قضايا

علاء اللامي: إشكاليات أركون المنهجية كما رصدها العلوي (2): تفكيك المصادرات الأورومركزية

الصرامة والموضوعية

كان هادي العلوي قد وجه نقدا لعدد من الإشكاليات المفهومية في أبحاث محمد أركون، نقدا لم يَخْلُ أحياناً من الحِدَّة والصرامة البالغتين اللذين ميَّزا كتاباته وأبحاثه النقدية والتراثية. لكنه لم يخلُ أيضا من الإنصاف والموضوعية في تقييم إنجازات أركون في كتاب يحمل عنوان "محطات في التاريخ والتراث" صدر سنة 1997 عن دار الطليعة الجديدة السورية، وسنرمز له عند الاقتباس منه بكلمة "محطات". وقد رأينا أنَّ من المفيد استعراض هذا النقد تحليليا، في وقت دار خلاله نقاش واسع في الدوائر الفكرية العربية بعد رحيل أركون وزميليه أبو زيد والجابري (توفوا ثلاثتهم سنة 2010). وأرجح أن يكون العلوي قد كتب الدراسة موضوع حديثنا هنا قبل عدة سنوات من هذا التاريخ (2010) في ضوء رصدنا ومتابعتنا الشخصية لكتاباته ومشاريعه البحثية. لقد كتب العلوي هذه الدراسة كما قلت حين كان الاثنان - هو وأركون - على قيد الحياة والعطاء الفكري. وقد رأينا بالتالي أخذ هذا المفصل الإنساني بنظر الاعتبار ولكي نكون أكثر وفاء لذكرى الراحلَين الكريمَين رأينا أن نتجنب طريقة ذكر محاسن موتانا – وهي وفيرة - ونطبق طرائق عملهما وتفكيرهما النقدية على كتاباتهما ذاتها.

نسجل أيضا، وبخصوص مصادر العلوي، وهو - كباحث وأكاديمي- كاتب دقيق جدا وشديد وكثير التطلب في ما يخص موضوع المصادر والاستشهادات، ولكنه لا يلتزم بأصول التوثيق الأكاديمية المعروفة وذلك متأتٍ من أن كتاباته ذات طابع صحافي غالبا وليست تآليف أكاديمية تقليدية.

وهنا، نقول إنه اعتمد على جملة نصوص لأركون هي محاضرات ثلاث، ومقالات منشورة في مجلة "مواقف" الصادرة من 1980 وحتى 1990. وهذه المحاضرات والمقالات لا ترقى، من حيث الأهمية العلمية لكتب أركون التأسيسية والمهمة. وأغلبها مترجم إلى العربية، ولكن العلوي لم يعتمدها أو يذكرها باستثناء كتاب "في الفكر العربي" الذي ترجمه عادل العوا وهو كاتب وباحث إسلامي يحسب على التيار المستنير وكانت لأركون تحفظات منهجية وليست لغوية على ترجماته سنتوقف عند مثال منها قريبا. وليس لدينا تفسير مؤكَد لهذا الأمر بخصوص كتابات العلوي، فربما يكون بحثه أقدم زمنيا من ترجمة أغلب كتب أركون إلى العربية، أو بسبب اعتماده على خلاصات ترجمها له عن كتب أركون الفرنسية صديقه الباحث الجزائري بغورة الزواوي، والذي أطلعه أيضا – أطلع العلوي - على أطروحته لشهادة الدكتوراه وهي عن أعمال أركون. نسجل للحقيقة، أن تلك الخلاصات المترجمة لم تكن كما يبدو بالدقة الكافية، والدليل الملموس على ذلك هو حين تطرق العلوي لموضوع أصول الفقه لدى الشافعي، وكيف نظر إليه أركون. فقد سجل العلوي شكوكه في أن يكون صديقه الزواوي قد أساء الترجمة حينها، فقد نسب الزواوي لأركون قوله (أن البحث في أصول الفقه توقف منذ رسالة الشافعي ...) ويكتب العلوي (أنا أخشى أن يكون صديقي بغورة الزواوي ... قد أساء ترجمة هذا القول لذلك يجب أن يقرأ: أن البحث في أصول الفقه بدأ مع رسالة الشافعي.../ محطات ص187).

شكوك العلوي في محلها

والواقع، فإن شكوك العلوي في محلها تماما في هذا الصدد، فقد راجعتُ شخصياً ما كتبه أركون عن هذه الحيثية، في كتابه "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، وسنرمز له عند الاقتباس منه بكلمة "تاريخية"، فوجدتُ أنه يعتبر علم أصول الفقه قد تبلور للمرة الأولى على يد الشافعي "بشكل متماسك يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعالا من الناحية التاريخية والتأملية للعقل الإسلامي الكلاسيكي" بل هو يضيف "لم يكن تأليف الرسائل في زمن الشافعي يخضع بعد للقواعد والتصنيفات والتقسيمات العديدة التي أصبحت تفرض نفسها بدء من القرن الرابع الهجري...ص 67/ تاريخية" أي بعد قرن على وفاة الشافعي في سنة 204 هـ/820 م. ويبدو أن الأمر التبس على الزواوي حين قرأ وترجم عن الفرنسية مباشرة عبارة ثانوية أخرى، وردت عند كلام أركون على نسختين من رسالة الشافعي، وهما "النسخة العراقية والنسخة المصرية"، حيث يقول أركون (ومن المعروف أن هذه الأخيرة – يقصد النسخة المصرية .. ع ل – هي وحدها التي وصلتنا، وقد تم تأليفها قبيل وفاة مؤلفها بوقت قصير / تاريخية) ولكي نكون أكثر احتراسا، ينبغي القول: إننا لا ندري، على جهة اليقين، مَن أساء الترجمة، أ هو بغورة الزواوي صديق العلوي، أم هاشم صالح مترجم كتب أركون إلى العربية! فربما كان المقصود "نَسْخَ" تلك الرسالة "النسخة المصرية من رسالة الشافعي" وليس "تأليفها"، إذ من المستبعد تأليف رسالة واحدة، في موضوع واحد، من قبل مؤلف واحد، مرتين: مرة في العراق ردا على شخص معروف، هو المحدث عبد الرحمن بن المهدي والذي توفي سنة 198 هـ أي 813 م، ومرة أخرى في مصر قبل وفاة الشافعي بقليل. وقد يكون ثمة سوء فهم تأليفي لدى المؤلف أركون نفسه.

نوعان من النقد

يُعَرِّف العلويُّ أركونَ بأنه مستشرق فرنسي من أصل جزائري، ويُلْحِق به في هذا التعريف الباحث محمد عابد الجابري المغربي الجنسية، ولكنه ينظر إليهما نظرة أكثر إيجابية -رغم المذاق السلبي لكلمة الاستشراق ومشتقاتها البحثية لديه - فيضيف "وتنحدر دراسات الزميلين من تراث الاستشراق العريض بالدرجة التي تجعلهما مجددَين للاستشراق ضمن مؤشرات الطور الراهن للأيديولوجيا الغربية /ص159 محطات". ويفرق العلوي بين الجابري وأركون لجهة أن الأول ينفرد – كما يرى – بنزوع محلي يتمثلن في محاولات الإجابة عن تساؤلات عربية جارية مبتدئاً من التراث بداية تشبه بداية زميله السوري الطيِّب تزيني مع تفاوت في درجة الاتكال على الاستشراق حيث الأخير (تزيني) أكثر استقلالا في منهجياته وفي تلمذته للاستشراق الماركسي "السوفيتي".

يمكننا أن نقسم النقود التي يوجهها العلوي إلى أركون - من حيث نوعها ومضامينها- إلى نقد وجهه لأفكار ومصادرات غربية ذات بواعث تتعلق بالنزعة المركزية الأوروبية "الأورومركزية"، لم يفعل أركون سوى أن تبناها وكررها- كما كان ولا يزال يكررها الآخرون من المشتغلين لدى المؤسسات البحثية ومعاهد الدراسات الأميركية والغربية الأورومركزية التوجهات عموما - وهذا لا يعفيه من المسؤولية العلمية والأخلاقية، وسنعود بعد هنيهة إلى هذا المفصل. والنوع الثاني يتمثل في نقد وجهه العلوي إلى أفكار تعود لأركون نفسه ولم يسبقه أحد إليها أو انه طورها بشكل نوعي أو جذري حتى استحقت أن تنسب له.

مصادرتان أورومركزيتان

بخصوص النوع الأول، يمكن التوقف عند بعض المصادرات الغربية "الأورومركزية" الشكلانية من قبيل أَخذِ أركون بتزمين "القروسطي"، واعتبار" القرون الوسطى/ الأوروبية" تزمينا عالميا، في حين أنها تخص فقط التاريخ الأوروبي. والدليل على خطل هذا الأخذ بهذا التزمين يتأكد من خلال طرح السؤال التالي: أين نضع تاريخ الحضارة الصينية بعلومها وفلسفاتها وآدابها وهي التي تزامنت مع الحضارة اليونانية ثم الرومانية (لم تكن القرون الوسطى قد بدأت بعد)، وحين سقطت هذه الأخيرة، استمرت الحضارة الصينية حية، وعاصرت بهذا تنيك الحضارتين. ثم حلَّ العصر الأوروبي القديم، فالعصور الوسطى "القرون الوسطى". الأمر ذاته يقال عن القارّات الأخرى فأفريقيا – باستثناء الشمال العربسلامي- كانت تعيش في عهد القرون الوسطى الأوروبية مرحلة "المجتمع المشاعي البدائي"، وكذلك الأميركيتين وأستراليا، وهذا يعني أن الأميركي الساكن الأصلي "الهندي الأحمر" كان يعيش في "القرون الوسطى" في حين كان في الحقيقة يعيش في عصر ما قبل التاريخ!

المصادرة الأورومركزية الثانية هي القول بمصطلحات جغراسياسية من قبل الشرق "الأوسط" و"الأقصى" و "الأدنى". وهذه القياسات مفصلة حسب البُعْد والقُرْب من موقع أوروبا "المركز الأوروبي" التي جعلها الباحثون الأوروبيون مركز العالم الجغراسياسي، في حين تقول الحقيقة الجغرافية والفلكية عكس ذلك تماما. فحين نقيس الأبعاد الجغرافية حسب موقعها من الشمس بوصفها مركز الكون، تكون آسيا الغربية وهي التي تشرق عليها الشمس قبل غيرها بساعات عديدة هي الشرق الأدنى وليس الأقصى، فهي الشرق الأقصى بالنسبة لأوروبا في طورها الاستعماري، وهي الأدنى بالنسبة الواقع الجغرافي الحقيقي، والأمر ذاته يقال عن منطقتنا "الشرق الأوسط" فهي "الأوسط" بقياس البعد عن أوروبا ولكنها ليست كذلك في الحقيقة الجغرافية. ويختم العلوي بالقول (ولم يعد من الممكن تصحيح هذا الخطأ الفلكي بعد أن فرضه الأوروبيون على الجغرافيا/ص 169 محطات). في الواقع، هذه ليست المصادرة الأولى التي رسختها الأورومركزية والتي لا سبيل إلى تصحيحها بل ثمة الكثير منها والتي أصبح "مثقفو" البلدان المستهدَفه بالنزوع العنصري الأوروكزي السياسي والثقافي والعسكري والاقتصادي يروجون لها بدلاً من محاولة فهمها نقديا ناهيك عن مجابهتها دفاعا عن أهلهم وشعوبهم المذبوحة.

في الواقع فهاتان المصادرتان الغربيتان شكلانيتان، وثانويتان، ولكنهما صارا جزءا من بنية الخطاب النمطي الغربي الساعي ليكون خطابا عالميا عبر القوة والهيمنة، وهناك مصادرات أخرى سياسية واقتصادية وأمنية أكثر أهمية تحولت في السياق التاريخي إلى هيمنة غربية على العالم وهي التي بلغت ذروتها في مرحلة القطب الواحد "الأميركي" في بداية التسعينات من القرن الماضي وبدأت بالتفكك في السنوات الأخيرة. ننتقل الآن إلى نقد العلوي إلى ما يمكن تسميته "الصفر المنهجي" لدى بعض الباحثين ومبعثه النرجسية التأليفية.

يتبع.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم