أقلام فكرية

مصطفى غلمان: اقتصاد المعلومات والاتصالات في الصناعات الثقافية والإعلامية

لا يزال هناك شح واسع في العلوم الاقتصادية وعلاقتها الجدلية بمسألة الاتصالات. بل إن الدراسات تلك، تنتهي في سلسلة علاقتها الأضعف بعلوم الإنسان والمجتمع، بيد أن التخصصات الأخرى (اللسانيات، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وغيرها) تضل الأكثر حضورا وتطورا في بنية الراهن الإعلامي، وخصوصا في نموذج الاتصال، أو تبادل المعلومات.

ويأتي هذا الحقل الشفيف، ليوازن بين مضان التمثلات التي تقيس بها وسائل الإعلام ، وبشكل متزايد ما يحسب على التخصص الاقتصادي، وأولويته المتزايدة للاقتصاد التجاري أو المالي بخاصة، حيث يبرز قطاع المعلومات والثقافة والتبادلات بين الأفراد ذات الطبيعة المهنية أو الخاصة، بشكل لافت وبدرجة حادة، إن على مستوى استخدام الحساب الاقتصادي أو حتى التحليل الاقتصادي لدعم أو تعزيز القرارات الاستراتيجية للدول أو مجموعات الاتصال الكبيرة؛ أو المؤسسات ذات التوجه الإعلامي المحض.

أما مسألة اللجوء إلى التفكير الاقتصادي المبني على منهجية علمية، والهادفة إلى مراعاة التحولات الاجتماعية التي تعكس النمط العلمي الجديد ، فهي مربوطة بالتحليل الاقتصادي، باعتباره بحثا يحافظ على اتصالات - قريبة أحيانًا مع التفكير العلمي المناسب.

لكن، هنا لا ينبغي الخلط بين حسابات التكلفة، والتنبؤ بالعوائد على الاستثمار. وهي مجرد عملية تبدو فيها الخلفية الإعلامية مغيبة أو غائبة بفعل الاستحواذ الموضوعاتي للتفكير إياه.

فالاستثمارات أو التنبؤات بالنتائج المتوقعة لقرار ذي طبيعة مالية - وهو ما تختزله الدراسات التطبيقية في أغلب الأحيان - لا تفيد على الإطلاق في التفكير من جانبه الإعلامي أو الاتصالي، مادام هذا البعد يثير مأزق التوظيف الإعلامي للأحداث الاقتصادية والمالية والتجارية، وأبعاد وخلفيات ذلك، على المستوى القيمي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي والسياسي؟.

فكيف يمكن تفسير استمرار هذه الالتباسات التي يحركها الاقتصاد في المنبع، فضلا عن التأخر في التفكير المنهجي بتوظيف العقل الإعلامي المجرد؟

الأسباب متعددة ويصعب تمييزها. ولكن يبدو أن تحديد المفاهيم تبقى مشتركة بين الاقتصاديين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية الأخرى. وفي المجمل، كان الاقتصاديون، من كافة المدارس تقريباً، يكتفون بنقل منهجياتهم العامة إلى مجال المعلومات والثقافة والاتصالات، مع تسليط الضوء على بعض الجوانب المحددة، ولكن من دون إعادة التفكير في العديد من الأسباب العميقة الجذور بشأن إنتاج العائدات ذات المردودية المعكوسة.

أما علماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء الأنثروبولوجيا... فإن الخوف من الاقتصادية الإعلامية يساوي بالدرجة الأولى أولوية الاقتصاد الإعلامي، وهو ما يقود عمومًا إلى بناء بيئة اجتماعية لا علاقة لها بالاقتصاد على الإطلاق.

إن تلكم المواقف التكميلية تضر بشكل عام باهتمام ونوعية البحث في مجال الاتصالات، لأن النهج الاقتصادي يظهر في المقام الأول قوة واضحة للمهتمين سالفي الذكر؛ خصوصا في مجال السوسيولوجيا (وهو مبحث سبق وخصصنا له دراسة نشرناها في العديد من المواقع العلمية)، إنه يمثل مساعدة كبيرة في جميع الأنشطة الهامة.

هنا، يمكن طرح السؤال: كيف يمكن استيعاب العمل الإعلامي المعاصر استنادا فقط إلى العلاقات القائمة بين الوسائل والقراء أو المتابعين، كما ووظيفتها في الفضاء العام، دون دراسة الاستراتيجيات التي تتبعها مجموعات الاتصال والطبيعة الاقتصادية لمثل هذا المحتوى كمعلومة وكفاعل مجتمعي؟.

بمعنى آخر، إلى أي مدى يكون المنطق ذا صلة، تحت اسم الصناعات الثقافية، الذي يمزج كل ما يتعلق بنشاط تجاري مثلا وسوق الفن والترويج الإعلاني)، أو حتى التجاري البسيط، كإنشاء خدمات عن بعد، والعمليات الأخرى المرتبطة بجزء من الإنتاج الصناعي الكبير ، كإنتاج المواد للعموم أو السلع الثقافية مثل السجلات والتوثيقات وغيرها...؟ . وإلى أي مدى يمكن تقبل وضعيات كدراسة تطور التلفزيون دون تأسيس صناعة دولية للبرامج السمعية والبصرية؟ وكيف نفسر صعود وسائل الاتصال دون استخدام المنطق الاقتصادي؛ أليس لأنه يتم إنتاجه بالتزامن مع انتشار السلعة؟.

وبمعنى أعمق، فإن اللجوء إلى العلوم الاقتصادية - أدوات التحليل والمنهجيات التي ساهمت في صياغتها - يمكن أن يتجنب وجهات النظر الاختزالية ، كاقتصار التواصل على تفاعلات الحياة اليومية، أو إخضاع الأساليب الواضحة بشكل زائف، كما يحدث مع استيعاب الحياة السياسية لتدخلات القادة في وسائل الإعلام الرئيسية، وبالتالي المساهمة في معرفة الحركات الكبيرة التي تؤثر، من خلال تطوير تقنيات الاتصال، على المجتمعات المعاصرة.

هذا سيؤدي حتما إلى طرق بنية شبكة (تقنيات) الاتصال أو العمليات التي تنتشر من خلالها الابتكارات كالحوسبة الصغيرة المحلية، لتكون جسرا لانخراط النسق الاقتصادي في الفسفة الإعلامية، وتحويلها إلى براديجم مشتبك مع باقي العلوم الإنسانية ذات الصلة، وعلى رأسها السوسيولوجيا الثقافية والإعلامية، التي أضحت تشكل مركزا اتصاليا عالي الخطورة والامتداد .

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

في المثقف اليوم