أقلام فكرية
اسعد الامارة: اللغة معرفة باعماق النفس

ما يؤلمني حقًا هي نفسي، لم أجد الكلمات التي أستطيع أن اعبر بها بلغة مفهومة عن ما يدور بداخلي، داخلي الصاخب بموجودات لا تقبل أن تزيح نفسها بنفسها عن طريقي وتفكيري، فسلبت كل ما لدي من طاقة متاحة، لم تعد اللغة مفهومة كما أريد، لا أدري هل هذا بسبب الألم، أم خليط غير متجانس من الأفكار، وتدلنا كلمات الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري،
لم يبقَ عنديَّ ما يبتزه الألم،
حسبي من الموحشات الهمُ والهَرمُ،
*
لم يبقَ عنديَ كفاءة الحادثات أسىً،
ولا كفاءة جراحات ٍ تضجُّ دمُ،
*
وحين تطغى على الحران جمرته،
فالصمت أفضلُ ما يطوى عليه فمُ
.ويمكننا القول بأن الصمت هو أيضًا لغة. ونستشهد بقول المحلل النفسي الفرنسي "جاك ميلر": اللغة لا تشرح المتعة هنا، بل تجرحها، الجسد يحتفظ بالأثر، بالندبة، بالمتعة كصمت غير قابل للقول. رغم أن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي يقول خصوصية الإنسان هي أن يكون كائنًا متكلمًا، وعند " ارسطو " اللغة هي نظام أساس من الرموز التي تمكن البشر من التواصل والتفكير والتأمل في العالم، الكلمات هي تمثيلات رمزية للمفاهيم، وهذه المفاهيم نفسها تمثل الأشياء في العالم. إذن هي اللغة التي تعبر فيها النفس عما يدور في داخلها، حتى وإن لم تعرف كنهها، أو عن ما هو موجود فعلا، وإن خرج بتفوه وبكلمات وأفكار لها دلالتها وعمق معانيها، ولكنها ليست كل ذلك، فما بقي وخفي كان أعظم، ويرى " أرسطو " بأن الرموز " بما في ذلك اللغة " لا يمكنها نقل جوهر الحقائق المعقدة والمجردة بشكل كامل، على الرغم من أن اللغة أداة قوية لتمثل ومناقشة هذه المفاهيم، إلا أنها تظل غير كاملة ومحدودة بطبيعتها الرمزية، ومع ذلك يعرض لنا " جاك لاكان " بقوله ان اللغة البشرية تتميز بأن الاشارات التي تتكون منها، تكتسب قيمتها مع علاقتها مع بعضها البعض.
أن هروبنا نحو الحلم فهو يحمل لغة أيضًا ما لا يمكن قوله في حالة الوعي، يمكن قوله في حالة اللاوعي بوساطة الحلم حيث يكون بعضه ظاهر – سطحي، والآخر عميق له معنى كامن، وهو مؤشر لمعرفة ما يدور في النفس وفي اعماقها دون أن يعلن صاحبها عما يدور بداخله، أليس هذا الشخص يبحث في داله على مدلول مفقود، وكما تعلمنا أن الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة، لم يجده في حياته اليومية منه فهرب به دون أن يدري إلى عالم آخر تقل فيه الرقابة وينام الرقيب ليس عمدًا، بقدر ما هو تحايل على ما يرغب به، وهذه الرغبة جائحه غير مقبولة، ربما يعرف إنها مؤلمة، ولكن لا يستطيع أن يقاوم شدتها وعنفها على نفسه، فهرب بها إلى الحلم وظهرت لغة الحلم، كما يؤكد لنا " لاكان " الفرق بين اللغة كمجال رمزي وبين حواره الداخلي، وإن عبر عنه لاكان عن حساسية المريض في الجانب المعقِلن " لاكان، الذهانات، ص 152".
ألم يقل لنا فرويد ومن جاء بعده بأن الحلم هذاء قصير الأمد؟ ألم يظهر اللاشعور – اللاوعي ويعود بلغة قل على المشتغلين بالعلوم النفسية الآخرى إدراك كنهها؟ وهي حقيقة واقعية.
ألم يعلمنا التحليل النفسي أن عملية التكلم عند الإنسان هي الوسيلة لمجابهة الأكتئاب والضيق والحصر؟ ألم يذكرنا فرويد حينما يطلب الطفل من خالته في الغرفة الأخرى أن تتكلم لأن الغرفة مظلمة وهو يخاف من الوحدة؟
أَولم تكن تلك الكلمات بسحرها لوصف العاشق لمعشوقته في غيابها هو دليل حضورها ولو على مستوى التخييل، يعيد لنفسه نوعًا من الطمأنينة في غيابها فيكون هذا النمط من اللغة نمط إفراغي يبعد عنه دقائق نوبة الحصر وربما تؤدي إلى الكأبة. ما تقدم يؤكد لنا أهمية اللغة ونحن في حالة الوعي، وهو الأمر ذاته في حالة اللاوعي وهو الحلم بلغته، فالوجود يتحدد بوجود الكلام، بالتحدث مع ذاته ليعبر عن ما يدور في داخلها، ولا ننسى تأوهات الإنسان المريض وآنينه، وهي لغة لا تقل أهمية عن لغة العاشق الولهان وإن أختلفت مسارهما ولكن تتفق في بعدها النفسي الداخلي العميق.. ويحق لنا أن نسميها لغة اللاشعور – اللاوعي. لغة المتكلم الذي يبحث عن وجوده فرحًا أو متألمًا، وليبرهن لنا " جاك لاكان " نوعية الترابط ما بين الواقعي والمتخيل والرمزي، إنطلاقًا من أن دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة المتكلموجودي، أي الوجود مرهون بالكلام.
أن اللغة كما ذكرنا هي مرهونة بالوجود بكل أنواعه، ومنها الوجود الاجتماعي، حيث تعيد للإنسان حضوره، هذا الحضور القائم على الأنس والمؤانسه، حضور يتكيف به الإنسان مع مجتمعه، بلغة التواصل الذي يعتمد على التفكير سواء التفكير التجريدي مثل النكته، أو الفكرة المرمزة لقائلها، أو النكتة السياسية في الشارع، في المجتمعات التي تسجن صاحبها لعدة سنوات في غياهب المطامير وخلف الشمس حتى يطلب منه السجان أن يفقد ذهنه ويحاول محو القدرة على التفكير في العمليات الذهنية التي تميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى، وأفضل ما نستشهد به في هذا الموضع هي السجن الانفرادي المفروض على روبنسون كروسو حينما وجد نفسه وحيدًا في جزيرة صغيرة بعيدًا عن كل ما هو بشري واجتماعي، فلجأ "كروسو " أن يتواصل مع اللغة بطريقة مختلفة في عملية تخاطب، هي في الحقيقة مخاطبة للذات، وهي تمامًا يمثل فيها المرسِل والمرسَل إليه في آن معًا، ويقول " بسام بركة " وكأن أطراف العالم الاجتماعي كله قد ضاقت لتنحصر في حدود ذاته ويضيف أيضًا أن " كروسو" يشعر في الفشل في هذه المحاولة، ذلك أنه كما تؤكد نظريات التحليل النفسي ينحصر المستوى الواقعي الخارجي بين المستوى الرمزي " أي اللغة بشكل خاص " وبين المستوى الخيالي. والذات لايمكن أن تحافظ على كيانها، أو تعبر عن مستوياتها إلا بوساطة اللغة، كما يقول " لاكان " – هي ما يصدر عن الكائن الحي بفعل اللغة، والرغبة عند الإنسان هي بالتالي " رغبة في الآخر " وإنشداد نحو الآخر.
***
د. اسعد الامارة