أقلام فكرية

نبيل علي صالح: جدلُ العلمانية في الاجتماع العربي

(ما بينَ الدّيني والسّياسي)

ما زالتِ العلمانيةُ تثيرُ الهواجس وتطرح الأسئلة في فضائنا الثقافي والسياسي العربي لدى قطاع واسع من المفكرين ونخب الثقافة والسياسة العرب، في ظل بحثهم عن صيغة سياسية للحكم وقيادة الدولة بعيداً عن تغول السلطات وهيمنة منظومات الحكم واستحكام الفكر الطائفي والانتماءات الفرعية ما قبل وطنية.. وكثير من هؤلاء يطرحُ صيغة العلمانية –بما هي فصل للديني عن السياسي بالكامل- نفسها التي نجحت الحداثةُ الغربية في تحويلها لمناخ ثقافي وسياسي ومجتمعي عام بعد أن تم تحييد الدين وعزله، بل وإبعاده عن المجتمع الدنيوي، وإعادته لأمكنة العبادة الخاصة به التي يمارس فيها رجالاته دورهم ووظيفتهم في شرح وتبيين وتوثيق العلاقة بين الفرد وربه..

هو إذاً واقع جديد تمت من خلاله عملية إعادة ضبط للعلاقة بين الديني والدنيوي، حيث توصلت إليه حركة الأنوار الغربية بعد مماحكات وتحولات وصراعات واصطدامات اجتماعية مكلفة، انتهت وأفضت لاحقاً لنصر حاسم لها (للعلمانية وحركة الأنوار) على المسيحية التي كانت تغطي كل أوروبا، وذلك في معنى العلمانية الإجرائي العملي في اعتبارها مجرد علاقة ذاتية فردية لا أبعاداً حياتية اجتماعية سياسية لها.. الأمر الذي قادَ إلى وضع حدٍّ نهائي لحالة الصدام والصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية التي سادت قروناً في أوروبا، كما أعادَ تفسير وتفكيك منظومة التفكير الديني الغربي التي سادت لقرون طويلة عن الدين في كونه رؤية خاصة نسبية تندرج في سياق تأثيرات اجتماعية وطبيعية وبشرية..

لكن في بيئتنا الاجتماعية ومجالنا الثقافي والحضاري العربي والإٍسلامي، لم تتمكن العلمانيةُ حتى بصيغتها الإجرائية المحلية، وتفسيراتها الثقافية والسياسية التي حاولت تقريبها من ذهنية المجتمع، من التحول لمبدأ سياسي وآلية عمل سياسية لضبط شؤون الحكم والسلطة بعيداً عن الدين ونصوصه وأحكامه.. بل بقيت معزولة في أطرها الفكرية والسياسية النخبوية رغم كثرة الحديث عنها والجدل الكبير حولها بين الفينة والأخرى في أنها الشكل الأمثل للحكم والقيادة السياسية التي تناسبنا كمجتمعات متنوعة ومتعددة الانتماءات المذهبية وغير المذهبية، لا تتدخل العلمانية فيها، ولا تقترب بالمطلق من اعتقادات الناس ولا في عاداتهم وتقاليدهم وشرائعهم ورؤاهم التاريخية.. فالمساواة هي القانون والقاعدة فيها..

أما في السياقات العملية، فلم تكن العلمانية العربية –في تطبيقاتها السياسية السلطوية العربية- وفية لمبادئ العلمانية القارّة، لا بمعناها الغربي ولا بتفسيراتها المحلية التي جاءت في دفاتر نخبها ورموزها، إذ أنها تدخّلت في كل شيء، وهيمنت بالقوة على المجال الاجتماعي العام (وحتى الخاص)، ومنعت التداول بمختلف مقتضيات شؤون الناس، وحيّدت الدين إلا بتأويلها، وأعطت لنفسها حق التفسيرات والشروحات والتأويلات الدينية التي تتوافق مع مصالح نخبها، من خلال التحكم بالمؤسسات الدينية التقليدية، وتحويلها إلى مواقع للتهليل والتبريك والتطبيل والتزمير ليس إلا..!!.. بل وسند لسيطرة النخب التسلطية (العلمانية!) على مقاليد الأمور، وتجيير سلطتهم الروحية للتأثير (السلبي طبعاً) على الناس بهدف التمجيد والتسبيح بحمد الحكام (العلمانيين!!)..

ورغم النقاشات التي دارت حول الاختلاف بين الإسلام كدين اجتماعي لا فردي فقط (ضمن حدود معينة بطبيعة الحال)، لا يمكن فيها الفصل بين الذات والموضوع، بين النص والواقع، لم يتمكن العلمانيون العرب (خاصة ممن قفزوا للحكم وهيمنوا على السلطة)، من التفريق بين الدين المسيحي الذين هيمنت نخبه على أوروبا لقرون عديدة وتسببت في تقهقرها وارتكاسها الحضاري وعيشها في ظلمات قرون قاربت على الألف عام، وبين الإسلام الذي كان دافعاً وسبباً للانفتاح الحضاري والتفاعل الثقافي والإنساني وتوفير البيئة الاجتماعية والفكرية والسياسية للنهضة والتطور خلال قرون كثيرة اتسعت فيها رقعة دولة الإسلام لتشمل قارات عديدة، أنتجت خلالها الكثير من النتاجات العلمية والفكرية والمعرفية.. بما يجعلنا نقرر عملياً وليس فكرياً فقط أن الإسلام دين فردي واجتماعي ومؤسسي، وشريعته دنيوية أخروية، تربط الفرد بآخرته من خلال مزرعة دنياه، وشريعته تهتم بالسلوك والأخلاق والاقتصاد والسياسة والعلم، وما ترك شيئاً أو أمراً إلا وأوضحه وأبانه.. فضلاً عن وجود حالة التناغم –بحسب ما يقول رائد الوضعية زكي نجيب محمود- في الإسلام، بين العلم والإيمان، والدين والدنيا، ذلك أننا في المجتمعات الإسلامية غير معنيين بركام الجدل والصراع الذي دار في أوروبا حول العلمانية من الأساس، لأن فلسفتنا الفكرية نابعة من الدّين، الذي يهتم بالعلم، ولا يفرط بالعالَم أو الدنيا، في الوقت ذاته، كما هو معلوم من فكره بالضرورة.. وديننا لم يعرف في تاريخه أية حالة فصل فكري وثقافي واجتماعي، ولا أية حالة تعارض بين دين ودنيا، أو بين علم دين.. فهو دين لا يعارض العلم، ويدعو لإعمار الحياة والوجود وبناء الكون، والقيام بمهمة ودور ووظيفة الاستخلاف الرباني الذي يقتضي، العلم والعقل والانفتاح والتفاعل والتثاقف وووإلخ.. وهذه كلها مفردات وأفكار وقيم لها أسس وخلفيات دينية إسلامية، أي أن فلسفة القيم العلمية والعقلية نابعة من الدين، الذي يهتم بالعلم، ولا يفرط بالعالم أو الدنيا..

لكن للأسف ورغم فشل التطبيقات العلمانية العربية في بلداننا، ما زال قطاع كبير من جمهورنا الثقافي والسياسي يدعو إليها، ويصر على تمثّلها والالتزام بها كعلاج لأمراضنا السياسية والثقافية، مع أن جذر المرض عندنا غير ديني ولا ثقافي، بل هو سياسي بحت قائم ومتركز في الاستبداد والفساد..

نعم، لقد أريدَ لاجتماعنا الديني الإسلامي أنْ يقبل ويطبّق معاني وتمثُّلات العلمانية والأفكار الغربية الدائرة حولها كمشروع خلاصي تقدمي، مع أنّها غريبة عن تربته وسياقه المعرفي والحضاري التاريخي، خصوصاً وأنه جرى طرحها (ومحاولات فرضها فوقياً) من قبل كثير من نخب السياسة العربية بصورة حدية نافرة رافضة لمنطق الدين ذاته، بما رفعَ منسوب المواجهة والتوتر لدى أبناء مجتمعاتنا (المؤمنة والمتدينة) ممن رأوا فيها تهديداً جدياً للدين ولمجمل القيم والمنظومة العقدية والأخلاقية الإسلامية.

..وبنظرة واقعية -بعيداً عن سجالات الفكر والمعرفة الأكاديمية- يبرزُ الدين في وعي أبنائه والمؤمنين به والمدافعين عنه، فكراً وديناً أكمل وأتمّ بناءً على معطيات الوحي والقرآن الكريم الذي يقدم الدين الإسلامي للناس جميعاً على أساس أنه عقيدة إلهية ناظمة لحركة الواقع الروحي والمفاهيمي، ينبثقُ عنها قانونٌ ونظامٌ شامل وكامل للإنسان والحياة على مستوى الذات والموضوع.. لذلكَ فهو (أي الإسلام) ليسَ مجرّد علاقة معنوية وحالة تجلٍ روحي بين العبد وربه وحسب، (فيها شيء من الروح ونفحة من الأخلاق تنعكس على الواقع الداخلي للإنسان، كما أنه ليس جملة تصورات أو قضايا قيمية لا تخضع للعقل والعلم)، ولكنه دين حركي عملي أنزله الله من أجل إقامة العدل بين الناس، وبالتالي إيصال كل إنسان إلى كماله الممكن له.

وهكذا انطلقت الأديانُ كلها -ومنها الإسلام– منذ بداية حركة التاريخ وفجر النبوات من أجل أن تشرّع للإنسان القوانين والمبادئ التي تنظم له حياته في خط العدل بكل مساراتها وأبعادها وحالاتها، من عدل الإنسان مع ربه، إلى عدله مع نفسه، وعدله مع الناس وعناصر الحياة الأخرى من حوله؛ وجعلت له في كلّ ما يفعل وما يترك قانوناً معيناً يستمد حيويته وحركيته مما أراد الله من مصالح للإنسان ليتحصل عليها ويقوم بها، وليبتعد عن المفاسد والقبائح التي نهاه عنها.. وهذا ما نلاحظه من خلال قوله تعالى: ﴿لقَدْ أرسَلْنَا رُسُلنا بالبيّنات وأنزلْنَا مَعَهُمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ النّاسُ بالقسط﴾(الحديد/22)، الذي يعني أنَّ مسألة الدين تساوي مسألة العدل، فالدينُ هو العدلُ بعينه وذاته، قيمةً ومعنى.. أيّ أنّ الرسالات السماوية كلها جاءت لتمكين العدل في حركة المجتمعات البشرية، وهي (أي الأديان) تختصر حركتها بهدف واحد هو العدل.. عدل الفرد مع ذاته، عدل الحكم، عدل الحاكم، وعدل كل مفردات الحياة التي يتحرك فيها الإنسان، ويمارس فيها ومن خلالها كل فعالياته ونشاطاته.

ويمثّلُ العدلُ قيمةً عملية واقعية لا يمكنُ أن تتحقّقَ من دون آليات وهيئات ومؤسسات وإدارات، وقوى اجتماعية وسياسية متعددة ومختلفة تسعى إلى تحقيق معاني العدل وتمكين مقتضياته وإلزاماته العملية في السّير والسلوك والممارسات والتعاملات.. إنّ مسألة عدل الإنسان -وعدل الحاكم، وعدل القانون، وعدل القضاء، وعدل كل المفردات المتصلة بالإنسان- هي مسألة تختزن في داخلها المعنى الدنيوي العملي، أي المعنى والخط السياسي التنظيمي الحركي الذي يقودُ الناسَ إلى النظام الأفضل والأحسن والأكمل في حياتهم وعيشهم الدنيوي، والذي لا يمكن أن يتحقق لهم (أو يحققوه) إلا من خلال التقائه بالقيم الدينية الحقيقية الإنسانية.

من هنا لا يكونُ الإسلامُ فكرةً روحية وأخلاقية مجردة ومثالية تحلّق في عالم الخيال والمثال، أو تعيش في داخل الذات في علاقة الذات بالله دونما أدنى تجسُّد في سلوكيات البشر.. ومن هنا أيضاً يكتملُ الجانبُ الروحي للإسلام بالجانب السياسي العملي-السياسي (جانب اشتغالات البشر للكسب والعيش الدنيوي)، كونه (أي الإسلام) يمتلكُ جانباً غيبياً يتصل بالعقيدة، وجانباً اجتماعياً (مدنياً) يتصل بالحياة والوجود الخارجي في طبيعة السعي والكدح والبناء الحضاري البشري.. ولا يوجد فصلٌ أو قطيعةٌ بينهما حتى نتحدثَ عن إشكاليات إدخال السياسة في الدين أو إدخال الدين إلى عمق الحياة السياسية والاجتماعية.. لأنه من المفترض مبدئياً أنْ يمارسَ الدينُ حركته -في الواقع الاجتماعي (المدني)- من خلال الأساليب والأدوات العقلانية المتوازنة التي لا تسيء إلى خطوطه العامة، وإلى أخلاقياته وقوانينه وضوابطه ومعاييره..

وحتى لا نبدو منغلقين وغير موضوعيين، يجب الإقرار هنا أن فكرة العلمانية في مهدها الأولي الغربي كانت تعني في أحد معانيها الحرية، والإسلام والعلمانية يمكن أن يلتقيا هنا، في أصل فكرة وقيمة الحرية والاختيار الفردي، بالرغم من وجود نصوص دينية -غير محكمة- عديدة توحي بعكس ذلك عندما يتم تفسيرها وتأويلها من قبل كثير من علماء الدين على هذا النحو القدري الجبري، بهدف الإبقاء على حالة "النقاوة والأصالة الدينية" و"صفاء الهوية النقية" المزعومة، والتي لم تجد لها أصداء قوية في الواقع العربي والإسلامي المجتمعي العام.. حيث أنّ العرب والمسلمين مندمجون كلياً في حداثة العصر المادية، ولو من باب تبني حداثة الشكل دون حداثة المفهوم والنسق الثقافي والفلسفي الحضاري الذي أنتجها، فهذا الأخير يحتاج إلى وقت طويل، ودونه مراجعات نقدية وحفريات معرفية عسيرة.. المهم هنا أنّ اجتماعنا الديني بدأ يتغير سياسياً لتبني خيارات سياسية تقوم على فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة (البيعة والشورى كمعادل لغوي إسلامي).. وهذا أمر حيوي وتطور نوعي كبير للغاية، يجب التأسيس الجدي عليه.. ومرده أساساً إلى حالة الانفتاح على تيارات الغرب الثقافية والسياسية المعاصرة، والتفاعل الكبير الذي نجم عن احتكاك كثير من نخب الحالة الإسلامية ومفكريها مع واقع الغرب السياسي والفكري الحديث، ورؤيتهم عن كثب للنجاحات الباهرة التي حققتها تجربة الغرب "العلماني" الأوروبي والأمريكي على صعيد العلم والتجربة والتقنية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مقارنةً بالطبع، مع تأخر مجتمعاتهم، وتخلفها الاجتماعي وارتكاسها الحضاري الكبير.

وهذا يجعلنا نؤكد أن الدين الإسلام (مدني) في فكره، أي إنساني.. في السبيل والتوجه والسلوك، فنحن نستند أساساً على مقولات ونصوص دينية نهائية تعتبر أنّ الحرية هي خيار الناس وحقهم الأساسي في الإيمان والكفر، وهذا الاختيار هو من أهم حالات الحرية التي لم يجبر فيها الله أحداً للإيمان به..

وأخيراً نلفت النظر إلى أن الإشكالية في فكرة العلمانية ليست مرتكزة حول علاقتها بالدولة سلباً أو إيجاباً، بقدر ما هي مرتكزة ومتمحورة حول علاقتها بالموضوع الديني والإلهي، أي بالعلاقة ما بين الإنساني النسبي والإلهي المطلق، أو العلاقة ما بين الإنسان بذاته وبالدولة، ومدى تأثير ذلك على الحراك والفاعلية البشرية في الأرض على مستوى البناء والإعمار والإنتاج والإثمار الحضاري.. وبيئتنا العربية جاهزة كثيراً لتقبل هذه الفكرة في قيمة الحرية والاختيار، خاصة مع وجود مساحات مشتركـة واسعـة بين مفاهيم العلمنـة المؤمنـة وبيـن مفاهيم وتطبيقـات الفكـر الإسلامي..

***

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

في المثقف اليوم