آراء

غالب المسعودي: البيوبوليتيك والنيكرو- بوليتيك كآليات لضبط الحياة والموت

في الشرق الأوسط المعاصر.. مقاربة فلسفية نقدية

تحولات السلطة والجسد في الشرق الأوسط

شهد الشرق الأوسط المعاصر تحولاً جذرياً في طبيعة ممارسة السلطة، بعيداً عن النموذج الويستفالي التقليدي للسيادة القائمة على احتكار العنف ضمن حدود إقليمية واضحة. تتمثل الإشكالية المركزية التي تواجه المنطقة اليوم في الانتقال من السيادة الويستفالية التقليدية إلى سلطات بيوبوليتيكية ونيكروبوليتيكية متداخلة. لا تقتصر وظيفة هذه السلطات على حماية الحدود، بل تتعداها إلى إدارة الحياة (البيوبوليتيك) وتحديد شروط الموت (النيكرو-بوليتيك) داخل وخارج الأجساد السياسية والاجتماعية.

استناداً إلى التأسيس النظري لميشيل فوكو حول السلطة الحيوية، وإلى المفهوم النقدي لأشيل مبيمبي عن سياسة الموت [1, 2]، تركز البيوبوليتيك، أو السلطة الحيوية، على إدارة السكان، والإحصاءات، والصحة، والتحكم في الكثافة السكانية، بهدف جعل الأفراد والمجموعات "يعيشون" بأقصى قدر من الكفاءة [1]. وعلى النقيض، تأتي النيكرو-بوليتيك، وهي سلطة تفرض حالة من الاستثناء لتحديد من يجب أن يموت ومن يُسمح له بالبقاء على قيد الحياة. يمثل الشرق الأوسط، بتاريخه الكولونيالي الطويل وتشظي سيادته، مختبراً جوهرياً لدراسة هذه التحولات الثلاثية المعقدة في تداخلها وتعارضها.

الجذور الفلسفية العربية للسلطة وإدارة السكان

شكلت إسهامات المفكرين العرب في العصور الوسطى أسساً منهجية سابقة لأوانها لتحليل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية. لقد وضع ابن خلدون، من خلال تأسيسه لعلم الاجتماع، منهجية جديدة لدراسة بناء المجتمعات والحضارات ونشأة الدول [3]. يمثل هذا التحليل نقطة انطلاق إقليمية لتحليل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي تحكم السيطرة على الأفراد والمجتمعات.

وفي سياق آخر، يمكن ملاحظة وعي مبكر بضرورة إدارة الأجساد والسكان على أسس وضعية وعقلانية. فعندما اجتاح الطاعون أوروبا في القرن الرابع عشر، رآه الكثيرون نتيجة لإرادة إلهية أو لوصم جماعات معينة، مما أدى إلى استجابات غيبية غير فاعلة. على النقيض من ذلك، أكد لسان الدين بن الخطيب، صديق ابن خلدون، الذي عايش الوباء في الأندلس، على أن انتشار المرض سببه "العدوى"، وأن وجودها "أمر ثابت بالتجربة والبحث واليقين الحسي والأخبار الموثوقة" [4]. يمثل هذا المنهج وعياً مبكراً لضرورة إدارة الحياة (ما يمكن تسميته بالبيوبوليتيك الأولية)، حيث اعترف ابن الخطيب بالعلة "الوضعية" للمرض، مما يستلزم انتصاراً بشرياً مستنداً إلى البحث والتجربة [4]. يشير هذا الاستبصار التاريخي إلى أن المنطقة تمتلك جذوراً فكرية في المقاربات العقلانية لإدارة الحياة، وهي مقاربات تعرضت للتهميش لاحقاً في ظل أنظمة الحكم الحديثة.

الخطاب ما بعد الكولونيالي وإعادة تعريف السيادة

تعود الهشاشة البنيوية للسيادات الوطنية في الشرق الأوسط بجذورها إلى الحقبة الكولونيالية، حيث أصبح الجسم السياسي خاضعاً دائماً لخطابات السيطرة الغربية. استخدم إدوارد سعيد، في نقده لتفكيك الخطاب الكولونيالي القديم والجديد، مفاهيم مستمدة من فوكو وغرامشي، مثل "الخطاب والجسد والتمثيل والجغرافيا التخيلية".

إن النيكرو-بوليتيك والبيوبوليتيك لا يعملان فقط على الأجساد المادية للسكان، بل يعملان أيضاً عبر "الجغرافيا التخيلية" [5]. من خلال هذا التصور، يتم تصنيف مناطق معينة كأماكن مخصصة إما للإدارة الحيوية السلبية أو للموت المباشر. يبرر هذا التصنيف الجغرافي ممارسات الاستثناء والسيطرة، ويعمق من الشعور بالاستلاب الذي تحدث عنه فرانز فانون، وهو شعور متنامٍ لدى الشعوب المستعمرة تاريخياً.

 الانتقال النظري من البيوبوليتيك إلى النيكرو-بوليتيك

تفترض المقاربة النقدية أن السلطة تتخذ أشكالاً مختلفة للسيطرة. تبدأ السيادة التقليدية بممارسة الاستثناء لتعليق القانون وتحديد العدو. تتطور هذه السيادة إلى البيوبوليتيك، التي تركز على جعل الناس يعيشون من خلال الإحصاءات وإدارة الصحة والرعاية. [1]

لكن في سياقات الأزمات والحروب، يتحول النظام. عندما تفشل البيوبوليتيك في "جعل الناس يعيشون" بكفاءة، يظهر مفهوم النيكرو-بوليتيك. تمثل هذه السياسة سلطة تحديد من يجب أن يُهمل أو يُقتل، ومن يجب أن يعيش تحت ظروف مهينة. هذا التحول ليس انفصالاً، بل هو نقطة سببية، فالنيكرو-بوليتيك تنشأ في الفضاءات التي تفشل فيها البيوبوليتيك في تأدية وظيفتها الحمائية والتحسينية.

تآكل السيادة وفضاء "العصور الوسطى الجديدة"

تتعرض السيادة في الشرق الأوسط لضغوط متزايدة بسبب التغيرات الجيوسياسية الداخلية والخارجية، مما أدى إلى تشظي السلطة وظهور ما يُعرف بمنظور "العصور الوسطى الجديدة."

تُشكل التدخلات الدولية والجيوسياسية ضغطاً هائلاً على الدول الإقليمية، خاصة الصغيرة منها، ما يرغمها على تبني مواقف تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالحها الوطنية العليا [6]. هذا التنازل هو في جوهره عمل بيوبوليتيكي من قبل الدولة. فالدولة تختار التخلي عن جزء من سيادتها لضمان بقاء الجسم السياسي والحصول على الموارد اللازمة لمنع الانهيار الاقتصادي أو الأمني. إنها تختار "العيش" في حالة منقوصة للهروب من خطر "الموت" (الفشل الكلي)، وهو ما يمثل تحدياً جوهرياً لمفهوم الاستقلال. وفي هذا السياق، تظهر الدعوات لتبني مفهوم السيادة المرنة، الذي يركز على استراتيجيات تمكن الدولة من التكيف مع المتغيرات الدولية دون التفريط الكامل بالاستقلال. [6]

آليات صناعة الموت والتحكم فيه

تُعد النيكرو-بوليتيك أداة استراتيجية في الشرق الأوسط، لا تقتصر على القتل المباشر، بل تشمل هندسة للهشاشة وتدمير البنى التحتية للمجتمعات المُستهدفة.

تُستخدم النيكروبوليتيكس، أو "سياسة الموت"، كأداة أساسية في تنفيذ الأجندات الجيوسياسية للولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط [2]. والهدف ليس مجرد القتل، بل هندسة للهشاشة، فمن خلال زعزعة استقرار المجتمعات، وتدمير قدرتها على المقاومة، يتم تدمير قدرة السكان على "التكاثر" (بالمنظور الفوكوي) أو على تحقيق "الحياة" المستدامة [2]. هذا التدمير الممنهج يجعل السيطرة الجيوسياسية على المنطقة أسهل، ويحافظ على قدرة تفوق الردع للقوى المهيمنة. [2]

إن تدمير البنى التحتية الحيوية هو شكل من أشكال النيكرو-سلطة، حيث يتم التحكم في البقاء على قيد الحياة، وتُفرض شروط الموت أو الحياة في حالة إنهاك دائم.

 المقاومة الفلسفية للنيكرو-سلطة

تتطلب مواجهة آليات النيكرو-سلطة تفكيكاً ملحاً للخطاب السائد. تلعب الأكاديميات ومراكز الأبحاث، مثل أكاديمية دراسات اللاجئين، دوراً محورياً في تقديم دراسات نقدية تهدف إلى فضح آليات السيطرة وتوفير رؤى بديلة تتجاوز الإطار السياسي الضيق الذي تفرضه الدولة القومية والفاعلون المهيمنون.

النتائج الرئيسية

لقد أثبت التحليل أن السيادة في الشرق الأوسط المعاصر هي سيادة مُحاصَرة وهشة، تُدار بشكل متزايد عبر آليات بيوبوليتيكية ونيكروبوليتيكية متكاملة.

تتخلى الدول عن جزء من استقلالها (التنازل السيادي المشروط) كآلية بيوبوليتيكية لضمان البقاء ومنع الفشل الكامل [6]. هذا الخيار ينتج سيادة منقوصة، ولكنه يمثل محاولة عقلانية لتجنب خطر الانهيار النيكروبوليتيكي.

أدى ظهور الفاعلين من غير الدول، خاصة في سياق الدول الفاشلة، إلى تفكيك احتكار الدولة للسلطة. إن منظور "القرون الوسطى الجديدة" يفسر كيف أن هذه الجهات تتقاسم ممارسة السلطة الحيوية والقاتلة، مما يخلق فضاءات سيطرة متداخلة.

تحول البيوبوليتيك إلى نيكرو-بوليتيك: في أزمات النزوح واللجوء، تتحول سياسات الإدارة (البيوبوليتيك) إلى سياسات إهمال (النيكرو-بوليتيك)، حيث يُترك السكان الضعفاء ليواجهوا الموت البطيء الاجتماعي والاقتصادي نتيجة لتدهور الدعم الإنساني والظروف المعيشية.

هندسة الهشاشة: يتم استخدام سياسة الموت بشكل ممنهج كأداة للهيمنة، بهدف زعزعة الاستقرار وتدمير قدرة المجتمعات المستهدفة على المقاومة، مما يمثل "هندسة للهشاشة" تخدم الأجندات الإقليمية والدولية.

يجب العودة إلى الجذور الفكرية العقلانية في المنطقة، مثل منهج ابن الخطيب في التعامل مع الأوبئة، لاستلهام نهج وضعي وإنساني في إدارة الصحة والخدمات، ورفض تسيس الحياة الإنسانية وتحويلها إلى مجرد أداة في يد السلطة البيوبوليتيكية.

 ***

غالب المسعودي

......................

المراجع

ابن خلدون، عبد الرحمن. مقدمة ابن خلدون. مراجعة وتعليق علي عبد الواحد وافي. القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر

ابن الخطيب، لسان الدين. مقالة في الطاعون. في تاريخ الأندلس ونكباتها

أغامبين، جورجيو. الإنسان الحافي: السلطة والسيادة والحياة العارية. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011

فوكو، ميشيل. تاريخ الجنسانية، الجزء الأول: إرادة المعرفة. ترجمة محمد صبح. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2003

كابلان، روبرت ف. انتقام الجغرافيا: ما تقوله الخرائط عن الصراعات القادمة وعن معركة ضد القدر

[ليبر، روبرت أو.] السيادة المرنة: التكيف مع المتغيرات العالمية

مبيمبي، أشيل. "النيكرو-بوليتيكس." ترجمة لعدد من المترجمين. فصلية Public Culture 15، العدد 1 (2003): 11–40.

[منشور من أكاديمية دراسات اللاجئين]

سعيد، إدوارد. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.

 

في المثقف اليوم