أقلام فكرية

محمد فرَّاح: تأسيس ميتافيزيقا الإِخْتِيَارِ

عندما نذكر لفظ الإختيار، تتبادر مباشرة إلى الذهن فكرة الحرية والتي تعبر عن إحساس المرء إزاء ما يقوم به من فعل، لكن في الغالب ما نطرح سؤال حدود هذا الفعل الحر أو الإختيار الحر الذي يملكه الفرد إزاء ذاته وإزاء المجتمع الذي ينتمي إليه، لهذا في كثير من الأحايين ما نفكر في ماضينا ونتأمل في حاضرنا من أجل محاولة استشفاف مستقبلنا، وهل فعلاً حينما كنا صغاراً كنا نختار ما نريده أو فُرِضَ علينا الطريق الذي نحن متوقفين عنده نتأمله؟

هل أنا المسؤول عن إختياري فعلاً أم هناك مجتمع إختار لي ما سأفعله مسبقاً ؟ هل كل الأوامر التي تلقيتها حينما كنت صغيراً هي أوامر شقت طريقي أم عرقلت مساري وقوضته؟

كل هذه الأسئلة الساذجة، هي أسئلة تستحق أن تطرح، لا بهدف سبر أغوار الماضي، بل لمساءلته وإعادة التفكير في الحاضر كما هو ماثل أمامنا، وبالتالي مساءلة المجتمع والأسرة والآباء والأمهات وأولياء الأمور وأساتذتنا ... إلى آخره،  بل يجب مساءلة حتى سبب توقفي لهذه اللحظة لأسأل عن اختياراتي هل هي من صنعي أم من فرائض المجتمع عليَّ؟ وهل دراستي للفلسفة هي من أتاحت لي ذلك؟ أم حتى من لا يدرس الفلسفة يطرح مثل هذا السؤال؟

وتبدأ هذه الأسئلة في الإنبثاق من خلال تحديد جملة من الإختيارات التي سبق وأن إخترتها، بدءا من إختياري الدراسي، وإختياري إحترام الوالدين، وإختياري إحترام كل من يكبر عني سنَّا، وتتطور إختياراتنا بتطور ومرور الزمن، كما تتطور بتطور حياة المرء وحسب مدارج الحياة، فتبرز في كل لحظة من لحظات الحياة المريرة إختيارات جديدة كل الجدة: إختيار الإستقلال عن الأسرة، إختيار العمل/ المهنة، إختيار الزواج وتكوين أسرة، إختياراتنا الوطنية والقيمية والإنسانية.

قد نشعر في حقيقة الأمر بضغط الإختيارات وإكراهاتها، كما نقوم بإختياراتنا ونخضع لها بدون مقاومة، إنها خصيصة تنبع من صميم الطبيعة البشرية.

لهذا يجب علينا أداء هذه الإختيارات بصدق، ونية خالصة، أو إرادة خيرة، بل وأحياناً من خلال التضحية من أجل إختياراتنا، مادامت كل إختياراتنا تتأسس، في نهاية المطاف، على ضمير أخلاقي يحركها، هذا الضمير يتعالى على كل الأهواء والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع الذاتية.

شكلت فلسفة "شوبنهاور" لحظة حاسمة في تأسيس مفهوم الإختيار، حينما اعتبر أن "نَوَاةَ وُجُودِنَا، هِيَ تِلْكَ الَّتِي لاَ تَعْرِفُ فِي قَرَارَاتِهَا غَيْرَ شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلاَّ تُرِيدَ." [1].

في كتابه الشهير "العالم بوصفه إرادة وتمثلاً" الذي نشر لأول مرة سنة 1813م، ينظر فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور إلى الإنسان وككل كائن عاقل بوصفه إرادةً أي إختيار في الحياة، فهو المسؤول عن كل إختياراته، وهو الموقف الذي سيتطور مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر صاحب "الوجودية نزعة إنسانية" حينا سيرى أن الإنسان مشروط بالحرية، كما مشروط بالوجود، والحياة والإختيارات والعلاقات. ومعنى كل هذا في حقيقة الأمر، أن الإنسان هو من يشكل ذاته بذاته ولذاته ويحقق هويته في ضوء ما يختاره لنفسه، لكونه مشروعاً، إن الإنسان إرادة حرة، يختار ما يريد أو ما لا يريد.

إن هذه الفلسفات، تتفق في تصورها للفعل الإختياري الإرادي، وتدافع على أنه فعل له غاية هي التي تحدد قيمته انطلاقا من الآثار المترتبة عنه.

إن إرجاع الفعل الإختياري إلى المجتمع والمصلحة والفائدة، لهو أمر قد يؤدي إلى هدم الإختيار ما دمنا سنجعله قيمة نسبيةً، ذاتية أو غيرية، وننفي عنه كل طابع كوني ومطلق.

إن الإنسان وككل كائن عاقل، في غير حاجة إلى مصنف في الفلسفة والعلم ليتعلم ما يريد أو ما لا يريد، أو ما يختار أو ما لا يختار، لكونه يصارع بين ضميره والأهواء، وفي الأخير ينبثق المبدأ العقلي للإختيار الذي يتعارض مع كل ميولاته.

الإختيار مرجعه الوحيد والأوحد هو العقل بوصفه ملكة الحكم والإختيار، وغايته إحترام ما أختار، لأن ما أختاره يجب أن ينبع عن الإختيار الخير، أو الإرادة الخيرة، يجب على كل إختياراتنا أن تكون فاضلة.

لا قيمة لإختياراتنا بدون فضائل وبدون إرادة خيرة، وما الذي يجعلها خيرة ؟ تكون خيرة في حالة كان مصدر تشريعها هو العقل والعقل وحده.

لكن كل إختياراتنا تحاول الخروج من قبضة العقل، وتنبثق عن الأهواء وتتمسك بخصوبة الحياة، فكل إختياراتنا هي عبارة عن قدرات فطرية يملكها كل شخص، ولهذا يجب إعادة الاعتبار للميولات الفطرية التي تجثم في كل فرد جثوم العادة.

فالحدس الذي يحمله الفكر تجاه حالاته وانفعالاته، ومن خلاله يدرك ذاته والعالم الخارجي المحيط به، لا يمكن نفيه البتة، لأنه [أي الحدس] يقدر بقدرة قادر على إصدار أحكام معيارية على كل الأفعال الإنسانية.

إن الحدس يفتح أمامنا أبواب الإمكانات للإختيار بين مختلف الأفعال الممكنة، وحتى الغير ممكنة، لهذا يضع الحدس معايير للإختيار، فيصبح بمثابة ملكة المَيْزِ أو الحكم، يحكم بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة وبين الممنوع والمباح.

والحدس هنا بمثابة وعي محايث للذات ومعطى طبيعي، إنه إحساس يدفعنا بإتجاه الخير، لكونه غريزي وتلقائي.

والإختيار الخير هو كل إختيار قصدي يحمل في طياته نية صادقة، مصدرها العقل، لكن الكائن البشري، كائن يعيش داخل المجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه، وتقوم التربية هنا بدور ترسيخ قيم المجتمع وتشكيل إختيارات الأفراد.

ومهما يبدو من اختلاف في مسألة الإختيار، إلا أن هذه الاختلافات تعبير عن إنسانية الإنسان، وبفضل الاختلافات نتميز عن كل حيوان، وتُدْخِلُنَا الاختلافات إلى عالم القيم والحرية والإرادة.

كما تدمج الاختلافات الأفراد داخل الجماعة وتتيح لهم الاستفادة من خيرها، لهذا من أجل فهم كيفية تشكل ملكة الإختيار لدى الأفراد، لا بد من العودة إلى الشروط التاريخية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية التي ساهمت في تشكيل اختيارات الأفراد في قمة حياتهم عبر التاريخ البشري، ونحيل هنا إلى هتلر ودعواه في الاعلان لحرب عالمية ثانية، أو حتى إختيار الطالب الصربي إغتيال ولي عهد النمسا والتمهيد لحرب عالمية أولى، أو إختيار أوروبا سياسة الإمبريالية واستعمار دول شمال إفريقيا ...إلى آخره.

هناك صراعات دموية عبر التاريخ البشري من أجل إختيار فرد أو جماعة خياراً على وتفضيله على إختيار آخر، ويجب فهم الأسباب الكامنة وراء كل تلك الاختيارات.

ولا ينسينا هذا كلا من ماركس وإنجلز واهتمامها بمفهوم الصراع الطبقي، في فهم كيفية تشكل الإختيار، وكيف اختارت الطبقة البورجوازية تملك وسائل الإنتاج، وكيف فرض على البروليتاري بيع قوة عمله.

ما يعني أن إختياراتنا هي مجرد نتاج لما يعيشه الإنسان من صراع طبقي قد يدركه الفرد، أو قد يسقط فريسة الإيديولوجيا التي تجعل القيم التي نختارها بمثابة قيم زائفة وآلية من آليات التزييف والتبرير والاندماج.

لهذا نؤكد على أهمية العوامل النفسية اللاشعورية والمرتبطة بالطابوهات التي رسختها الثقافة فينا، ودورها في تشكل إختياراتنا، فالعوامل الثقافية أيضاً تشكل تهديداً للإنسان والمجتمع.

لقد عملت الحضارة الإنسانية على تدجين وتهذيب الإنسان من خلال سيرورتي الجزاء والعقاب، مما أدى إلى ممارسة الرقابة الصارمة على كل إختياراتنا الجنسية، فالجنس لا نختاره كما نريد ومع من نريد بكل حرية !!!

ولهذا ذهبت التيارات الفلسفية المعاصرة، كالوجودية، إلى القول بأن المهم أو ما ينبغي النظر إليه، هو الإنسان كمشروع أو كتجربة شخصية وفردية سيالة، تعيش التوتر والتناقض والصراع والصدام بين ما يجب عليَّ أن أفعل وما يفترضه هذا التوتر من ما نريد أن نختاره نحن نفسنا بأنفسنا ولأنفسنا، وبكل حرية ومسؤولية تجاه الذات والأغيار والمجتمع بشكل عام.

يشكل الإختيار، بوصفه إكراها إجتماعياً، تجاوزاً لكل ما يريده الأفراد، وفي نفس الوقت شرطاً لوجودهم، ومن المفيد التفكير هنا بضرورة خضوع كل كائن حي للموت، فكل نفس ذائقة الموت، لكن الإختيار لا يستقيم إلا في إطار ذات تعي وجودها كما تعي حريتها وإرادتها.

إن المجتمع إذن هو المصدر الوحيد للإختيار، لأنه وبكل بساطة يمارس سلطة على الأفراد تُرَسِّخُ في وجدانهم ما يجب القيام به من إختيارات، ويقتضي هذا التصور التقليص من هامش حرية الأفراد أمام سلطة المجتمع، باعتبارها السلطة الوحيدة المُحَدِّدَةَ لكل إختياراتنا.

غير أنه، في الحقيقة، لابد من الانفتاح على الاختيارات والارادات الكونية التي تتجاوز انغلاق المجتمع لتتجه نحو إختيارات إنسانية شمولية، أي كونية، ذلك أن الاقتصار، على ما يمليه المجتمع المحلي من اختيارات قد يؤدي إلى ممارسة محلية مغلقة تتسم بالصراع والحرب والعنف، في حين أن تركيزنا على القيم الإنسانية والكونية من شأنه أن يساهم في توطيد الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والسلم بين المجتمعات، ومن هنا ضرورة انفتاح إختياراتنا الاجتماعية النسبية المحلية والخصوصية على إختياراتنا الإنسانية المطلقة والكونية والعمومية.

إن رهاننا الأساسي هو رهان المواطنة العالمية، ورهان القيم الإنسانية الذي هو رهان الكونية، ذلك أن نسبية القيم المجتمعية تطرح تساؤلات حول كيفية تجاوز محدوديتها وجعل المجتمع يفتح آفاقه الواعدة على قيم كونية إنسانية.

والغرض من كل هذا هو تعزيز قيم السلم الكوني والتسامح العالمي والتعايش بين الدول، على الفرد ألا يبقى سجين إختيارات مجتمعه، بل هناك إختيارات أخلاقية تتجاوز المحلي.

إن الإختيار الأخلاقي يفترض الإرادة والاحترام والتقدير. ويحتاج القانون والأخلاق ذاتها إلى أساس قيمي يستمد منه مشروعيته بغرض تخليق الحياة العامة، وترسيخ قيم المواطنة العالمية، هذه الأخيرة التي لا تقوم لها قائمة بدون إختيار عقلاني مسؤول.

ونقول أخيراً، أن أصعب ما في الإختيار هو القيام به، ولهذا يجب عليك أن تَخْتَارَ وَتُنَفِّذْ.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

..............................

Source du dicton :

[1] - Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit en français : Bordeaux, M.  C.  F., Édition 3. Date de publication : 1966, p. 943. (Adapté).

في المثقف اليوم