أقلام فكرية

مودة جمعة: حفريات المعرفة.. ميشيل فوكو

يُعتبر كتاب حفريات المعرفة بمثابة النموذج المصغر الذي تناول شرح وتفصيل منهج فوكو الحفري الأركيولوجي، والذي سبق أن تطرق له في كتاب الكلمات والاشياء (الحفر الاركيولوجي) حيث أعاد فيه قراءة وإكتشاف تاريخ المعرفة الغربية عبر الحقب الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) وأهمية الخطاب السائد في كل  عصر من العصور الثلاث، والذي إستناداً عليه تتكون شكل المعرفة الخاصة بالفترة الزمنية المحددة- أي بكل عصر.

يؤكد فوكو أن التّاريخ المعرفي لا يُبنى عبر التراكم والتطور والتقدم الزمني، بل أنه يسير وفق إنفصالات وإنقطاعات تكون هي المسؤولة عن شكل المعارف السائدة في كل زمن، وذلك عن طريق إبستيم خاص بتلك الفترة.  ويعرف الأبستيم على أنه مجموعة القواعد والأدوات والمسلمات السائدة في وقت ما أو مجتمع ما، والتي تساهم في تشكيل المعرفة؛ ويتطرق فوكو بذلك إلى الوثائق التاريخية مؤكداً أن باحثي التاريخ التقليديين كانوا يتناولون الوثائق التاريخية للتأكد من وثوقية المعلومات وعن صحتها وخطئها ( المنهج التقليدي). أما فوكو فهو على خلاف ذلك حيث لا يجنح للتأويل إنما يحاول إستنطاق تلك الوثائق، وذلك من خلال تحليل الخطاب وفق شبكة من العلاقات التي كانت سائدة في الفترة التي عمد تحليلها، وبذلك نجد أن للخطابات دور رئيس في بناء المعرفة في أي عصر وبهذا فهو يقول : أنه لا يمكن قراءة أي عصر معرفي قراءة صحيحة مالم تتم معرفة الخطاب السائد في ذلك العصر، ويسعى فوكو دائماً لفضح العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكداً أن إمتلاك الخطاب هو إمتلاك للسلطة.

لا ينظر فوكو للخطاب على أنه ظاهرة لغوية فحسب، و لايعير إهتماماً باللغة التي صيغ بها الخطاب، بقدر إهتمامه بالعبارات والإفادات التي يحتويها الخطاب، وينصب إهتمامه حول معرفة القواعد والشروط التي أنتجت الخطابات، و لماذا ظهرت هذه العبارة أو الإفادة تحديداً دون سواها، ولماذا اختفت هذه العبارات في هذا الخطاب وظهرت في الخطاب الذي يليه أو يسبقه. والخطاب لايقتصر على ماهو مكتوب أو ملفوظ فقط، بل يضم لذلك نمط الحياة، الثقافات السائدة، طريقة التفكير الخاصة بمجتمع معين أو عصر بعينه.

ويؤكد فوكو دائماً عن لامركزية الذات الفردية ولا يؤمن بها مشيراً إلى أن الأفراد مهما بلغوا من الذكاء فليسوا بقادرين على إبتكار أي شيء من عندهم، وإنما الخطاب السائد وتوافر عوامل محددة خاصة بكل عصر هي التي تساهم في تكوين المعرفة، أي أن الذات الفردية المبدعة لاتحظى بأهمية لديه، وأن المعرفة موجودة بمعزل عن البشر، فقط هنالك عوامل بعينها وظروف محددة ساهمت على ظهور نوع محدد من المعارف ، أي أن الذين سطرهم التاريخ كقادة ومفكرين ومبدعين محدثين  تغييرات فيه هم ليسوا سوى منتوج خطاب سائد، فلو لم يكتشف داروين في ذلك الوقت نظرية التطور، لظهر غيره وأكتشفها لأن العوامل والعناصر المساهمة في ذلك متوفرة لظهور هكذا نوع من العلوم، وهذا ماحدث فحينما كان يعمل داروين على نظرية الإنتخاب الطبيعي، كان صديق له قد توصل إلى ذات ماتوصل إليه في دولة أخرى، وكما داروين فكذلك  كارل ماركس فالخطاب السائد في ذلك العصر والظروف المعاشة بجانب عوامل أخرى، هي التي أدت لظهوره، وإن لم يكن هو بالتحديد من المؤكد شخص غيره، وبهذا فهو يرى أن الأفراد ليسوا منتجي للخطاب بل هم منتوجه وهو المسؤول عن تغيير طرائق التفكير والمعرفة بتغيره عبر الأزمنة فما كان سائدً في أفكار وخطاب ونمط حياة  في عصر النهضة أنتج معرفة تختلف كلياً عن تلك التي المعرفة التي تكونت في العصر الكلاسيكي وذلك وفق حدوث قطيعة معرفية أو إنفصال أدى لتشكل نمط تفكير مغاير تماماً عن العصر الذي سبقه. لتوضيح ذلك بمثال حينما تناول فوكو تاريخ الجنون في (كتاب الجنون في العصر الكلاسيكي) وجد أن مفهوم الجنون في كل عصر من العصور الثلاث تكون وفق أسس مختلفة، ففي عصر النهضة والذي كان يسيطر عليه الخطاب اللاهوتي الديني  كان يُنظر إلى الجنون على أنه على درجة من العقل، إذ كان ينظرون إلى الشخص المجنون على أنه بلغ مبلغاً من الحكمة والمعرفة جعلته يرتقي إلى درجة أعلى (الجنون) وبذلك كان يعامل المجنون بتقديس وإحترام ويتم التبرّك به عادةً، بغض النظر عن التصرفات التي قد تكون مشينة أحياناً، ولكنهم يرون أنه يعبر عن جزء من طبيعتهم المكبوتة.

وبالإنتقال الى العصر الكلاسيكي الذي يبدأ بديكارت، نرى أن النظرة إلى المجانيين تغيرت كلياً، فالخطاب السائد في ذلك العصر هو خطاب العقلانية، حيث وضع  الأنسان العاقل في إطار كوجيتو ديكارت ( أنا أفكر إذاً أنا موجود) وبالتالي فالمجنون شخص غير عاقل لأنه لا يفكر فهو إذاً ليس موجود، وكان سائدًا أن الشخص الذي يمتنع عن التفكير، إنما يعطل عقله بمحض إرادته ولذا فهو مجنون، لا فرق بينه وبين الحيوان الذي لا عقل له، لذلك بنيت بيوت الحجز الكبير (معتقلات المجانين) في أوربا ليودع فيها الحمقى والمجانيين، مع الإشارة إلى أن الايداع في تلك المعتقلات لم يكن على أساس طبي وإنما إستناداً لخطاب العقل الذي كان سائداً في العصر الكلاسيكي.

أما في العصر الحديث تغيير ذلك تماماً بظهور الطب العقلي والطب النفسي، وأصبح الجنون يتعامل معه وفق أسس طبية وعلمية، بخلاف ما ساد في العصرين، وبهذا يتضح جلياً المفارقة التاريخية في تاريخ الجنون وتشكّله عبر كل عصر بطريقة مختلفة وفق الخطاب السائد في الفترة المحددة، وكما ذكرت آنفاً فإن فوكو حينما يرغب في تحليل المعرفة في عصر ما، يعود للخطاب في ذلك العصر ويقوم بتحليله وفق شبكة من العلاقات التبادلية في المجالات المختلفة ( الادب ، السياسية، الفلسفة، الدين، الإقتصاد...الخ) فلتحليل الجنون في عصر ما ، يعود للخطاب الديني ليعرف ماكتب عنه، الخطاب الفلسفي، الخطاب الأدبي، الخطاب الإقتصادي... الخ وجميع  هذه الخطابات تترجم وتوضح كيف كان ينظر للجنون في ذلك الوقت مما قيل عنه أو كتب أو عرف.، وفي هذا يرى فوكو أن الممارسات الخطابية هي التي تحدد المعرفة، لذا لمعرفة تاريخ كل علم فإنه يجب العودة لما قيل عنه في مختلف الأوقات، وعلى هذا يؤكد فوكو أن العبارات أو الافادات التي قيلت قديماً وحديثاً تتناسق مع بعضها البعض وعلى هذا الأساس تنتج العلوم.

ويؤكد فوكو أن حفريات المعرفة لاتسعى إلى تحديد الخواطر والتماثُلات والموضوعات الأساسية التي تختفي وتظهر في الخطاب، بل يحدد الخطابات نفسها من حيث أنها ممارسة تحكمها قواعد معينة، ولا ينظر للخطاب على أنه وثيقة ولا يعتبره علامة أو إشارة تحيل إلى شيء أخر، ولا عنصراً مهما بلغ من الشفافية نكون ملزمين في الغالب بإختراق عتمته وضبابيته لنصل الى ماهو عميق وجوهري، بل تهتم بالخطاب بوصفه نُصباً أثرياً، فالحفريات ليست مبحث تأويلي، لكونها لاتسعى إلى اكتشاف خطاب آخر يتوارى خلف الخطاب المعين، وترفض أن تكون دراسة تبحث عن المعنى الحقيقي خلف المعنى الظاهر. وكما أنها لا تسعى إلى استكشاف مظاهر الاستمرار غير المحسوس الذي يربط بكيفية اتصالية الخطابات بما يسبقها أو مايحيط بها، ولا اللحظة التي تكوّن فيها الخطاب أو الصورة التي ظهر بها، بل تعمل على تحديد الخطابات في خصوصيتها، وإبراز كيف أن  القواعد التي تخضع لها تلك الخطابات، لا يمكن إرجاعها إلى أي شيء آخر، ينحصر في تتبع الخطابات من خلال مظاهرها الخارجية، من أجل الإحاطة واللإلمام بها بشكل أفضل، فالحفريات هدفها تحليل الفوارق والاختلافات الموجود بين صيغ الخطابات، وليس البحث عن صحت الأراء أو بطلانها.

ويقر فوكو أن الحفريات لا تسعى الى أن تبرز ماكان يفكر فيه البشر، أو ما شعروا ورغبوا به في اللحظة التي كانوا يصيغون فيها كتابات خطاباتهم، أي أنها لا تحاول أن تردد ما قيل، من خلال التعمق في ماهية وهوية الخطاب. كما أنها لن تكون قراءة تسمح بإستعادة النور البعيد في صفائه، النور الذي كان خافت قبل القراءة، بل هي وصف منظم للخطاب تجعل منه موضوع للتحليل الحفري، كما أنها لا تسعى أن تكون دراسة نفسية أو إجتماعية، ولاحتى بحثاً انثربولجي للإبداع يربط الحفريات بالإنسان، ولا أن تركز على الأثر وتعليّ من شأنه، وتحصر إهتمامها فيه، بل تسعى إلى تحديد أنماط وقواعد الممارسات الخطابية التي تحكم الأثار الفردية وتوجهها أحياناً توجيها كلياً، بحيث لا ينجو من هيمنتها شيء، لذا فإن التأكيد والإلحاح على دور الذات المبدعة وإعتبارها علة وجود الأثر ومبدأ الوحدة، أمر لا يعترف به المنهج الحفري لفوكو، فهو يجعل من الذات الفردية جزء من العوامل في الخطاب  التي ساهمت في إنتاج المعرفة، وذلك بتفاعلها مع محيطها، وبهذا فإن الذات الفردية ليست هي الجوهر الذي ينتج المعرفة.

***

مودة جمعة

في المثقف اليوم