أقلام فكرية

عبد الامير الركابي: بيان نهاية عصر"الانسايوان" (1)

تقف البشرية على حافة الانتقالية العظمى الاعظم  غير المدركة، من "الانسايوانيه" وقد غدت منتهية الصلاحية والضرورة، الى "الانسان"اتفاقا مع المسار التصيري الترقوي للكائن الحي من " الحيوان" الى "الانسايوان" كمحطة وسطى، ذهابا الى المحطة الاخيرة، والغاية الوجودية العظمى، "الانسان"، وبعد الازدواج الطويل الحيواني والانسايواني (عقل/ جسد)، مع مراحل الغلبة الحيوانيه شبه المطلقة الاولى، ثم الحضور العقلي في الثانيه، تسير آليات الارتقائية من هنا فصاعدا باتجاه الوحدانية العقلية المستقلة، حيث ياخذ العقل بالتحرر من الجسدية ومتبقياتها، والعالق الحيواني المترسب منها.

فلنتخيل هول وفداحة، ومافوق استثنائية مانحن مقبلون عليه، مما لاسابق ولا شبيه له من قريب او بعيد، الامر البديهي بحكم اشتراطات "الطور الزمني والوجودي"، حيث الغلبة المطلقة للمنظور والرؤية والمعتقد الساري على مدى القرون، مع مايوافقه من زوايا نظر لمفهوم "الحقيقة" و "الواقع" وال"عقلاني"، نتاج ومايوافق الكينونة الحاكمه للوجود البشري الحالي على مدى الزمن اليدوي، وماقد تعزز بقوة  مع التوهمية الاوربية مابعد اليدوية كافتتاح نكوصي لابد منه، مواكب لبداية الانقلابيه الالية.

وليس واردا ولاممكنا مقارنه مانحن بصدد لفت الانتباه له، مع اي من حالات التغيير او التحولات و ماعرف بالثورات المعاشة كتاريخ تصيري حاكم لمسار المجتمعيات البشرية ابان الطورذاته الموشك اليوم على الانقضاء، فما مقصود هنا نمط ونوع انقلابيه تحولية غير مدركة، متجاوزه للمتاح من حدود الادراكية العقلية حتى حينه،لايمكن ان تخطر على بال الكائن البشري الحالي الانتقالي، وهي تقتضي كمبدا ومنطلق لاغنى عنه مطلقا، النظر عند المقارنه بحالات ومحطات التحول والانقلابيه التصيرية الفاصلة والعظمى الاسبق،  وبالذات تلك التي من نوع على سبيل المثال الوثبة العقلية الاولى، مع انتصاب الكائن البشري على قائمتين واستعماله اليدين، وماترتب على ذلك من متغيرات كينونه وبنية، من الحيوانيه الى "الانسايوانيه" كعتبة لازمة قبل الانتقال الى "الانسانيه"، المعتبرة قصورا وجهلا متحققه في حينه عند ساعة انبلاج العقل بصيغته الاولى الانسايوانيه، الباقية محكومة لاشتراطات الحاجاتية والارضوية الجسدية، ولنتخيل بناء عليه عظم العملية المشار اليها وفرادتها النوعية، انما من دون ان نفترض ـ كما يذهب العقل الانسايواني التكراري عادة ـ الى افتراض المرور بطبعه اخرى مما سبق، حيث يكون اللازم حكما وضرورة، التفريق بين ماض من التصيرية المنتهية مع تشخيص العنصر الحاسم فيها، وحاضر تبدل وغدت عناصره الفاعله مختلفة بحكم السيرورة والتراكم ونوع المتغيرات في عناصر التفاعليه المجتمعية، مع حصيلة التبدل وتفاعليته التاريخيه، فالكائن البشري ظل يستند في وجوده وانتقالاته قبل الوثبه العقلية  الحالية المعاشة، وواصل التغير متصيّرا، مستندا لقوة  وشمولية مفعول الطبيعة / البيئة، كعنصر حيوي اساس وحي، هو الافعل حصرا في  التصير الارتقائي العضوي، الامر الذي لم يعد هو نفسه مع حضور العقل وممكناته، وماهو مهيأ لبلوغه كحصيلة.

هذا يعني ان التصير الترقوي الحيوي هو عملية لم يكن للعقل او الارادة فيها مكان، وكانت تحدث خارج وعي الكائن الحي وتدخليته، مع انه هو موضوعها، بينما تغير الامر لاحقا وبعد حضور الالة وقبلها العقل، ليصبح عملية واعية، الادراك حاضر اساس  وضرورة لامعدى عنها فيها، الامر الذي لايمكن اطلاقا مشابهته بما قد سبقه من تحولية تصيرية بمحطاتها الترقوية ماقبل العقلية، فالانقلاب الراهن التحولي  مرتكزه اداة ووسيلة مادية هي ماتتمخض عنه الالة تكنولوجيا اولا، لاتكتمل فعالية الا بالقفزة الادراكية على مستوى الرؤية والنظر للوجود  فيلتقيان .

ومع اننا نتحدث عن استكمال للوثبة العقلية الاولى القصورية الناقصة، الاان المقارنه بين المحطتين التحولتين غير واردة، لان الثانيه هي الاكتمال الضروري للاسباب، مع نتائجه ومترتباته التي ينطوي عليها، ومن نوعه ومستواه، بعد ان يوفرها الزمن والتفاعل، وحضور عنصر اساس نوعي فعال مستجد، هو الالة، والى وقته فان  المحدودية الاعقالية تظل هي السائدة، بانتظار توفر الاشتراطات المناسبة نوعا، والنهائية اللازمه للانتقال الاكبر،مالايمكن تحققه وقتها خلال الطور الانتقالي الحالي "الانسايواني"،  ليبقى السؤال: ترى مالذي يهيء لابل يكمل الاسباب او المستلزمات الضرورية للعقل البشري، كي يبلغ لحظة ومنعطف تجاوز قصوريته "الانسايوانيه" العقلية الى مابعدها.

تلعب الضرورة الشاملة  والديناميات التحولية العليا هنا دورا اساسيا كقانون، وهي تهيء الاسباب والموجبات الضرورية لضمان سير عملية التفاعل التصيري المجتمعي والبيئي  وصولا الى الالي، وقت تصبح المجتمعات على مستوى الديناميات ( كائن بشري/ بيئة/ الة / عقل) بعدما كانت عند الابتداء وحدة (الكائن الحي / البيئة) فقط ثم ( الكائن البشري / البيئة/ العقل بصيغته الاولى القاصرة الابتداء) طالمااستمر الطور اليدوي هو الغالب، الى ان حدث الانقلاب الالي بصيغته المصنعية كبداية، قبل ان ينتقل الى الطور التكنولوجي الاول الانتاجي الراهن، وقبل ان نصير على مشارف الطور التحولي النهائي، حيث ( الكائن البشري/ البيئة/ العقل/ والتكنولوجيا العليا العقلية)  والتي صار انبجاسها من هنا فصاعدا لازما ووشيكا، منهية وطاة الجسدية وحضورها وما متبق من وطاة حاجيتها.

ان منظورات الانسايوانية الاحادية التبسيطية التابيدية، لاترى في المجتمعات الا صيغة وحيدة واحدة مفردة، متغافلة عن التحورات وتبدل عناصر التفاعل داخلها، وبالاخص تلك التي تفرض عليها الذهاب من المجتمعية الارضوية الحاجاتية، الى اللامجتمعية المقترنه بحضور الوسيلة الانتاجية العليا، نتيجه التحول الالي الذي لايمكن للاحاديون ان يروا فيه الا شكلا وحيدا هو الاخر، يجدونه ثابتا مثلما يكون عند الابتداء،  تلك الفترة الافتتاحية المصنعية الاقرب الى اليدوية التي سبقتها.

من ناحية اخرى يعجز العقل الانسايواني عن ترسم مواطن وممكنات الانقلاب العقلي المتجاوز للقصورية الاولى الارضوية التابيديه، وهنا يقع العقل "الانسايوان" باخطر واكبر مناحي  غفلته الطويلة والتي تظل مستمرة لمابعد الانقلاب الالي، ولان العقل الارضوي ادنى طاقة من ان يتعرف على "الازدواج" المجتمعي الملازم ابتداء للتبلور المجتمعي، فان ظاهرة المجتمعية "اللاارضوية" الذاهبة بنية وكينونة الى مافوق ارضوية، لاتتبينها الارضوية، وتعجز عن رؤيتها على امتداد الزمن اليدوي، وتستمرعلى مثل هذه الحال الى مابعد التحول الالي الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، مايعزز ميلها الحرج  شديد الخطورة، ويحول بينها وبين ان تعي احتمالية تتزايد الحاحا، متناسبة مع مقتضيات وشروط الضرورة الانقلابية المجتمعية المتعدية للارضوية وللانسايوانيه، ذلك علما بان اللاارضوية ليست بالظاهرة العرضية، ولا المستجده، وانها بالاحرى تنشا بالاصل كينونه مستقله ومباينه للارضوية، وتظل تخترق البنى الارضوية الاحادية من بدايات التبلور المجتمعي، مايكرس على مستوى المجتمعات البشرية ظاهرة الازدواج على مستوى المعمورة، الامر الذي تظل الارضوية تجهله  فتطرده الى عالم "الدين"، نازعة عنه خلفيته المجتمعية النوعيه، عجزا مكررا عن مقاربتها من ضمن عجزهاالقصوري عن ادراك الحقيقة المجتمعية  والانسانية الكونية، واليات تصيرها، ونوع منتهياتها واهدافها.

***

عبد الامير الركابي

في المثقف اليوم