أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: موضعة الذات في النفس والوجود

الماركسيون لا يفصلون الوجود عن المعنى لانهم يدركون تماما ان الذاتية البشرية قد اودعت دلالاتها منذ الاف السنين في صميم الاشياء. (نقلا عن د. زكريا ابراهيم).

السؤال هو هل هناك وجود يدركه العقل لا يحمل معناه معه؟ الجواب ان الادراك العقلي وتعبير اللغة لا يعبران عما ليس له معنى. والشيء الذي ليس له معنى غير موجود. ما يرتب ان يكون لكل موجود مدرك معنى. والا لما استطاعت اللغة التعبير عنه...الذاتية كجوهر انساني هي تطور رافق التطور الانثروبولوجي للانسان. والذاتية هي تراكم خبرة التاريخ في الانسان والطبيعة. فهل تاريخ الانسان هو تموضع الذات الادراكية في كل شيء وصلتنا معرفته؟ رواد تجديد الفينامينالوجيا يتقدمهم ميرلو بونتي ترى ذلك صحيحا على اعتبار مرجعية الذات النفس وليس العقل.

الذاتية حين ننظر لها بمعيارية الوعي القصدي المحكوم بالارادة الانسانية عندها تصبح الذات تموضعا تاريخيا تجريديا للارادة القصدية المفصح عنها في المتراكم الخبراتي عن المعنى المعرفي المدّخر في تاريخانية اللغة. ويذكر دكتور زكريا ابراهيم ايضا ان اتهام الماركسية لفينامينولوجيا هوسرل انها (لازمنية ولا تاريخية) ماجعل تلامذته يبحثون عن فلسفة ظاهراتية تفسح مجالا للتاريخ وابرز من قام بهذا المسعى هو الفيلسوف الفرنسي الكبير موريس ميرلوبونتي في محاضراته في الكوليج دي فرانس.

الحقيقة التي يرغب الفلاسفة الماركسيون تجاوزها هي ان تاريخ الفلسفة يشير بوضوح ان الفلسفة عبر العصور كانت لاتاريخية وغير زمنية على الدوام وهذه هي طبيعتها الفكرية. ولو لم يكن تاريخ الفلسفة هو قطوعات غير مترابطة ولا متسلسلة لا زمنيا ولا تاريخيا لوجدنا انفسنا امام فلسفة هي علم يقوم على تراكم خبرة تجريبية معرفيا لكن حقيقة الفلسفة كتجريد لغوي ليست علما ولا حتى تراكم خبرة ابستمولوجية معرفية. ومقولة الفلسفة هي أم كل العلوم لكنها ليست علما مستقلا بذاتها مقولة تحتاج براهين فلترتها التجريبية للتحقق من هذا الادعاء المجاني. الذات هي اقرب موضعة بالتاريخ منها بالعلم.

تموضع الذات بالاشاء

حين حاول هوسرل خلق توليفة متجانسة بين الظاهراتية وعلم النفس برزت امامه والفلاسفة الذين كانوا يبحثون عن تجديد للفينومينولوجيا في ايجاد صيغة ظاهراتية لم تكن مبحثا مطروقا بالصيغة التي جاء بها مذهب وحدة الوجود رغم الاختلاف الكبير بين الفينامينالوجيا ومذهب وحدة الوجود في تعالق وحدة الذات مع الجوهر. أن تجد الذات متموضعة كخبرة تراكمية تاريخية في وعي الاشياء وبين تموضع الجوهر الازلي الالهي في موجودات الطبيعة والعالم من حولنا فمثلا حينما يرى البوذي او متصوف الزن او افراد قبائل المايا الذين لا يعرفون اي شكل من اشكال الاديان التوحيدية انه اي الفرد هو ذاته الزهرة او هو ذاته النهر الجاري او نوع من الحيوان التي يذهب في تاملهما جماليا اعجازيا بحيث يجد في تلك الاشياء ذاته الانسانية متموضعة تصوفيا فيها لكنه لا يؤمن بجوهر خارق القدرة صانع لهذا الجمال في تلك الموجودات الطبيعة.

فهذه النظرة التصوفية الحلولية في موجودات الطبيعة بعيدة جدا عن صوفية تأملية وحدة الوجود الايمانية الاسبينوزية الميتافيزيقية التي ترى بالزهرة جوهرا الهيا وليس ذاتا انسانية غير مدركة ولا يمّثل تموضعا صوفيا للذات بالاشياء.

الظاهراتية المجددة تذهب نحو منحى تموضع الذات كخبرة تراكمية وصلتنا عبر التاريخ الطويل ايضا لا يمكن ادراكها كموضوع ويكون مرجعيتها علم النفس. اما الجوهر في تموضعه بالموجود كجوهر ازلي الهي في مذهب وحدة الوجود هو ايضا لا يدرك كموضوع للعقل لكنه ميتافيزيقا تصوفية صرف تماما.. .

وكذلك تختلف عن نظرة علم النفس الذي يرى ان الذات هي معطى غير مستقل عن الاشياء بل الذات تموضع تراكمي وخبرة تاريخية تنوجد قبليا بالاشياء تسبق وعي الذات لمدركاتها. الكثير من المدركات التي تعيها الذات في حياتنا ولم يسبق لنا ان مررنا بها يزامنها شعور نفسي ان هذه المدركات تحتوي جزءا من تكويننا النفسي. هذا يذكرنا بنظرية شيلر في ذهابه ان الاشياء في وجودها المادي المستقل انما هي تحمل خاصية انها بموجوديتها الكينونية قابلة للادراك وليست خاصية قابلية الادراك يمتلكها العقل في قدراته  خلق امكانية الادراك في تلك الاشياء والموجودات.

الذات تأمل حسّي مستقل بوعي المغايرة الموجودية والمغايرة الادراكية المتلازمتين بعلاقتها مع الطبيعة والعالم الخارجي. واضاف لها بعض الفلاسفة انها خبرة موزعة تموضعيا بالطبيعة وعالم الاشياء غير مدركة لكنها حدسية نفسية يمكننا الاحساس بها.

اننا بالحقيقة مهما حاولنا أن نجعل من الذات جوهرا مستقلا كموضوع وعي العقل تختلف عن توزعها كخبرة متموضعة بالاشياء نجد انفسنا وصلنا الى ان حقيقة هذا التجاهل هوالهروب امام حقيقة تموضع الذات في مجمل تجارب وخبرات الفرد طيلة حياته. والتي استقرت بتفكيره وعقله كخبرة بالحياة تلازمه ملازمته الموجودات في المحيط الذي يعيشه..

لذا الذات ليست هي خاصية الفرد المستقلة عن الطبيعة وموجودات العالم. نعم هذا هو الادراك الساذج لتحقق الذات بالمغايرة الموجودية. بل الذات حسب علم النفس الظاهراتي انما هي التصورات القبلية الموجودة في كل شيء تدركه الذات حدسا نفسانيا شعوريا عبر زمن تاريخي بعيد جدا.

الدارج فلسفيا هو اننا ندرك ذاتيتنا بالمغايرة الادراكية الموجودية ضمن الطبيعة والوجود ولا ندرك الذات انها خبرة تراكمية في الموجودات التي تحيط بنا ونتعامل معها. الذات المستقلة ليست ذاتا حقيقية حين تنكر الذات موضعتها الخبراتية بكل شيء حسب فلسفة التجديد في الفينامينالوجيا بارتباط الذات الوثيق بعلم النفس. دليل ذلك ان وعي الشيء ليس قبليا على وجوده المادي بل بعديا له. في الغالب يجد الوعي بمدركاته ان ذاتيته كخبرة موجودة تموضعيا غير مدركة بالاشياء انما يكون وعيا زمنيا بالحاضر فقط.

الذات والجوهر

هل الذات جوهرا موجوديا بالاشياء يوازي او يقوم مقام الجوهر الازلي الطبيعي الهيا في وجوده في كل شيء من الطبيعة. بمعنى عبارة اخرى هل الذات المتموضعة بالاشياء تغنينا عن التفكير في موضعة الذات بالاشياء كما هي في مذهب وحدة الوجود الاسبينوزي الذي يرى ان الجوهر الالهي موجود بكل شيء يدركه العقل او حتى في الذي لا يدركه. وهو ما نجده في ادبيات التصوف الديني. في مذهب وحدة الوجود نرى افتراضية الجوهر الالهي الازلي موجودا بكل شيء. فهل من المتاح المستطاع ان نقول ان ذواتنا موجودة تموضعيا بكل مدركاتنا الحسية والانفعالية الوجدانية كما هو الحال في وجود الجوهر الالهي موزعا على كل شيء في الطبيعة وفي عالمنا. هذا الافتراض تجده الفينامينولوجيا الجديدة هو المطلوب الصحيح الذي تبحث عنه. هذه المقارنة التقاربية تصطدم بجدار ان الذات هي جوهر يدركه العقل كموضوع. الذات في حقيقتها الوجودية هي ليست موضوعا مستقلا للعقل بل هي التموضع العقلي في وعي الذات لعقلانيتها الوجود والاشياء. الذات هي الوعي الكلي للعقل, والجوهر الالهي ايضا ليس موضوعا مستقلا يدركه العقل. لكن يمكن للمتصوف التعامل معه تأمليا حدسيا في مرجعية النفس وليس في مرجعية العقل.

الذات والوعي اللازمني

الذات بصفتها الادراكية لعقلانيتها الاشياء والوجود لن تكون لازمنية بخلاف اتهام الماركسية ان الذات بفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل هي لازمنية. والمصطلح الذي خلعته الماركسية ايضا على الوعي انه لازمني ولا تاريخي فهو على العكس زمني وتاريخي معا. ولا يبقى هناك ما يسمى الوعي خارج اطار ملازمته الزمن والتاريخ.

اللاشعور لا يحتاج الزمن مقولة اكدها فرويد وهي صحيحة في علم النفس التجريبي. الذات والوعي هما حلقتان في تركيبة الشعور النفسي وبانعدام صفتي الزمنية والتاريخية عنهما يعني ذلك تعطيل فاعلية العقل بالتفكير الطبيعي السوي في فهمنا الحياة وادراكنا موجوداتها. اللاشعور اي اللاوعي هي تداعيات لازمنية ولا تاريخية لكن في حال اجرينا مقارنة هاتين الخاصيتين على الوعي او الشعور نجد انفسنا امام استحالة تعجيزية لعمل العقل.

ليس من السهل ان نصف الشعور او الوعي جوهرا لازمنيا. هذا يقودنا نحو الاقرار الذي قال به برجسون ان وعي او ادراك الزمكان وحدة ثنائية واحدة غير قابلة للتجزئة والانفصال بين الزمان وبين المكان ليست صحيحة ولا ملزمة لنا الاخذ بها اذ ان قابلية عقولنا ادراكها المكان لا يلزم عنه محايثة زمانية تلازمه يصعب البرهنة عليها. عندما نقول تعجيز العقل يكمن في اننا لا يمكن ادراكنا المكان من غير ملازمة زمنية له تحتاج فعلا الى برهنة اثبات هذه الفرضية. فحين تتعامل مع حقيقة ادراكنا العقلي للمكان في غياب زمن لا يمكنك تعريف ماهو ولا كيف يلازم ادراكاتنا فهذا شيء يستحق الوقوف عنده.

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

في المثقف اليوم