، وأفراد خيّرين او أبطال. يستنتج بيرك : "انا لا أعترف وفق هذه الرؤية باستبداد تركيا ولا أحتقر شخصية الحكومة التي كانت قمعية او فاسدة جدا او متهاونة كما لو كانت غير صالحة تماما لأي إصلاح. انا يجب ان اعتقد ان هكذا حكومة تستحق للإرتقاء بتميّزها، وتصحيح أخطائها، وتحسين قدراتها في الدستور البريطاني".
انطلاقا من دعوته للتوازن حول مزايا وعيوب النظام السياسي، يدّعي بيرك ان العبء يقع على الراديكاليين لإثبات ان تصميمهم لا ينتج أذى اكثر من الخير، نظرا لأن التغيير الراديكالي يتضمن كلفة عالية (مئات الآلاف من الناس في حالة فرنسا): "عبء الإثبات يقع بقوة على اولئك الذين يمزقون نسيج مجتمعهم الى قطع..." وبكلمة اخرى، هناك الكثير من المخاطر لبدء تغيير دراماتيكي عندما لم تتوفر أسباب كافية له.(1)
يريد بيرك تحذير البريطانيين من محاكاة الأفعال السريعة للفرنسيين عبر التأكيد على لايقينية وخطورة الفعل الثوري. عدم اليقين والمخاطرة المتعلقان بالتغيير هما في الحقيقة الرسالة الأساسية لكلا حجتي بيرك. المجتمع معقد جدا والمخاطر عالية جدا للسماح بتدخل سريع ، لذا فان التغيير يجب ان يكون تدريجيا وحذرا وبطيئا بدلا من ان يكون ساحقا وشاملا. مع ذلك، بيرك يعترف بالحاجة للتقدم. احدى ادّعاءاته الواضحة بشأن الاصلاح هي انه حتى الإصلاح يدعم التبرير المحافظ: "الدولة التي لا تملك وسائل إحداث بعض التغيير لا تملك وسائل الحفاظ على ذاتها". غير ان حماسة بيرك لتبريراته الاصلاحية تقترح اكثر من الملائمة المحافظة حين يبدي التزاما بالاصلاح بنفس مقدار المحافظة اثناء عمله المهني . ان تعقيدية بيرك ربما جرى تقييمها كتعقيدية للحياة – تعقيدية تتضمن ان المرء يمكنه الوقوف مع الوضع الراهن وايضا يدعم حركات هامة لإصلاحه. الحافزان غير متناقضين لو كان المرء مثل بيرك، كتدريجي حذر.
استنتاجات للحاضر
ان حجج بيرك هي أكثر ملائمة لعالم اليوم منه الى عالمه. الديموقراطيات الاجتماعية التي نعيش بها الان تقدم الكثير من الخير لشعوبها قياسا بسياسة بريطانيا في القرن الثامن عشر. هناك الكثير لدينا للحفاظ عليه قياسا بزمان بيرك. الملائمة الخاصة لكتابات بيرك اليوم يمكن الحكم عليها عبر النظر في ارشادات اخرى للاصلاح مرتكزة على رؤاه. من بين اولئك الذين أحدثوا تقدما في التفكير المحافظ في هذا المجال هو مايكل اوكشوت Michael Oakeshott (1901-1990)، الذي يقدم في كتابه (العقلانية في السياسة، 1962) ومقالات اخرى، تطورات مقنعة وملائمة لحجج بيرك.
سنعرض الآن بعض النقاط التي تطبق في مهمة تعزيز التغيير السياسي والاجتماعي في العالم الحديث. النقاط الثلاث الاولى تتعلق بمحاولة بيرك، اما النقطتان الرابعة والخامسة فهما من اوكشوت:
1- لا وجود هناك لمجتمع مثالي. الانسانية معيبة خلقيا، وهذه الحقيقة يجب ان تخفف من أهدافنا. نحن يجب ايضا ان نكون واعين بان العديد من الحاجات تلُبى في الديمقراطيات الاجتماعية الحالية، وان سوء السلوك من جانب أي سلطة ليس بذاته سببا لرفض النظام السياسي ككل. هناك دائما مكان للتحسين.
2- المجتمع معقد ولذلك فان نتائج التدخلات ستكون غير مؤكدة. لذا فان التدخلات يجب ان تكون تدريجية لكي يمكن تقليل حجم النتائج غير المتوقعة، وليُسمح بإجراء تصحيحات في السياسة.
3- ان نتائج التدخلات تكشف عن نفسها فقط بمرور الزمن، لذا حتى الاصلاح التدريجي يجب ان يكون في فترات متباعدة، لكي يُسمح بإنكشاف النتائج المقصودة وغير المقصودة . هذا سوف يسمح لنا للتعامل مع النتائج السلبية قبل تحمّل أي اضطراب غير ضروري آخر من خلال إصلاحات اخرى سيئة.
4- "الابتكار يتضمن خسارة معينة وفقط مكاسب محتملة، لذلك، فان عبء الاثبات في بيان ان التغيير المقترح يُتوقع ان يكون نافعا بمجمله، يقع على عاتق المبتكر" (العقلانية في السياسة).
5- المحافظ "يعتقد ان المناسبة هامة، وبثبات الأشياء الاخرى، هو يرى ان افضل مناسبة للابتكار تكون عندما يُحتمل جدا ان يكون التغيير المخطط محدودا بما هو مقصود وأقل احتمالا ان يُفسد بالنتائج غير المرغوبة والتي لايمكن ادارتها" (نفس المصدر). الإعتراف بغياب المجتمع المثالي يجب ان يلوّن تقييمنا لديموقراطيتنا الاجتماعية ومشاكلها بطريقة تقلل طموحات طلبات التغيير. والى جانب الاعتراف بنواقص الانسانية، نحن يجب ايضا ان نكون واعين بالطريقة التي تلبي بها الديمقراطيات الاجتماعية حاجات العديد من الناس، ربما أغلب مواطنيها. المصالح جرى تلبيتها بالتعديلات الملحة، وان معظم الناس وجدوا مكانا لأنفسهم في هيكل بناءهم الاجتماعي.
لذلك يجب على المرء ان لا يضع نفسه ضد الصرح الكلي للمجتمع، لأن هذا يعني انه يضع نفسه مقابل مصالح غالبية الناس – والذي هو خطأ لكل من الحقوق والاستراتيجية.
الحافز الثوري للتغيير الكاسح مخالف لحقيقة ان لا وجود للمثالية، وان الهندسة الاجتماعية هي صعبة، ولعبة غير مؤكدة تنطوي على تكاليف هائلة. لذا يجب تخفيف الاهداف الاصلاحية، وان تكون وسائلنا تدريجية. الحماس القوي للإصلاح التدريجي ربما يكون مناسبا، على الأقل وفق استدلالات بيرك، لكن الاصلاحيين لايحتاجون إعطاء توضيح جيد لما يعنيه التغيير للناس العاديين، ولماذا يستحق المخاطر وتكاليف التحول.
***
حاتم حميد محسن
........................
Edmund Burke and the politics of reform, philosophy Now, Feb/March2024
الهوامش
(1) تجدر الاشارة ان الثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 أطاحت بالملكية وأسست اول جمهورية فرنسية، لكن الثورة في النهاية فشلت بسبب الفراغ الشديد في السلطة الناتج عن الاطاحة بالنظام الملكي والذي سمح للراديكاليين الاستيلاء على الحكم وهو ما خلق حالة من الفوضى في عموم البلاد و اتساع العنف وامتداده لفترات طويلة قاد بالنهاية الى إعادة العائلة الملكية من جديد وان كانت بقدرات محدودة. فشل الثورة كان بسبب عدم القدرة على إزالة الملكية بشكل دائم حتى بعد 20 عاما من الاضطرابات السياسية والعديد من الحروب .