أقلام فكرية

سوزان هاك: الفلسفة بوصفها مهنة.. وبوصفها رسالة

بقلم: سوزان هاك

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها - 2025م

العنوان الأصلى للمقال

Philosophy as a Profession, and as a Calling

Susan Haack

***

الملخص:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، تخصصًا أكاديميًا يُمارس في الجامعات والكليات. وقد يظن المرء — كما تشير هاك — أن مأسسة الفلسفة واحترافها يعني أن إنتاجها أصبح أكثر وأفضل؛ لكنها تواصل قائلةً، للأسف، إن الأمر ليس كذلك. في هذا المقال، تستكشف هاك الاختلاف بين ممارسة الفلسفة بوصفها مهنةً أو وظيفة، وبين ممارستها بوصفها دعوةً أو رسالة، وتوضح الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يجدون أنفسهم على خلافٍ مع القيم “الإدارية” التي تهيمن على المهنة الأكاديمية.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

الملخّص بالايطالية:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، مجالًا أكاديميًا يُمارس أساسًا في الجامعات والكليات. قد يُظن — كما تقول هاك — أن احتراف الفلسفة يعني ليس فقط إنتاجًا أكثر، بل أيضًا إنتاجًا أفضل؛ غير أنّها تتابع قائلةً: للأسف، ليس الأمر كذلك. في هذا المقال، تتناول هاك الاختلاف بين التفلسف بوصفه مهنةً أو عملًا، والتفلسف بوصفه دعوةً أو رسالة، وتبيّن الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يميلون إلى الاصطدام بـ القيم “الإدارية” السائدة في المهنة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

«إن الطبيعة الفلسفية […] ستنمو لا محالة لتتحلّى بكل فضيلة إذا ما تلقت التعليم الملائم؛ أمّا إذا زُرعت وغُرست ونَمَت في بيئة غير مناسبة، فإنها ستتطور على النقيض تمامًا…»(1)

لكن، لِيستسلِم من يشاء لفصل هذين الأمرين،أمّا غايتي في الحياة فهي أن أوحّد مهنتي وهوايتي،كما تتّحد عيناي لتُبصِرا معًا رؤيةً واحدة.فحيثما يلتقي الحبّ بالحاجة،ويغدو العمل لعبًا من أجل رهانٍ بشريّ،حينها فقط يُنجَز الفعل حقًّا،من أجل السماء ومن أجل المستقبل.(2)

المقدمة

بالطبع، لم تكن الفلسفة دائمًا مهنةً أو تخصّصًا أكاديميًا يُمارَس أساسًا في الجامعات والكليات. فقد نال رينيه ديكارت(1596- 1650) –  درجةً في القانون المدني والكنسي، غير أنّه بدلًا من ممارسة المحاماة التحق عام 1618 متطوّعًا بجيش موريس ناساو، ثم لاحقًا بجيش ماكسيميليان البافاري. وفي أواخر عام 1646 بدأت الملكة كريستينا السويدية مراسلاتٍ معه أدّت في النهاية إلى انتقاله إلى السويد عام 1649 برعايتها الملكية.(3) أما بندكت باروخ  سبينوزا(1632-1677) , فقد رفض مناصب تدريس مرموقة، واختار بدلًا من ذلك أن يقتات من عمله في صقل العدسات للأدوات البصرية، متعاونًا في تصميماتها مع كريستيان هويغنس. وقد أدّت أفكاره الفلسفية إلى نبذه من قِبل طائفته اليهودية، ووُضع كتابه الأخلاق (4) على فهرس الكتب الممنوعة التابع للكنيسة الكاثوليكية.(5)

أما جون لوك(1632-1704) ، فقد تلقّى تدريبًا في الطب، ثم عُيّن لاحقًا طبيبًا خاصًا لكفيله أنتوني آشلي كوبر، أوّل إيرل لشافتسبري.(6) في حين كان جورج باركلي(1685-1753)  الابن الأكبر لـ ويليام باركلي، وهو نبيل أنجلو-إيرلندي من الدرجة الصغرى. بعد أن ألقى محاضراتٍ في اللاهوت واللغة العبرية في كلية ترينيتي بدبلن، نال في عام 1721 الرتبة الكنسية، ثم عُيّن عميدًا على درومور(1721-1722)، وبعدها على ديري (1724).   وفي عام 1723 تلقّى ميراثًا من إيستر فان هويمريخ، وتزوّج عام 1728 وسافر إلى أمريكا، قبل أن يعود عام 1732. وفي عام 1735 عُيّن أسقفًا أنجليكانيًا على كلون.(7)

كان ديفيد هيوم) ١٧١١–١٧٧٦ (الابن الثاني في عائلته، وكانت وراثته ضئيلة؛ لذلك انتقل إلى فرنسا حيث كان يمكنه العيش بتكلفة أقل، وهناك بدأ – في سن الثالثة والعشرين – في كتابة مؤلفه الشهير مبحث في الطبيعة البشرية.وفي عام ١٧٤٥ قبل وظيفة مُربيٍ لشابٍ من النبلاء، غير أنّ هذا الأخير تبيّن أنه مجنون؛ فترك العمل بعد عامٍ واحد ليصبح في ١٧٤٦ سكرتيرًا لابن عمه، الفريق جيمس سانت كلير، ورافقه لاحقًا في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا.وبين عامي ١٧٥٤ و١٧٦٢ عمل أمين مكتبة في جمعية المحامين في إدنبرة، ثم أصبح سكرتيرًا للسفارة البريطانية في باريس، قبل أن يتقاعد في إدنبرة عام ١٧٦٩.(8) أما توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) فقد كان قسًّا في الكنيسة الأسكتلندية حتى عام ١٧٥٢، حين أصبح أستاذًا في كلية كينغز بأبردين. وبعد نشر كتابه الأول بوقت قصير، عُيِّن أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو، وهو المنصب الذي كان يشغله من قبل آدم سميث.(9)

كان جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣) إداريًّا استعماريًّا في شركة الهند الشرقية منذ عام ١٨٢٣ حتى عام ١٨٥٨، كما شغل عضوية البرلمان عن منطقتي سيتي ووستمنستر من عام ١٨٦٥ إلى ١٨٦٨، وهي الفترة التي كان فيها أيضًا المدير الأعلى (اللورد ريكتور) لجامعة سانت أندروز.(10) أمّا تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)، فباستثناء بضع سنوات عمل فيها محاضرًا في جامعة جونز هوبكنز، فقد أمضى معظم حياته المهنية عالِمًا في هيئة المسح الساحلي الأمريكية، إلى أن استقال عام ١٨٩١ وانتقل للعيش من إرثٍ تركه له والده، عالم الرياضيات بنجامين بيرس.(11)أما فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل فقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل من عام ١٨٦٩ إلى ١٨٧٩، واضطر إلى الاستقالة من مهامه الأكاديمية بعدما اكتشف أنه لا يستطيع استعمال عينيه لأكثر من عشرين دقيقة يوميًّا. غير أنه، وبفضل معاشٍ تقاعدي من الجامعة ودعم من الجمعية الأكاديمية التطوعية في مدينة بازل، بدأ بكتابة أهم أعماله الفلسفية. وفي عام ١٨٨٩ أصيب بانهيارٍ جسديٍّ تام، لكنه عاش حتى وفاته بسكتة دماغية عام ١٩٠٠ .(12)

أما جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل الرياضيات في جامعة يينا، وقد عاش في بدايات حياته المهنية على منحٍ دراسية غير مدفوعة الأجر أو زهيدة الأجر، واضطر إلى الاعتماد على إعالة والدته.(13) في حين عاش جيريمي بنتام على إرثٍ تركه له والده، جيرماياه بنثام، الذي كان محاميًا ناجحًا للغاية.(14) في الأزمنة الأحدث، طُرِد برتراند راسل (١٨٧٩–١٩٧٠) من منصبه في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج بعد أن أُدين وحُكم عليه بالسجن بموجب قانون الدفاع عن المملكة بسبب موقفه السلمي المعارض للحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك، وفّر له كتابه الشهير تاريخ الفلسفة الغربية (١٩٤٥)(15) دخلًا ثابتًا ومضمونًا مدى الحياة.(16) أما لودفيغ فيتجنشتين (١٨٨٩–١٩٥١) – الذي كان جنديًّا متطوعًا في الجيش النمساوي-المجري أثناء الحرب العالمية الأولى – فقد عمل بستانيًّا ومعلّمًا في المدارس قبل أن يعود إلى جامعة كامبريدج عام ١٩٢٩ .(17)

ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فإن الغالبية العظمى من الفلاسفة هم أساتذة أو محاضرون في مؤسسات أكاديمية. نعم، هناك أيضًا فئة من «الباحثين المستقلين»، ولكن كثيرين منهم، على الأقل، هم أشخاص لم ينجحوا في الحصول على وظيفة أكاديمية. ونعم، هناك عدد غير قليل ممن يشغلون مناصب في أقسام الفلسفة ربما لا يرون أنفسهم فلاسفة بالمعنى الحقيقي، بل مجرد معلّمين للفلسفة، دون ادّعاء أو طموح لأن يكونوا فلاسفة بحق.

ومع ذلك، توجد استثناءات نادرة — مثل الفيلسوف الراحل روجر سكروتون، الذي غادر الوسط الأكاديمي بعد عدة عقود، وبدأ يعتمد على نفسه في المعيشة، على ما يبدو، من خلال العمل في الاستشارات لصالح عدد من الشركات في دول الكتلة السوفيتية السابقة، ثم لصالح شركات التبغ، وكذلك من خلال عمله مع مراكز الأبحاث الفكرية، وغير ذلك(18) — لكن، باستثناء هذه الحالات القليلة، يمكن القول إن الفيلسوف في أيامنا هذه هو في الغالب أستاذٌ للفلسفة.

***

قد يخطر ببالك أن هذا يعني أن إنتاج الفلسفة اليوم أكثر، وأن بعضه — على الأقل — أفضل مما كان عليه في الأزمنة السابقة؛ فها نحن الآن أمام آلاف الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال، لا بضع مئات فقط، ودون خوفٍ من عقوباتٍ رسمية بسبب الهرطقة أو المعارضة السياسية(19)، ومعظمهم لا يثقلهم كثير من الواجبات الأخرى، بل ويتقاضون أجورًا معقولة.لكن الواقع ليس كذلك؛ بل هو على العكس تمامًا. (وأحيانًا أتساءل إن كان جزءٌ من المشكلة يكمن ببساطة في أن المهنة قد أصبحت واسعةً أكثر مما ينبغي(20) — فشملت، لا محالة، عددًا كبيرًا من أولئك الذين لا يعنيهم من عملهم سوى قضاء الوقت).

وعلى أيّ حال، فإنّ ما نراه في الواقع هو كميات هائلة من الكتابات المنشورة، وأعداد لا تُحصى من الأوراق البحثية المقدَّمة، إلى جانب مهنةٍ باتت مفرطة التخصّص، وحقلٍ فكريٍّ متشظٍ إلى جماعاتٍ صغيرة وإقطاعياتٍ فكرية؛ وسلسلةٍ من النزعات العابرة والاتجاهات المؤقتة؛ وجبالٍ من الدوريات، تصدر كثيرٌ منها عن عددٍ قليل من الشركات التجارية العملاقة — بينما تُزاح الأعمال الجيّدة أو تُغمر وسط الضجيج.وبدل أن نرى أشخاصًا سعداء، شاكرين لكونهم يمارسون عملًا شيّقًا ومليئًا بالتحديات، نرى عددًا كبيرًا منهم يعانون القلق والاكتئاب أو الإرهاق وفقدان الطاقة بعد حصولهم أخيرًا على التثبيت الأكاديمي (التنّور)، أو نراهم في حالٍ من النشاط المحموم، كأنهم عاجزون عن التوقف عن إنتاج المواد الهزيلة التي أوصلتهم إلى تلك المرحلة.

ومن هنا يتحدد موضوعي في هذا المقام: الفرق بين الفلسفة بوصفها مهنةً أكاديمية، والفلسفة بوصفها نداءً أو رسالة — لا بمعناها الديني، بل بالمعنى الذي نصف به مثلًا مهنة التمريض على أنها (بالنسبة لبعضهم) رسالةً أو دعوةً.وهذا التمييز يتجاوز الفارق التقليدي بين "المحترف" و"الهاوي". فكلٌّ من الهاوي وصاحب الرسالة الفلسفية سيواصل الاشتغال بالفلسفة حتى لو لم يُدفَع له أجر لقاء ذلك. غير أنّ مصطلح «الرسالة» كما أستخدمه هنا لا يحمل أيًّا من الدلالات السلبية التي اكتسبها لفظ «هاوٍ» — أي الإيحاء بمرتبةٍ أدنى، كمن يلعب في «دوريٍّ ثانويٍّ» لا في «الدوريّ الممتاز».وحين أتحدث عن أولئك الذين يملكون رسالةً فلسفية، أعني الذين يمارسون الفلسفة بجدٍّ وصدق، ويسعون حقًا إلى فهم الأمور على نحوٍ عميق، حتى لو لم يتقاضَوا أجرًا على ذلك. ومثالٌ واضحٌ على ذلك هو تشارلز ساندرز بيرس، الذي واصل عمله الدؤوب والمنتج في الفلسفة والمنطق والسيميائيات وتاريخ العلوم، قبل أن تطرده جامعة هوبكنز بزمنٍ طويل، واستمر على ذلك المنهج عقودًا بعدها.

وبطبيعة الحال، فإن الفلسفة بالنسبة إلى قلةٍ منّا تُعد في آنٍ واحد مهنةً ورسالة. غير أنّ هذا، كما سأبيّن، يتركنا في كثيرٍ من الأحيان ممزقين بين قيمٍ متعارضة وطموحاتٍ متباينة. ذلك أنّ ممارسة الفلسفة بنجاح — وأعني بها إحراز تقدمٍ في مسألةٍ أو أكثر، أو حتى الوقوع في خطأ صادقٍ يمكن أن يتيح للآخرين فيما بعد أن يُحسنوا التقدّم — تتطلّب مهاراتٍ مختلفة اختلافًا جوهريًا، ومزاجًا مختلفًا، ومواقف مغايرة عمّا يتطلّبه النجاح في مهنة الفلسفة ذاتها، أو في وظيفة أستاذٍ جامعيّ.فإن الطموح الجوهري للفيلسوف هو اقتحام حصن المعرفة، أو على الأقل — كما يقول بيرس — أن يكون أحد الجثث التي تتسلّق فوقها الأجيال اللاحقة في طريقها إلى الحقيقة.(21) ومن الجليّ أن هذا ليس هو الطموح الأساسي لمن يسعى إلى النجاح في المهنة الفلسفية اليوم. إن «الطبيعة الفلسفية» التي يتحدث عنها أفلاطون تُصغي إلى النداء، غير أنها يسهل فسادها إذا وُجدت في بيئةٍ رديئة.

لا تفهمني على نحوٍ خاطئ: لست أقول إنّ أولئك الذين يعدّون الفلسفة نداءً أو رسالةً يؤدّون دائمًا، أو بالضرورة، عملًا أفضل في تطوير الفهم الفلسفي من أولئك الذين يتعاملون معها كمهنةٍ فحسب — فليس الأمر كذلك. فحتى أكثر المخلصين تفانيًا قد يُضيعون وقتهم في طرقٍ مسدودة، كما أن أكثر "المحترفين" تشككًا أو برودًا قد يصيبون أحيانًا شيئًا بالغ القيمة.ولست أقول أيضًا إنّ من يتخذ الفلسفة مجرد وظيفة لا يمكنه أن يكون جادًا تمامًا في عمله، أي أن يسعى بصدقٍ إلى معرفة حقيقة المسائل التي تشغله. غير أنه سيتوقف عن العمل على تلك المسائل متى كُفّ عن دفع الأجر له لقاء ذلك، ولن يُعنى كثيرًا عمّا إذا كانت تلك المسائل لا تتعدّى كونها إشكالاتٍ ثانويةً أو جزئية.

ولست أقول أيضًا إنّ من المستحيل البقاء — فضلًا عن الازدهار — في مهنتنا مع الاستمرار في القيام بعملٍ فلسفيٍّ جادٍّ وأصيل؛ غير أنّ ما أقوله هو أنّ ذلك بالغ الصعوبة — أشدُّ صعوبةً مما ينبغي، أو مما كان سيكون عليه الحال لو كانت مهنتنا، وجامعاتنا عمومًا، أكثر توجّهًا نحو حياة الفكر مما هي عليه الآن.

وسأبيّن أنّ هناك توترًا حقيقيًا بين ما يمكن أن أسمّيه، في غياب مصطلحٍ أفضل، «القيم والأهداف الإدارية» لتلك المؤسسات، وبين القيم الفكرية أو المعرفية للباحث الحقيقي عن الحقيقة.

سيبدأ هذا البحث ببيان تلك القيم والأهداف المتعارضة، ثم يتابع ببعض التأملات حول السبب الذي يجعل — كما رأى أفلاطون — المزاج الفلسفي قابلًا للفساد بسهولةٍ في بيئةٍ غير ملائمة.(22)

أولا: أبدأ بمخططٍ تمهيدي — وأخشى أن يكون أشبه بمرثيةٍ نقدية — عن الحالة الراهنة لمهنتنا.

حدث انفجار في عدد المنشورات، وتكوُّن الشِلَل والاتحادات الاحتكارية، وتراجع في الجودة: فكتالوجات الكتب لدى الناشرين تزداد سُمكًا عامًا بعد عام، ولكن دون أن يعود ذلك بالنفع على التقدُّم الفلسفي. فالكثير من هذه الكتب لا تُباع منها سوى بضع مئات من النسخ في أحسن الأحوال – وربما أقل من ذلك في حالة الكتب المنشورة بطريقة "الطباعة عند الطلب"(23) – وغالبًا ما تُطرح بأسعار مرتفعة إلى حدٍّ لا تستطيع سوى قلّة من المكتبات تحمّله.

وقد حدث كذلك انفجارٌ هائل في عدد المجلات – بعضها، ولحسن الحظ، ما يزال مستقلًّا – لكن كثيرًا منها بات الآن مملوكًا لتلك الدور التجارية العملاقة: سبرينجر (Springer)، إلسيفيير (Elsevier)، دي جرويتر (de Gruyter)، تايلور وفرانسيس (Taylor & Francis)، وغيرها، بل وحتى أوكسفورد وكامبريدج. تصدر هذه الدور آلاف المقالات، غير أن معظمها لا يُقرأ (وبحقٍّ)، أو لا يقرؤه إلا الأعضاء أنفسهم من الدائرة الضيقة ذاتها من المتخصصين الذين يكتبونها ويقيّمونها، في حين يدور عدد كبير منها حول موضوعات عابرة وهزيلة مثل نقد (X) لتفسير (Y) لتعليق (Z) على   . (W)(24)

تُباع اشتراكات هذه المجلات للمكتبات بأسعار باهظة للغاية، ويُبرَّر هذا الثمن بأن محتواها قد خضع لمراجعة من قِبل الأقران؛ غير أنّ ما إذا كانت هذه المراجعة تُعَدّ ضمانًا حقيقيًا للجودة، أو حتى لمستوىٍ أدنى من الكفاءة، فهو أمر مشكوك فيه للغاية(25).والواقع أنّ الطوفان المتزايد من المقالات المقدَّمة للنشر، ولا سيما من طلبة الدراسات العليا الذين يأملون أن يساعدهم ذلك في الحصول على عمل، قد أصبح طاغيًا إلى درجةٍ تفوق قدرة المجلات على الاستيعاب؛ ونتيجةً لذلك يُضطر المحررون إلى الاعتماد على محكّمين قد لا يعرفونهم أصلًا، وغالبًا ما يكونون بعيدين عن الكفاءة المطلوبة. بل لقد أُخبِرتُ أنّ بعض المحررين يكلّفون طلابهم الخريجين بتقرير أيّ الأوراق تُحال إلى التحكيم وأيّها تُرفَض مباشرةً – وهو أمر، في رأيي، غير لائق البتّة.والنتيجة الحتمية لذلك هي نشوء اتحادات احتكارية بين المحكّمين والمراجعين، وهو ما يعزّزه بدوره مظهرٌ مقلق آخر في مهنتنا: فرطُ التخصص والتجزؤ.

حتى أسلوب الكتابة الفلسفية نفسه أصبح أكثر توحّدًا، وأكثر تشابهًا ورتابة، وأقلّ انخراطًا في الفكر الحي. فمعظم ما يُنشر اليوم مكتوبٌ، على الأرجح، بلغةٍ إنجليزية أو ألمانية دوليةٍ صحيحةٍ إلى حدٍّ ما — أو يُعاد تحريره لتوحيد الأسلوب إن لزم الأمر (وغالبًا ما يتولى ذلك موظفون لا يملكون أدنى فهمٍ للموضوعات المطروحة). وقد بلغ الأمر حدًّا صار فيه الأسلوب الجاف الخالي من الحيوية هو القاعدة السائدة، حتى إنّ من يكتب بأسلوبٍ حيٍّ فعلاً، أو بإحساسٍ إيقاعي بلغةٍ إنجليزيةٍ راقية(26)، يُربك بعض القرّاء تمامًا.فعلى سبيل المثال، أصبحت الاختصارات اللغوية من المحظورات الكبرى، وصار يُفرض نمطٌ أسلوبيّ قاتم — وغالبًا ما يكون مضلِّلًا فلسفيًا وتاريخيًا — يعتمد على أسلوب الإحالات الاجتماعية-العلمية بالأسماء والتواريخ وأرقام الصفحات بين قوسين. ومع ذلك، نادرًا ما يشكو أحد، إذ يبدو أن النشر قد أصبح في الغالب مجرّد إجراءٍ شكلي؛ فمعظم الكتّاب اضطروا للتنازل عن جميع حقوقهم في أعمالهم إلى دار أكسفورد، أو سبرينغر، أو غيرها، دون أن تكون لهم أي وسيلةٍ لمعرفة ما سيؤول إليه مصير كتبهم بعد النشر.

هل هناك أعمال جيدة بين هذا الركام من الرداءة؟ على الأرجح نعم. وهل هناك أعمال مهمة فعلًا؟ ربما. لكن من المؤكّد أن بعض الأعمال الجيدة تُرفض لأنها لا تواكب الأدبيات الرائجة المعاصرة بما فيه الكفاية، وأن بعض الأعمال المهمة تُرفض لأنها غير تقليدية أكثر مما ينبغي. واحتمال أن يعثر أحدٌ على أفضل الأعمال ضئيلٌ بطبيعة الحال، لأن الطوفان الهائل من المقالات القابلة للنسيان يغمر كل شيء.وبدلًا من البحث الحقيقي، يعتمد كثيرون على متابعة أعمال من ينتمون إلى دائرتهم الضيقة، أو من «الأسماء الكبيرة» — أي أولئك المنتمين إلى أقسام أكاديمية ذات تصنيف عالٍ، أو الذين اشتهروا بحصولهم على منحٍ ضخمة، أو من يثيرون ضجةً كبيرة على الإنترنت. وهكذا نعتمد، في نهاية المطاف، على مقاييس بديلةٍ زائفة لتقدير الجودة.

الاختصاص المفرط والتشظّي: حين بدأتُ قبل عقود، كانت الأقسام الأكاديمية تضمّ بلا شكّ متخصصين في الفلسفة القديمة، وتاريخ الفلسفة، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، وفلسفة العلوم، وما إلى ذلك؛ غير أنّ هذه كانت مجالات واسعة لا زوايا ضيّقة، وكان جميع العاملين فيها يبدون اهتمامًا مطّلعًا ومعقولًا بمجالات أخرى أيضًا.أما اليوم، فنرى عددًا متزايدًا من الباحثين المتخصصين في موضوعاتٍ دقيقة للغاية مثل فلسفة أرسطو في الذهن، أو فكرة “التحليل القبلي–البَعدي” لدى كانط وكريبكه، وعددًا أقل من المهتمين بفتراتٍ تاريخيةٍ واسعة من تاريخ الفلسفة. ونرى كذلك تزايدًا في عدد المتخصصين في فروعٍ جزئية مثل نظرية المعرفة الاجتماعية، أو النسوية، أو الصورية، أو فضائل المعرفة، أو نظرية المعرفة التطورية، أكثر مما في نظرية المعرفة العامة نفسها؛ كما نرى تخصصاتٍ أدقّ في فلسفة الفيزياء، أو فيزياء الكم، أو فلسفة الأحياء، أو الأحياء التطورية، أو حتى في الفلسفة النسوية للعلم، أكثر مما في فلسفة العلم بوجهٍ عام — ليغدو لدينا مزيدٌ من المتخصصين في مجالاتٍ تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم(27).

هناك وفرة من الشِلَل والتحالفات والاتجاهات العابرة والموضات الفكرية المؤقتة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ النقاشات الدائرة في هذه الزوايا الضيقة باتت أقصر عمرًا من أي وقتٍ مضى، إذ إنّ الأسئلة التي كانت يومًا ما رائجة تختفي ببساطة من المشهد حين يسأم الناس منها. ونادرًا، كما يبدو، ما تُحلّ هذه الإشكالات العابرة فعليًا؛ بل يموت صاحب النظرية التي انبثقت عنها، أو يتقاعد، أو يختفي من الساحة الفكرية، فينتقل الناس ببساطة إلى موضةٍ فكريةٍ عابرةٍ أخرى.

ونتيجةً لذلك، أصبحت الفلسفة نفسها مجزّأة، وأصبح عددٌ أقل من أيّ وقتٍ مضى من الفلاسفة مستعدّين لرؤية الروابط العابرة بين الحقول، حتى بين مجالاتٍ قريبةٍ مثل نظرية المعرفة والميتافيزيقا، أو نظرية المعرفة وفلسفة العلم. وفوق ذلك، فإنّ جانبًا كبيرًا من الفلسفة المعاصرة بات معزولًا عن تاريخها الخاص، مفضِّلًا التركيز على الحديث والجديد فقط. أمّا القلّة الذين ما زالوا يحتفظون بنظرةٍ شموليةٍ، فإنهم غالبًا ما يكونون أصحاب أجنداتٍ فكريةٍ مسبقة، يسعون إلى الترويج لاتجاهٍ أو نزعةٍ معينة، كالمناهج «التجريبية»، أو الإلحاد، أو غير ذلك.

وهكذا نرى اليوم ما يعادل السفسطائيين الذين حذّر أفلاطون منهم — أولئك الذين يسعون لشقّ طريقهم المهني، أو لتحقيق الشهرة في أوساطٍ أوسع، عبر وعودٍ تفوق كثيرًا ما يمكنهم تحقيقه فعليًا. لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عددًا من السفسطائيين البارزين (28)، من بينهم كارل بوبر، الذي روّج لفلسفته العلمية ذات الطابع الشكّي المستتر، واليائسة تمامًا من حيث الجوهر، ليس فقط للفلاسفة بل أيضًا للعلماء والقضاة وغيرهم، على أنها مجرّد «لايقينٍ متواضعٍ وواقعي» (29)؛ وريتشارد رورتي، الذي روّج لمزيجه الفوضوي من الالتباسات ما بعد الحداثية تحت شعار «البراجماتية» (30).

واليوم، نرى السفسطائيين الجدد الذين يرفضون كلّ الأسئلة المتعلّقة بالقيم استنادًا إلى الشعار غير المبرهَن القائل بأنّ «الفيزياء تحدد جميع الحقائق» (31)، أو الذين يعدون بأنّ علم الأعصاب سيحلّ لنا جميع المشكلات الفلسفية، أو غير ذلك من الوعود الزائفة المشابهة.

ثانيا: ما الذي يفسّر كل هذا؟ أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه الكارثة ينشأ عن اختلالٍ جوهري بين ما تتطلّبه الفلسفة الجادّة من شروطٍ للبحث والعمل، وبين ما تتطلّبه البيئة الجامعية المعاصرة المهووسة بمفهوم "الإنتاجية".بل إنّي، بعد التأمّل، أميل إلى القول إنّ انشغال الجامعات المستمرّ بتحفيز الإنتاجية خطأٌ في حدّ ذاته، وأنّ الأفضل كان أن تكتفي هذه المؤسسات باختيار الأشخاص المناسبين ثم تترك لهم حرية العمل دون تدخل. فالمشكلة الحقيقية ليست في نقص الحوافز للعمل الجيّد، بل في فيض الحوافز المشوَّهة التي تدفع إلى إنتاج "أي شيء" بغضّ النظر عن جودته أو قيمته الحقيقية.

ومع ذلك، لا يمكن، بطبيعة الحال، إلقاء اللوم كله على الإداريين؛ إذ علينا أن نواجه الحقيقة المتمثّلة في أننا أسهمنا نحن أنفسنا، إلى حدٍّ ما، في جلب هذه الكارثة، عندما خضعنا بخنوعٍ لتلك القيم الإدارية المشوَّهة.

فما الذي يُحتاج إليه حقًا من أجل ممارسة فلسفة جيّدة؟إنه الاهتمام، والوقت، والقدرة العقلية، والحكم السليم، والواقعية، والخيال، والصبر، والثبات الفكري، والمثابرة. وبصورة أكثر تفصيلًا:

- أولًا، ومن البديهي أن يكون لديك اهتمام حقيقي بالإجابة عن مسألة أو مسائل فلسفية معينة. وليس من الضروري أن يكون هذا الاهتمام ذاتي النشأة أو عفويًّا؛ فقد ينشأ مثلًا من دعوةٍ للكتابة حول موضوع محدد، أو من استفزازٍ أثاره ادعاءٌ خاطئ لشخصٍ آخر. غير أنّ المهم هو أن يكون هذا الاهتمام صادقًا وموجهًا نحو البحث عن إجابة حقيقية للسؤال، لا مجرد رغبة في الجدال العقيم حوله، أو في ابتكار إجابةٍ تبدو مقنعة ومريحة فحسب.

- ثانيًا، ومن الوضوح بمكان، أنك تحتاج إلى الوقت الكافي للتفكير المتأني في الأمور.

- ثالثًا، تحتاج إلى نوعٍ مناسب من القدرة العقلية، وإلى قدرٍ كافٍ من المعرفة الخلفية يمكّنك من أن تبدأ بتلمّس طريقك نحو الإجابات التي تبحث عنها. وهذه “القدرة العقلية الضرورية” لا تعني أنك بحاجة إلى أن تكون سريع البديهة أو لامعًا أو «ذكيًّا» بالمعنى السطحي للكلمة؛ بل إنَّ من يكون أبطأ ولكن أكثر صبرًا ومثابرة قد يكون أفضل بكثير. وكذلك، فإن “المعرفة الخلفية الضرورية” لا تعني وجوب قراءة كل ما كُتب حول الموضوع؛ بل إنَّ الاستفزاز الفكري الذي يبعثه فيك أفلاطون قد يكون أنفع بكثير من قراءة مئة مقالة حديثة في الدوريات الأكاديمية.

- وستحتاج أيضًا إلى إحساس واقعي بما يمكن أن يكون في حدود طاقتك من الأسئلة، حتى لا تهدر وقتك وجهدك في مسائل تتجاوز قدراتك، أو تنفقه في مسائل يسيرة لا تستحق هذا العناء.

- وأبعد من ذلك، تحتاج إلى الخيال الذي يمكّنك من تصور حلولٍ ممكنة، وإلى الصبر اللازم لتفصيلها وتطويرها — إذ ستكون محظوظًا إن أصبتَ الحقيقة، ولو تقريبًا، من المحاولة الأولى.

- وفوق هذا كله، تحتاج إلى صلابة فكرية تمكّنك من البدء من جديد إذا تبيّن فشل أفكارك، وإلى الشجاعة للاعتراف بالخطأ وبأنك ربما أضعت أسابيع وربما سنواتٍ طويلة في تتبّع مساراتٍ زائفة — أو، وهو الأسوأ، في محاولة الإجابة عن سؤالٍ كان من الأصل مغلوط التصوّر أو مضلِّلًا.

- وهذا يعني أنك ستحتاج أحيانًا إلى المثابرة على اكتشاف موضع الخلل في سؤالك نفسه: ربما افتراضٌ خاطئ في بدايات تفكيرك، أو غموضٌ لم تدركه من قبل.

- وكل ذلك يتطلب قدرًا من العناد والاستقلال الذهني؛ إذ من المستحيل أن تنجز عملًا فلسفيًا حقيقيًا إذا كنت منشغلًا بمحاولة إرضاء الآخرين أو نيل قبولهم لأفكارك.

لا أحد يمتلك جميع هذه الصفات مجتمعة وبالقدر نفسه؛ فهي خصال تتكوّن مع الزمن، إن حالف الإنسانَ الحظ. فكثيرون، للأسف، يبدؤون مسيرتهم مفعمين بالحماسة، ثم لا يلبثون أن يستسلموا للملل والفتور؛ أمّا القلّة المحظوظة، فتكتشف أنّها تمارس العمل الذي خُلقت من أجله، وتواصل أداءه بشغف وسعادة — ما دامت البيئة المحيطة تتيح لها ذلك.

لكن كل ذلك يتطلّب، ليس فقط أن تمتلك أو تطوّر الطبع المناسب وجميع الصفات الضرورية الأخرى، بل أيضًا أن توفر لك البيئة المحيطة الوقت وراحة البال لممارسة هذه الصفات، وأن لا تشجّع، خصوصًا، على التسرّع أو الإهمال أو نفاد الصبر أو المراوغة، وما إلى ذلك من السلوكيات الضارّة. في أحسن الأحوال، كان ينبغي للجامعات أن تجتذب الأشخاص القادرين على إنتاج أعمال فلسفية حقيقية وجيدة، وأن توفر لهم الحوافز للاستمرار في العمل رغم الصعوبات، وللإبقاء على إنتاج أفضل ما لديهم. ولكن، للأسف، فإن البيئة الجامعية اليوم بالكاد تصلح لإنجاز عمل حقيقي. فهي، بدلاً من ذلك، تجتذب وتشجّع الكثير من الطامحين ليصبحوا أسماءً كبيرة أو سوفيستيين محتملين، فضلاً عن عدد أكبر يسعى فقط إلى حياة سهلة وهادئة.

ثالثا: بالطبع، طريقة إدارة الجامعات ليست واحدة في كل مكان. سأركّز هنا على الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم الناطق بالإنجليزية؛ لكنني سأتناول لاحقًا الاختلافات والقواسم المشتركة، وأهمها من بين القواسم المشتركة الازدياد المستمر للبيروقراطية في الجامعات في أماكن أخرى.

في زمنٍ ما (على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية)، كانت الجامعات تُدار في الغالب بواسطة أعضاء هيئة التدريس، أي أساتذة يعملون فعليًا ويتولّون مهام الرئاسة أو العمادة لمدّة محدودة من السنوات، مع نية صادقة في العودة إلى أعمالهم الفعلية بعد ذلك. وكان يُطلق على ذلك اسم «الخدمة»، وكان يُنظر إليه على أنّه تضحية مؤقتة بالعمل الفكري الجاد من أجل الصالح العام.حتى رؤساء الجامعات كانوا عادةً أكاديميين، وإن كان غالبًا في مرحلة متأخرة من مسيرتهم المهنية. أما باقي الإدارة — مثل الشؤون المالية، والقبول، وتسجيل الطلاب، وتوثيق نتائج الامتحانات، وما إلى ذلك — فكان من اختصاص الإداريين المحترفين، الذين كان يُنظر إليهم (وأعتقد أنهم أنفسهم كانوا يرون كذلك) على أنّهم مكلفون بضمان سير العمل الحقيقي للجامعة بسلاسة.

لكن الأمور الآن مختلفة تمامًا. فـ الجامعات الأمريكية تُدار اليوم في الغالب بواسطة إداريين محترفين — يا لها من كلمة موحية! — الذين ينظرون إلى أعضاء هيئة التدريس على أنّهم «موظفون»، ويقومون بتنظيم ومراقبة «إنتاجيتهم»(32).في الواقع، أصبحت الجامعات الآن بيروقراطيات ضخمة، بعضها يضم أحيانًا عدد إداريين يفوق عدد أعضاء هيئة التدريس. (يلاحظ بعضنا أنّه بطريقة ما، كلما زاد عدد البيروقراطيين، زاد أيضًا العمل البيروقراطي المطلوب من أعضاء هيئة التدريس — فالإداريون، بعد كل شيء، يهتمون بعدد الأشخاص الذين «يعملون تحت إشرافهم»، وهم بارعون جدًا في ابتكار مهام جديدة لتفويضها للمرؤوسين، بمن فيهم نحن «الموظفون الأكاديميون»).

غالبًا ما يكون رؤساء الجامعات من السياسيين السابقين، والعمادات من رؤساء الأقسام السابقين؛ أما الإداريون من المستويات الأدنى فقد يكون لديهم الآن شهادات في الإدارة الأكاديمية تُقدَّم في أقسام التربية.بالطبع، كان العميد غالبًا رئيس قسم سابقًا؛ لكن في الوقت الحاضر أصبح منصب رئيس القسم نفسه في جوهره منصبًا إداريًا؛ ومن يدخل الإدارة قادمًا من الفصل الدراسي أو المختبر أو غيره نادراً ما يعود إلى عمله الأصلي؛ فغالبًا ما يكون هدفه التقدم في الرتب الإدارية، من مساعد عميد إلى عميد مشارك، ومن عميد مشارك إلى عميد، ومن عميد إلى مدير أكاديمي، وربما من المدير الأكاديمي إلى رئيس الجامعة.

معظم هؤلاء «المديرين» لم يعودوا يحتفظون باهتمامات عقلية جدية مستمرة، حتى لو كانت موجودة لديهم سابقًا؛ وبينما يتمتع العديد منهم بالذكاء الكافي على الصعيد السياسي والعملي والبيروقراطي، فإنهم لن يتمكنوا من حل أي مسائل فكرية صعبة. علاوة على ذلك، فإنهم ببساطة غير مجهزين لتقييم قيمة العمل الأكاديمي إلا من خلال مقاييس خارجية وبديلة.وطبيعي أن تكون قيمهم مختلفة تمامًا عن قيم الأكاديميين العاملين التقليديين. سأركّز هنا على رؤساء الأقسام والعمادات — وهم المديرون الوسيطون الذين يحتاجون إلى كسب موافقة كل من أعضاء هيئة التدريس في قسمهم أو كليتهم وكذلك المستويات الإدارية العليا — لأنهم يتخذون الأحكام الأكثر حسمًا بشأن أعمال أعضاء هيئة التدريس، ويقرّرون من يُمنح التثبيت الوظيفي، ومن يُرقّى، ومن يحصل على أي نوع من الزيادة، وما إلى ذلك.

تذكّروا: نحن الأساتذة أصبحنا الآن «موظفين» يُفترض أن نكون، قبل كل شيء، «منتجين». لكن، ماذا يُنتج أعضاء هيئة التدريس؟.طلاب متعلمون جيدًا، نأمل ذلك؛ لكن هذا ليس ما يهم هنا؛ فالمهارة والنجاح في التدريس أصبح يُنظر إليهما بتقدير أقل فأقل، ربما لأن العديد من مهام التدريس أصبحت الآن مخصصة لطلبة الدراسات العليا والمعيدين. لا، الأمر المهم هو البحث العلمي؛ ومن هنا جاء التعبير «نشط في البحث» (وهو مصطلح لم أسمع به في عقودي الأولى من التدريس)، وظهور الرفض والازدراء لما يُسمّى بـ«الأعشاب الميتة»، أي أعضاء هيئة التدريس غير المنتجين.في الماضي، كان الأكاديمي يكتب كتابًا أو مقالًا حين تتكوّن لديه فكرة يرغب في طرحها ومشاركتها؛ أما الآن، فعلينا جميعًا أن نكون منتجين طوال الوقت، ويجب على الإداريين تحديد قيمة ما ننتجه.

ربما لا يزال هناك بعض رؤساء الأقسام الذين يبذلون جهدًا ضميرياً لمتابعة أعمال أعضاء قسمهم؛ لكن خبرتي تشير إلى أنهم باتوا الآن استثناءً لا قاعدة.فالرؤساء مشغولون للغاية، على سبيل المثال؛ ففي أقسام الدراسات العليا، عليهم إدارة فرق من مساعدي التدريس والمعيدين، فضلاً عن ضمان تدريس المقررات الأساسية (نأمل ذلك)، والمشاركة في اجتماعات لا نهاية لها، والتنقّل مستهلكين ميزانيات السفر السخية المخصصة لهم، وما إلى ذلك.وبالاضافة إلى ذلك، بينما كان أن تكون فيلسوفًا يعني في الماضي أن تكون عامًا، ملمًا بعدة مجالات، أصبح الموضوع الآن متخصصًا للغاية لدرجة قد تمنعهم من الحكم على أعمال زملائهم. لا عجب أن الصداقات والأحقاد تلعب دورًا كبيرًا، ولا عجب أن الرؤساء يعتمدون على مكان نشر العمل أكثر من محتواه.

العمادات أقل تأهيلاً بعد لإجراء مثل هذه التقييمات. فكيف يمكن لهم ذلك؟ هناك كم هائل من المواد للقراءة، وحتى لو لم يكن هناك، فإن معظمها سيكون أبعد ما يكون عن قدرتهم على الفهم.لذلك، يعتمدون على حكم رؤساء الأقسام — الذين غالبًا ما يكونون متحيّزين، وكما ذكرت، نادرًا ما يكون تقييمهم مبنيًا على قراءة جدية لأعمال أي شخص — وكذلك على مقاييس بديلة مثل السمعة المفترضة لهذه أو تلك المجلة، أو هذا أو ذلك الناشر، والمراجعين الأقران، ومقدار الأموال البحثية المحصّلة، وبالطبع، على «التصنيفات» .

يميل أعضاء هيئة التدريس الذين يطمحون للحصول على التثبيت الوظيفي، أو زيادة الراتب، أو الترقية إلى استيعاب هذه القيم الإدارية المشوّهة. والنتيجة، حتمًا، تآكل الصفات الشخصية والعادات اللازمة للقيام بعمل جاد.نرى ذلك دائمًا في الفلسفة، حيث يركز الناس على الموضوعات الرائجة التي يعتقدون أنّه من الأسهل نشر أبحاثهم فيها، بدلًا من الموضوعات التي يأملون حقًا في تحقيق تقدم فيها؛ ويركزون على إنتاج شيء قابل للنشر بسرعة بما يكفي للتقرير السنوي التالي، وليس على شيء متين ومدروس بعناية.إنهم يسرعون في إنجاز العمل ويقتصدون في التفاصيل؛ ولا يقبلون بالاعتراف عندما يكونون مخطئين ويحتاجون إلى البدء من جديد. كما أنهم مهتمون أكثر بمكانة المجلات أو دور النشر التي ينشرون فيها، وأحيانًا يهتمون بشكل مفرط بتصنيف قسمهم في تقرير "تصنيف الأقسام الفلسفية" (33)

وعلاوة على ذلك، عندما يتم توظيف أساتذة جدد، يُختار أولئك الذين يُعتقد أنهم من المرجح أن ينجحوا في هذا البيئة، أي السريعون والقابلون للإقناع، وليس أصحاب العقول البطيئة لكنها أعمق وأكثر اجتهادًا.وعندما يقوم الأساتذة بتدريب طلبة الدراسات العليا (وهو تعبير آخر يكشف الكثير! — قبل سنوات كنا نفكر بمصطلحات التدريس وتعليم طلاب الدراسات العليا، لا مجرد "تدريبهم")، فمن الطبيعي أنهم يسعون لجعلهم قابلين للتوظيف(34)، مما يعني… حسنًا، يمكنكم استكمال هذه الجملة بأنفسكم.

هذا هو الحال في الولايات المتحدة. أما في أماكن أخرى، فالأمور تختلف بعض الشيء. ففي أوروبا، على سبيل المثال، قد تأتي الضغوط البيروقراطية ليس من المستوى المحلي، بل بالأساس من الحكومات المركزية؛ وغالبًا ما يكون التركيز جزئيًا على التصنيفات، خاصة تصنيفات المجلات، ولكن قبل كل شيء على المنح البحثية — في الواقع، لقد رأيت بعض السير الذاتية الأوروبية التي تحدد باليورو بالضبط مقدار الأموال التي حصل عليها عضو هيئة التدريس، لكنها تقدم تفاصيل قليلة جدًا عن العمل الذي أنجزوه فعليًا بهذه الأموال!(بالطبع، ستساعد المنح البحثية أيضًا في مسيرتك الفلسفية في الولايات المتحدة؛ لكنها لا تملك — على الأقل حتى الآن — نفس التأثير كما هو الحال في كثير من أنحاء أوروبا).ولكن، عواقب ثقافة المنح والمشاريع البحثية التي تنشأ بسرعة في مثل هذه الظروف كارثية(35).

مع اعتماد التعليم في مرحلة الدراسات العليا على تلك المنح الخارجية، فإن جودته تتأثر حتمًا: فكونك مساعدًا باحثًا لدى X ليس بديلًا عن العمل الفعلي على مشروعك الخاص.وينقسم أعضاء هيئة التدريس تدريجيًا إلى فئتين شديدتي الاختلاف: النخبة الذين يمتلكون منحًا كبيرة وواجبات تدريسية خفيفة، والفلاحون الأكاديميون الذين يتحملون عبء التدريس الأكبر.وبالطبع، فإن كل نظام المنح هذا يحرّف الموضوعات التي يعمل عليها الناس؛ إذ يفعلون ما يعتقدون أنهم سيتمكنون من الحصول على تمويل له. كما أنه يشجع الناس على المبالغة في ما سيحققونه عند حصولهم على المنحة، والأسوأ من ذلك، على المبالغة في ما أنجزوه فعليًا باستخدامها. ومع مرور الوقت، يبدؤون حتمًا بتصديق دعايتهم الخاصة، ويفقدون كل إحساس بالجودة الحقيقية لأعمالهم.

إلى أي مدى يمتد كل هذا في بقية أنحاء العالم، لست متأكدًا تمامًا. لكن كانت هناك مؤشرات أولية: يكتب لي مراسل من المكسيك عن القلق الذي يشعر به بسبب الضغط الممارس عليه ليكون منتجًا؛ ويخبرني زائر صيني أن جامعته تدفع له مكافأة إذا نشر ورقة في مجلة مفهرسة في مكان "معتمد"؛ ويكتب لي مراسل إيراني أن جامعته تضغط على أعضاء هيئة التدريس للنشر في الخارج.لكنني علمت أنني قد لمست نوعًا من الأعصاب الدولية عندما أعيد طبع مقالي "هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟"(36)مؤخرًا، وعندما نشرت النسخة المعاد طباعتها على academia.edu، أُبلغت أنه خلال يومين فقط، تم الاطلاع عليها من قبل أشخاص في 39 دولة: الولايات المتحدة، الصين، المجر، البرازيل، بولندا، المملكة المتحدة، أوروغواي، سلوفاكيا، إسبانيا، الأرجنتين، أيرلندا، إيطاليا، أستراليا، المكسيك، ألمانيا، أوكرانيا، كندا، تشيلي، تركيا، كولومبيا، كوستاريكا، البرتغال، بيرو، الإكوادور، إسرائيل، الهند، فرنسا، بلغاريا، الاتحاد الروسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جنوب إفريقيا، جمهورية كوريا، اليونان، النرويج، النمسا، فنلندا، ليتوانيا، موزمبيق، والسلفادور. يا إلهي.

رابعا: ربما تأملون أن أخبركم كيفية إصلاح كل هذا. يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا أستطيع فعل ذلك – فالأسباب معقدة للغاية، ومؤسسة بعمق، وبصراحة، لا أعرف حقًا من أين أبدأ.علاوة على ذلك، في الوقت الحالي، مع الأزمة الصحية العالمية، تعطّل عمل الجامعات في كثير من أنحاء العالم بشكل كبير لدرجة أنه من المستحيل التنبؤ بالشكل الذي ستبدو عليه بعد عام، أو حتى بعد عدة أعوام – وأظن أنه سيكون مختلفًا تمامًا.أو ربما تأملون أن أخبركم بما يجب عليكم فعله إذا كانت الفلسفة بالنسبة لكم حقًا هي دعوة ومهنة حقيقية. مرة أخرى، يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا يمكنني تقديم نصائح عامة هنا أيضًا – فظروف كل شخص ستكون مختلفة للغاية: بعضهم خارج الأوساط الأكاديمية تمامًا، بعضهم يبحث عن وظيفة أكاديمية، بعضهم يأمل في الحصول على التثبيت الوظيفي، وبعضهم يأمل في زيادة راتب أو ترقية، وهكذا. كل واحد منا يمكنه فقط أن يفعل ما بوسعه.

إذا كنت خارج الأوساط الأكاديمية وتعمل كسائق تاكسي، أو مستشار حاسوب، أو مقدم خدمات تموين، أو أي عمل آخر، فستكون المشكلة الأولى هي إيجاد وقت للتفكير والقراءة، وإذا ما خطرت لك فكرة جيدة، للكتابة؛ والمشكلة التالية هي إيجاد وسيلة لتُسمع إذا أنتجت شيئًا يستحق المشاركة.لقد جعل الإنترنت الجزء الأخير أسهل إلى حد ما؛ لكن لا ينبغي أن تتوقع رد فعل حماسي من "المهنة" – مثل الرجلين السابقين من شعر فروست، الذين استاءوا من قيامه بقطع الحطب من أجل حبه للعمل – كان يجب عليهم القيام بذلك من أجل المال! – من المرجح أن يمنحك الفلاسفة المحترفون رد فعل بارد أو تجاهلاً.

إذا كنت داخل الأوساط الأكاديمية، فقد تكتشف أن الفلسفة بالنسبة لك هي دعوة أو نداء بالذات بفضل التوتر الذي تشعر به تجاه تلك القيم "المهنية". إذا كان الأمر كذلك، فسيكون عليك أن «تحافظ على هدوءك، بينما يفقد كل من حولك أعصابهم ويلقون اللوم عليك»(37).وإذا كنت حاصلًا على درجة الدكتوراه حديثًا وتبحث عن وظيفة (بافتراض أنك لم تُفسد بعد بواسطة أحد برامج الدكتوراه "المرموقة"!)، فإن أفضل نصيحة يمكنني تقديمها هي: لا تظن أنه أمر سيئ أن تجد نفسك في قسم لا يحتوي على برنامج دراسات عليا. ليس الأمر كذلك: التدريس الجامعي يمكن أن يكون مجزياً جدًا38 – خصوصًا إذا لم تكن تحت ضغط لإدخال الطلاب المتخرجين في برامج الدراسات العليا المزعومة "النخبوية".

إذا كنت على مسار التثبيت الأكاديمي، فموقعك يكون صعبًا بشكل خاص. حتى حدٍ معيّن، سيتعين عليك أن تكون حيوانًا سياسيًا – حذرًا، ولكن دون أن تنخرط بالكامل، محافظة على تلك القيم الإدارية على مسافة آمنة. يجب عليك، بالطبع، أن تحدد بوضوح ما هو مطلوب منك، وأن تظل يقظًا لأي تغييرات في قسمك أو كليتك قد تؤثر على ذلك، وأن تعرف متى يتجاوز ما هو مطلوب منك الحد الذي لا تستطيع تحمله. من المحتمل أن تضطر لأن تكون أكثر اجتماعية مما ترغب في المثالي. ومع ذلك، ما دامت مؤسستك لا تصر على أن تكون المنشورات محكّمة لتُحتسب، فكن منفتحًا على الدعوات للكتابة في مجلات أقل شهرة، ومستعدًا للمقاومة إذا قدم الحكام مطالب غير معقولة.

وأستطيع أن أقدّم نصيحة صغيرة، من تجربتي الشخصية، للأكاديميين ذوي الخبرة النسبية الذين لديهم دعوة حقيقية للفلسفة ويجدون أنفسهم محبطين بسبب تلك القيم المشوّهة. كن مفيدًا كلما استطعت. لكن تعلّم أن تقول بلباقة: «لا، آسف، لا أستطيع فعل ذلك» – سواء لدعوات الغداء، أو لطلبات تحكيم ورقة تبدو ضعيفة جدًا ويأمل المؤلف أن يقوم الحكم بإعادة كتابتها له، أو لمقترحات الخدمة في هذا أو ذاك من اللجان الجامعية “الهامة” لتصفية نشارة الخشب…(39)، أو غيرها. قرّر أي الاجتماعات ضرورية، لكن لا تحضر الأخرى؛ فهي تضيع وقتك، والأهم من ذلك، تهدر روحك؛ وتعلّم أن تقول بهدوء، عندما يكون الأمر صحيحًا: «لا، أختلف؛ هذه فكرة سيئة، وسيكون من الأفضل القيام بهذا…(40)». (من المحتمل ألا يغيّر هذا النتيجة؛ لكن على الأقل ستشعر على الأرجح بتحسن قليل مقارنةً لو تركت الفكرة السيئة تمر دون اعتراض).

وأواصل قائلاً: انشر فقط عندما يكون لديك ما تقول، لا وفق جدول زمني يحدده أحد المسؤولين؛ ولا تنفّذ بِخضوع كل ما يطلبه المحكّمون في مجلة ما – فإذا كانت مطالبهم غير معقولة، أو واضحة كمحاولة لجعلك تذكر أعمالهم أو أعمال أصدقائهم، حاول أن تقول بلطف: «لا، لا أظن أن ذلك سيحسّن الورقة». حاول بكل الوسائل تجنّب أن تتحوّل إلى شخص غريب يدافع عن فكرته الكبرى أو إلى معلم يجمع أتباعًا؛ واحذر مما أسماه بيرس «غطرسة الذكاء»(41)، أي الاعتقاد المفرط بعظمتك الخاصة. فنحن جميعًا قابلون للخطأ.

لكن الآن أشتّت نفسي عن الموضوع الرئيسي: وهو أنه، رغم أن الجمع بين الهواية المهنية والدعوة الفلسفية مرغوب فيه، إلا أن الواقع اليوم يشهد توتّرات كبيرة جدًا بين القيم والطموحات المهنية والفلسفية – توتّرات لا يمكن لأي منا، ممن تعتبر الفلسفة دعوة كما هي مهنة، تجنّبها، ويجب على جميعنا التعامل معها بطريقة أو بأخرى.

لا أحد يعبّر عن هذا أفضل من ماكس غوتليب، المرشد والبطل لمارتن أروزمايث في رواية آروزمايث لـ سينكلير لويس. هو يتحدث إلى مارتن عن دعوة إلى العلم، وليس الفلسفة، لكنه يعبّر عن الفكرة الأساسية ببراعة(42):

أن تكون عالِمًا – ليس مجرد وظيفة مختلفة، بحيث يختار الإنسان بين أن يكون عالمًا أو مستكشفًا أو تاجر سندات […]. إنه مزيج من المشاعر الغامضة جدًا، مثل التصوف، أو الرغبة في كتابة الشعر؛ يجعل ضحيته مختلفًا تمامًا عن الإنسان العادي الجيد […].

ولكن مرة أخرى، تذكّر دائمًا أن ليس كل من يعمل في العلم علماء. القليل جدًا منهم! الباقون – سكرتارية، وكلاء صحفيون، ورفاق المخيم! […]. إذا كان لديك شيء من دعوة العلم، […] هناك شيئين يجب عليك فعلهما: العمل بجد مضاعف، ومنع الآخرين من استغلالك.

استبدل كلمة “عالِم” بـ “فيلسوف”، وستجد نفسك أمام المعادلة نفسها. ليس كل من يعمل في الفلسفة فيلسوفًا، وأولئك “الضحايا” الذين تعتبر الفلسفة بالنسبة لهم دعوة حقيقية قد يدفعون ثمنًا مهنيًا باهظًا.لكن، وفق تجربتي على الأقل(43)، كان هذا ثمنًا يستحق الدفع(44).

جامعة ميامي

[email protected]

***

.....................

الهوامش

* يختلف هذا المقال عن جميع المقالات الأخرى المنشورة في هذه المجلة، لأن الكاتبة اشترطت كشرطٍ أساسي لنشر مساهمتها أن تُتّبع معاييرها التحريرية الخاصة في كتابة الحواشي السفلية، وهي معايير تختلف عن تلك المعتمدة في المجلة. [ملاحظة المحرر].

سيزيتيس، المجلد الثامن (2021)، ص ص 33–51 / مقالات

الرقم الدولي الموحّد للدوريات (ISSN): 1974-5044 – http://www.syzetesis.it

معرّف الكائن الرقمي (DOI): 10.53242/syzetesis/2

1- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ج. م. أ. غرووب، منقّحة على يد س. د. س. ريف (نحو 380 ق.م)، إنديانابوليس: هاكيت للنشر، 1992، فقرة 492أ (ترقيم ستيفانوس).

2- روبرت فروست، «رجلان من المشردين في زمن الطين»، ضمن كتاب مدًى أبعد (نيويورك: شركة هنري هولت، 1936)، ص. 15. وقد عرفتُ هذه القصيدة – بالمناسبة – من خلال رواية روبرت ب. باركر، رهانات مميتة (نيويورك: دار ديل، 1973)، ثم اكتشفتُ لاحقًا مدى تأثر باركر بفروست. انظر بخاصة روبرت ب. باركر، خريف باكر (نيويورك: دار ديل، 1981)، إذ تتخلل فصوله أفكار فروست عن العمل والاستقلالية وما إليها.

3- انظر: جستن سكيرّي، «رينيه ديكارت (1596–1650)»، موسوعة الفلسفة على الإنترنت (IEP)، تمت زيارة الصفحة في 12 أكتوبر 2020، على الرابط: https://iep.utm.edu/descarte/. وللأسف، أُصيب بالتهاب رئوي وتُوفي عام 1650.

4-بندكت دي سبينوزا، «الأخلاق»، ضمن الأعمال المنشورة بعد وفاته، تحرير ياريغ ييلس ويان ريويرتس (أمستردام: ريويرتس، 1677).

5-تُوفّي سبينوزا عن عمرٍ يناهز الرابعة والأربعين، بسبب مرضٍ في الرئة يُرجَّح – وفقًا لبعض التخمينات – أنّه كان نتيجة استنشاقه لجسيمات زجاجية دقيقة أثناء عمله في صقل العدسات.

٦- «جون لوك»، الموسوعة التاريخية (History)، تحديث بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩،

https://www.history.com/topics/british-history/john-locke.

٧ - للمراجعة العامة: هـ. ب. أكتون، «جورج بيركلي»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الأول)، ص ٢٩٥–٣٠٤.

٨ - للمراجعة العامة: د. ج. ك. ماكناب، «ديفيد هيوم»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الرابع)، ص ٧٨–٨٠.

٩ - للمراجعة العامة: س. أ. غريف، «توماس ريد»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد السابع)، ص ١١٨–١٢١.

١٠ - للمراجعة العامة: ج. ب. شنيويند، «جون ستيوارت مل»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الخامس)، ص ٣١٤–٣١٥.

11- جوزيف برنت، تشارلز ساندرز بيرس: سيرة حياة (بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، ١٩٩٣)، ص ص ١٣٩ -٢٠٣.

12- آر. لانيير أندرسون، "فريدريك نيتشه"، موسوعة ستانفورد للفلسفة، تحرير إدوارد ن. زالتا، نُشرت لأول مرة في ١٧ مارس ٢٠١٧،

https://plato.stanford.edu/entries/nietzsche/

(إحدى الفرضيات، على ما يبدو، هي أنه كان يعاني من ورم بطيء النمو في الدماغ خلف عينه اليمنى).الجزء المتعلق بالمعاش مستند إلى: جوليان يونغ، فريدريك نيتشه: سيرة فلسفية (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٠)، ص ص ٢٧٦–٢٧٧.

13- فلسفة فريجه في سياقها، تحرير مايكل بيـني وإريش هـ. ريك (نيويورك: روتليدج، ٢٠٠٥)، ص ص ٢٥–٢٧.

14- تشارلز ميلنر أتكينسون، جيريمي بنتام: حياته وأعماله (لندن: ميثوين وشركاه، ١٩٠٥)، الصفحة ٢٦.

15- برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية (نيويورك: سايمون وشوستر، ١٩٤٥).

16- "سيرة برتراند راسل"، بيوغرافيا أونلاين، تم الدخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠،

https://www.biographyonline.net/writers/bertrand-russell.html

17- "لودفيج فتجنشتين: ١٨٨٩–١٩٥١"، في لودفيج فتجنشتين: تقييمات نقدية، تحرير ستيوارت شانكر (لندن: كروم هيلم، ١٩٨٦، المجلد الأول)، الصفحات ٩–١١.

18-روجر سكروتون، "السيرة الذاتية"، السير روجر سكروتون: كاتب وفيلسوف، تم الدخول في ٢١ أبريل ٢٠٢٠،

https://www.roger-scruton.com/homepage/about/curriculum-vitae. ومن المفارقات أن سكروتون توفي بسبب سرطان الرئة.

19-على الرغم من ذلك، أعتقد أن هناك قدرًا كبيرًا من الرقابة الذاتية من قبل أولئك الذين يخشون التعبير عن أفكار غير شائعة.

20-كما اقترح عليّ أوزوالدو شاتوبريان في نقاش بعد أن قدمتُ محاضرة بعنوان تجزئة الفلسفة في جامعة الجمهورية، مونتفيدو، أوروغواي.

٢١ ـ تشارلز ساندرز بيرس، الأوراق المجمَّعة، تحرير: تشارلز هارتشورن، وبول فايس، و(في المجلّدين السابع والثامن) آرثر بوركس، (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفارد، ١٩٣١–١٩٥٨)، المجلد السادس، الفقرة الثالثة (١٨٩٨).(تشير الإحالات إلى الأوراق المجمَّعة بحسب رقم المجلد ورقم الفقرة، يليهما التاريخ الأصلي).

٢٢ ـ فكرةٌ بدأت مع سوزان هاك، «خارج الصف»، ضمن كتاب تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الطبعة الموسَّعة (٢٠٠٨؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠١٣)، الصفحات ٢٥١–٢٦٨ (المتن) و٣١٣–٣١٧ (الهوامش).

٢٣ ـ لا يعني هذا، كما قد تتخيّل، أنّهم سيطبعون الكتاب فور طلبك له؛ بل يعني فقط أنّهم سيطبعون بعض النسخ إذا، ومتى ما رأوا أنّ لديهم عددًا «كافيًا» من الطلبات.

٢٤ ـ سوزان هاك، «خدعة النشر الأكاديمي: ماذا حلّ بحقوق المؤلفين؟»، الفلسفة بلا حدود، المجلد ٢ (٢٠١٩): الصفحات ١–٢١.

٢٥ ـ انظر أيضًا: سوزان هاك، «المراجعة النظيرة والنشر: دروس للمحامين» (٢٠٠٧)، ضمن كتاب أهمية الأدلة: العلم، والحقيقة، والإثبات في القانون (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٤)، ص ص ١٥٦–١٧٩.

٢٦ ـ أو، على ما أظن، الإسبانية أو الإيطالية أو الصينية أو غيرها.

٢٧ ـ انظر: سوزان هاك، «تجزئة الفلسفة والطريق إلى إعادة توحيدها»، ضمن كتاب سوزان هاك: إعادة دمج الفلسفة، تحرير: جوليا غونر وإيفا-ماريا يونغ (برلين: دار سبرينغر، ٢٠١٦)، ص ص ٣–٣٢.

٢٨ ـ يراودني الميل إلى إضافة و. ف. و. كواين إلى هذه القائمة، لأنّ نثره الواضح ظاهريًا يُخفي وراءه العديد من الغموضات القاتلة. انظر على سبيل المثال: سوزان هاك، الأدلة والبحث (١٩٩٣؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠٠٩)، الفصل السادس، حول الغموضات في تصوره لـ«نظرية المعرفة المؤمْوَلة»  (naturalized epistemology). كما تُعَدّ ساندرا هاردينغ، بادعاءاتها المبالغ فيها حول ما يمكن للنسوية أن تقدمه للفلسفة، مرشحة قوية أخرى.

٢٩ ـ سوزان هاك، «قل لا للّاإيجابية المنطقية»، ضمن تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الصفحات ١٧٩–١٩٤ (المتن) و٢٩٨–٣٠٥ (الهوامش).

٣٠ ـ انظر مثلًا: سوزان هاك، الأدلة والبحث، الفصل التاسع؛ وسوزان هاك، «الذبول وسط الوفرة: مفارقة فلسفة رورتي الثنائية»، مراجعة القنفذ: تأملات نقدية في الثقافة المعاصرة، صيف ٢٠١٦، الصفحات ٧٦–٨٠.

٣١ ـ أليكس روزنبرغ، رؤية الملحد للواقع: عيش الحياة دون أوهام (نيويورك: دار و. و. نورتون، ٢٠١١).

٣٢ ـ بنجامين غينسبرغ، سقوط هيئة التدريس وصعود الجامعة الإدارية (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠١١).

٣٣ ـ تقرير الذوّاقة الفلسفي (The Philosophical Gourmet Report)، تحرير: بريت بروغارد وكريستوفر أ. باينز، آخر دخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠، https://www.philosophicalgourmet.com/

وربما تظنّ أن شكوكي بشأن هذه التصنيفات سببها أن قسمي الأكاديمي ليس مصنّفًا بدرجة أعلى، والواقع عكس ذلك تمامًا؛ فلو كنت أعتقد أن لهذه التصنيفات قيمة (وأنا لا أعتقد ذلك)، لقلت إنّ قسمي مصنَّف بأعلى مما يستحق!

٣٤ ـ وليس المقصود، بالطبع، أن جميع طلاب الدراسات العليا يجدون أنفسهم في وظائف فعلية؛ فقد ظلّ عدد الحاصلين على الدكتوراه أعلى بكثير منذ زمنٍ طويل من عدد الوظائف المتاحة.

٣٥ ـ تسلسلٌ فكري بدأ في مقالة سوزان هاك «اللامعقولية وعواقبها» (Preposterism and Its Consequences)، (١٩٩٦)، ضمن كتاب بيان معتدلة متحمّسة (Manifesto of a Passionate Moderate)، (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، ١٩٩٨)، ص ص ١٨٨–٢٠٤.

٣٦ ـ سوزان هاك، «السؤال الحقيقي: هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟ (The Real Question: Can Philosophy be Saved?)، مجلة التحرر الفكري (Free Inquiry)، المجلد ٣٧، العدد ٦ (٢٠١٧): ص ص ٤٠–٤٣.

٣٧ ـ روديارد كبلنج، «إذا——»، في كتاب المكافآت والجنيات (جاردن سيتي، نيويورك: شركة دبلداي، بايج وشركاه، ١٩١٠)، ص. ١٨١.

٣٨ ـ والآن أتذكّر الأستاذ الشاب الذي كان يُدرِّس في قسم يضم طلاب مرحلة البكالوريوس فقط (جامعة أوكلاند)، وقد قال لي: «إنها أفضل وظيفة لم تسمع عنها قط».

٣٩ ـ العبارة مأخوذة من ثورستين فبلن، التعليم العالي في أمريكا: مذكرة حول إدارة الجامعات بواسطة رجال الأعمال (نيويورك: ب. و. هوبش، ١٩١٨)، ص. ٢٥٣. وكما قال فبلن (عام ١٩١٨!)، فإن هذه اللجان «تُنشأ في الأساس لإبقاء أعضاء هيئة التدريس منشغلين بالكلام، بينما تواصل الآلة البيروقراطية عملها تحت إشراف المدير ومستشاريه ومساعديه الشخصيين». المرجع نفسه، ص. ٢٥٣.

وبالفعل، فهذه اللجان تمثل بنسبة ٩٨٪ استشاراتٍ زائفة.

٤٠ ـ أعترف بأنني أجد هذا صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا؛ فمن العسير جدًا أن يحافظ المرء على هدوئه عندما يتصرف الزملاء بسوء. أجد نفسي أتلوّى بصمت كي لا أصرخ، لكنني أكره نفسي بعد ذلك لأنني لم أتحدث!

٤١ ـ بيرس، الأوراق المجمعة، ١.٣١ (١٨٦٩).

٤٢ ـ سنكلير لويس، أروسمِث (١٩٢٥؛ نيويورك: سِجنت كلاسيكس، ١٩٦١)، ص. ٢٧٨–٢٧٩.

٤٣ ـ انظري: سوزان هاك، «لستُ واحدة من الفتيان: مذكرات أكاديمية غير منسجمة»، كوزموس + تاكْسِس، المجلد ٨، العدد ٦ (٢٠٢٠): ص. ٩٢–١٠٦.

٤٤ ـ شكري لمارك ميجوتي على ملاحظاته المفيدة على المسودة، ولنيكولاس ميغانيلي على مساعدته في العثور على المراجع.

في المثقف اليوم