قراءات نقدية
عباس محمد عمارة: الزمن والمكان في تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو (4)

يقدم هايكو الأحلام تصورًا جديدًا للزمن، لا باعتباره بُعدًا خطيًا يتتابع فيه الماضي والحاضر والمستقبل وفق منطق السببية، بل كنسيج متداخل من اللحظات التي تتقاطع وتتفاعل كما يحدث داخل الأحلام. في هذا السياق، يصبح الزمن مرنًا، سائلًا، يتدفق في تحولات غير متوقعة، حيث يمكن للحظة أن تتكرر بأشكال مختلفة، أو أن تتداخل الأزمنة معًا في صورة واحدة دون فواصل واضحة.
هذا الإلغاء للحدود الزمنية المعتادة لا يأتي بوصفه مجرد تقنية جمالية، بل هو إعادة تعريف لعلاقة الهايكو بالزمن، حيث يتحرر النص من الالتزام بتسجيل لحظة عابرة تُقاس بفصول السنة أو تُحدد وفق إيقاع الطبيعة. في هايكو الأحلام، لا يكون الزمن عنصرًا خارجيًا، بل ينبثق من الداخل، من حركة الأحلام ذاتها، حيث يتلاشى الفرق بين ما كان وما يمكن أن يكون، ليصبح كل شيء حاضرًا في اللحظة ذاتها.
يعمل هايكو الأحلام على تفكيك اللحظة وتوسيعها، بحيث تصبح أشبه بمرآة تتكرر فيها الانعكاسات بلا مركز واضح. يمكن للمشهد أن يبدأ من المستقبل، ثم يرتد إلى الماضي، قبل أن يندمج بالحاضر، دون أن يكون لهذا الانتقال أي دلالة سببية واضحة. في الأحلام، كما في هايكو الأحلام، لا يوجد زمن موضوعي منفصل عن الذات، بل تتشكل كل لحظة وفق حالة الوعي، فتندمج اللحظات وتتفكك بحرية، مما يفتح أفقًا جديدًا لتجربة الهايكو.
وكما يعيد هايكو الأحلام تشكيل مفهوم الزمن، فإنه يغير أيضًا مفهوم المكان. لا يمكن للأحلام أن تكون مرتبطة بدورة الطبيعة، أو بمكان جغرافي ثابت ومحدد. المكان هنا يصبح فضاءً مفتوحًا، قادرًا على التحول فجأة من شكل إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، دون أي حدود فاصلة. قد يبدأ المشهد في غرفة مغلقة، ثم يجد القارئ نفسه فجأة أمام بحر أو في صحراء، دون انتقال منطقي بينهما.
بسبب هذا التحول، لا يعود المكان مجرد خلفية ثابتة أو مشهد جاهز للنص، بل يتحول إلى تجربة ذاتية وداخلية، تتغير بتغير الحالة النفسية والشعورية داخل الحلم. قد يصبح المكان غير مكتمل، ضبابيًا، أو يختفي تمامًا، ليحلّ محله مجرد شعور أو صورة رمزية تعبّر عن حالة الوعي في تلك اللحظة.
هذا التداخل بين المكان والزمن في هايكو الأحلام يخلق بنية شعرية غير تقليدية، حيث يتبادلان الأدوار بشكل دائم. يمكن للانتقال من مشهد إلى آخر أن يحدث بسرعة ودون سبب واضح، تمامًا كما في تجربة الحلم، حيث يكون الانتقال من داخل غرفة إلى مشهد مفتوح، كالغابة أو البحر، أمرًا ممكنًا دون أن يُشعر بالغرابة.
غياب الفواصل الزمنية الواضحة والأماكن المحددة يمنح القارئ القدرة على تشكيل تصوراته الخاصة، فيعيد بناء المشاهد وترتيب الأزمنة وفق تجربته الشخصية مع النص. بهذا المعنى، تكون كل قراءة للنص مختلفة عن الأخرى، لأن المتلقي هو من يمنح النص شكله الزمني والمكاني النهائي.
وبهذا، يعيد هايكو الأحلام تعريف وظيفة المكان والزمن داخل الهايكو، فهو لا يكتفي بتسجيل لحظة عابرة من الواقع، بل يفتح النص على احتمالات متعددة، ويخلق تفاعلًا دائمًا بين النص والقارئ. الزمن والمكان هنا ليسا مجرد عنصرين في بنية القصيدة، بل هما جزء أساسي من التجربة الجمالية والإدراكية التي يعيشها المتلقي مع النص، فتتحول القصيدة من لحظة محددة إلى حالة ممتدة ومتغيرة، بلا بداية واضحة ولا نهاية محددة.
***
عباس محمد عمارة