قضايا

علي الخطيب: اللغة العربية كما نعيشها لا كما نحتفل بها

تأملات في اليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر)

في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، يُحتفى باليوم العالمي للغة العربية، وغالبًا ما يأتي هذا الاحتفاء في صورة خطاب احتفالي يستحضر جمال اللغة أو يؤكد بعدها الثقافي. غير أنني أعتقد أن هذا التناول، على أهميته الرمزية، لا يقترب بما يكفي من السؤال الجوهري الذي يستحق التوقف عنده في مثل هذه المناسبة. فالسؤال، في تقديري، ليس: كيف نحتفي باللغة العربية؟ بل: كيف نفهم موقع اللغة داخل عملية التفكير نفسها؟ ومن هنا، لا يعود الحديث عن اللغة شأنًا لغويًا خالصًا، بل طريقًا لفهم كيفية تفكير الإنسان.

 ومن هذا المنطلق، أرى أن التحول الذي شهدته الفلسفة المعاصرة في فهم اللغة ينسجم تمامًا مع خبرتنا اليومية. فاللغة لم تعد تُفهم بوصفها أداة محايدة تنقل أفكارًا جاهزة، بل بوصفها المجال الذي تتكوّن فيه الفكرة أثناء تشكّلها. ويتضح ذلك ببساطة حين أجد نفسي أشرح فكرة ما، ثم أكتشف أنني لم أكن أفهمها جيدًا قبل أن أبدأ في شرحها. في هذه اللحظة، لا تكون اللغة مجرد وسيلة نقل، بل طريقة للفهم ذاته. وبهذا المعنى، تصبح اللغة العربية جديرة بالاهتمام الفلسفي لا لأنها تراث عريق فقط، بل لأنها تكشف بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين القول والتفكير.

وانطلاقًا من هذه العلاقة، ألاحظ أن تجربتنا اليومية تؤكد أننا لا ننتج أفكارًا مكتملة ثم نبحث لها عن ألفاظ مناسبة، بل إن الفكرة نفسها تتبلور أثناء التعبير عنها. فعندما يقول شخص: "خليني أرتّب كلامي"، فهو في الواقع يعبّر عن حاجة أعمق، هي ترتيب الفهم لا ترتيب الكلمات. ولذلك، لا يمكن النظر إلى اللغة باعتبارها مرحلة لاحقة للتفكير، بل باعتبارها جزءًا من بنيته الداخلية. وهذا ما يظهر بوضوح في العربية، حيث إن اختيار الفعل أو الاسم، أو تقديم كلمة وتأخير أخرى، لا يغيّر شكل الجملة فقط، بل يغيّر طبيعة المعنى المتكوّن. وهكذا، يصبح النطق نفسه لحظة من لحظات التفكير.

ومن هنا، نصل بشكل طبيعي إلى علاقتنا بالتجربة المعاشة. فأنا أعتقد أن الإنسان لا يعيش التجربة أولًا ثم يفهمها لاحقًا، بل يفهمها وهو يحاول التعبير عنها. فعندما أقول: "أنا متلخبط"، لا أكون بصدد وصف حالة ذهنية جاهزة، بل أقوم بتحويل شعور غير واضح إلى صيغة يمكن إدراكها والتعامل معها. ومن خلال هذا التحويل، تساعدني اللغة على بلورة تجربتي بدل أن تبقى غامضة ومبعثرة. وفي هذا الصدد، يتجلّى ثراء العربية في قدرتها على تشخيص الحالات الوجدانية الدقيقة، مثل: حيرة، ارتباك، تردّد، قلق خفيف، وعدم ارتياح. فالتسمية هنا ليست ترفًا لغويًا، بل أداة لإعادة صوغ التجربة وتحويلها إلى خبرة مفهومة قابلة للتداول. وانطلاقًا من هذا التنظيم الدقيق للتجربة، يمكن استنتاج أن اللغة العربية لا تتعامل مع الخبرة الإنسانية بمنطق الحسم أو القطع، بل بمنطق التدرّج. فنحن في حياتنا اليومية نادرًا ما نكون في حالة يقين كامل أو رفض مطلق، والعربية تعكس هذا الواقع بصدق. نقول: أفهم جزئيًا، مقتنع إلى حدّ ما، الصورة غير واضحة تمامًا، القرار لم ينضج بعد. هذا التدرّج لا يمثّل ضعفًا في التعبير، بل دقّة في التفكير؛ إذ يجنّب العقل الوقوع في أحكام نهائية متسرّعة، ويُبقي مساحة للمراجعة وإعادة الفهم. وبهذا المعنى، لا تخدم العربية البلاغة فحسب، بل تدعم التفكير الناقد في أبسط صوره اليومية.

ومن هذا التدرّج، نصل إلى مسألة المعنى. فالمعنى، في رأيي، لا يتكوّن داخل الفرد وحده، ولا يُختزل في الكلمات ذاتها، بل يتشكل داخل موقف تواصلي مشترك. فكثير من العبارات التي نستخدمها يوميًا لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق، مثل: "واضح بس مش قوي" أو "مش مقتنع بس فاهم". فهذه العبارات لا تُفهم من خلال الكلمات فقط، بل من خلال النبرة، واللحظة، والعلاقة بين المتكلمين. ومن هنا، يتضح أن اللغة ليست نظامًا مغلقًا من القواعد، بل ممارسة يومية للفهم المشترك، وهو ما يفتح الباب للتفكير في سوء الفهم وحدود التعبير وإمكانات التواصل الإنساني.

وعلى هذا الأساس، أرى أن النظر إلى اللغة العربية من زاوية الاحتفال وحدها يُفقدها بعدها الأعمق. فالاحتفال، مهما تكرر في ديسمبر وتحديدًا في الثامن عشر منه، يظل ناقصًا إذا لم يُصاحبه وعي بدور اللغة في تشكيل التفكير. أما حين ننظر إلى العربية بوصفها شرطًا من شروط الفهم، فإننا ندرك أنها ليست مخزونًا لغويًا ساكنًا، بل أداة حية لصياغة التجربة الإنسانية. فاللغة لا تصف الواقع فقط، بل تساهم في تكوينه ذهنيًا، وبهذا تكون العربية شريكًا رئيسًا في التفكير، لا مجرد وعاء له.

وانطلاقًا من هذا الفهم لدور اللغة داخل عملية التفكير، يمكن صياغة عدد من التوصيات التي لا تهدف إلى إصدار أحكام، بقدر ما تسعى إلى لفت الانتباه إلى إمكانات اللغة العربية كما نعيشها في ممارساتنا اليومية.أولًا: أوصي بتجاوز النظر إلى اللغة العربية بوصفها موضوعًا للاحتفال فقط، والنظر إليها بوصفها أداة حيّة للتفكير. ففي مواقف التردّد ومحاولات الفهم وإعادة شرح ما نشعر به، تظهر اللغة بوصفها جزءًا من عملية التفكير نفسها. فعندما يتوقف شخص ليعيد صياغة كلامه، فإنه لا يبحث عن ألفاظ أجمل، بل يحاول الوصول إلى فهم أدق لما يفكر فيه. ثانيًا: أوصي بالتعامل مع التعبير اللغوي باعتباره ممارسة للفهم، لا مجرد نقل لأفكار مكتملة. فكثيرًا ما تتضح الفكرة أثناء شرحها لا قبل ذلك. ومن هنا، فإن تحسين القدرة على التعبير في الحياة اليومية ينعكس مباشرة على وضوح التفكير، سواء في الحوار أو في الكتابة. ثالثًا:

أوصي بالإنصات الجاد للغة الحياة اليومية بوصفها مصدرًا مشروعًا للفهم الفلسفي. فالتعبيرات البسيطة التي نستخدمها دون وعي، مثل: "مش مرتاح" أو "حاسس بحاجة بس مش واضحة"، تكشف عن وعي دقيق بالتجربة الإنسانية، ولا تقل قيمة عن المفاهيم النظرية المجردة.رابعًا: أوصي باعتماد منطق التدرّج في التفكير والتعبير، بدل السعي الدائم إلى الحسم السريع. فاللغة العربية تتيح صيغًا تعبّر عن الفهم الجزئي وعدم الاكتمال، مثل: "إلى حدّ ما" و"لسه محتاج أفكر". واستخدام هذه الصيغ لا يعكس ضعفًا، بل وعيًا بحدود الفهم الإنساني. خامسًا: أوصي بفهم المعنى بوصفه نتاجًا تواصليًا يتكوّن داخل لحظة التفاعل، لا خاصية ثابتة للكلمات وحدها. فكثير من العبارات اليومية لا يُفهم معناها إلا من خلال الموقف والنبرة والعلاقة بين المتكلمين، وهو ما يؤكد أن التواصل فعل مشترك لا مجرد تبادل ألفاظ. سادسًا: أوصي بتجاوز اختزال اللغة في القواعد والتصحيحات الشكلية، خاصة في الممارسات اليومية. فعندما يعجز شخص عن التعبير، يكون السبب غالبًا تعثرًا في الفهم لا نقصًا لغويًا. ومساعدته تبدأ بالإنصات لتجربته، لا بتصويب لغته. سابعًا: أوصي باستخدام اللغة لوصف التجربة كما تُعاش، لا كما يُراد لها أن تبدو. فالتمييز بين الحالات الشعورية الدقيقة ليس ترفًا لغويًا، بل وسيلة لفهم الذات بعمق أكبر. وكلما ازدادت قدرتنا على التمييز الدلالي، ازداد وضوح علاقتنا بتجاربنا اليومية.

ومن خلال هذه التوصيات، يتضح لي أن اللغة العربية لا تُستعاد عبر الخطاب الاحتفالي وحده، بل من خلال استخدامها اليومي بوصفها أداة للفهم، وشريكًا في التفكير، ووسيلة لتنظيم التجربة الإنسانية. ومن هذا المنظور، يصبح التعامل مع اللغة بوصفها قواعد فقط اختزالًا لطبيعتها الحقيقية. فعندما يقول شخص: "مش لاقي الكلمات"، فهو في الغالب لا يعاني نقصًا لغويًا، بل تعثرًا في الفهم. ولهذا، أرى أن تدريب الإنسان على التعبير عن تجاربه اليومية هو في جوهره تدريب على التفكير نفسه. كما أن اختيار الكلمات في الحوار ليس مسألة شكلية، لأن الفرق بين قول: "أنت غلطان" وقول: "أنا محتاج أفهم وجهة نظرك" هو فرق في طريقة بناء العلاقة وأفق الفهم، لا في الصياغة وحدها.

وأعتقد أن التعبير التأملي، سواء في الكتابة أو في الحديث، هو تمرين فلسفي عملي، حتى وإن لم نسمّه كذلك. فعندما يصف الإنسان شعوره بدقة، لا يكون بصدد تسجيله فقط، بل يعيد تنظيمه ذهنيًا. والتمييز بين التعب والإجهاد والإرهاق ليس ترفًا لغويًا، بل وسيلة لفهم الذات بدقة أكبر. فكلما ازدادت قدرتنا على التمييز الدلالي، ازداد وضوح تفكيرنا وقدرتنا على التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي الختام، أرى أن اللغة العربية تظل حيّة بقدر ما نستخدمها لوصف ما نعيشه فعلًا: لحظات الحيرة، صعوبة القرار، عدم اليقين، ومحاولات الفهم بعد تجربة مربكة. ففي هذه اللحظات، لا تكون اللغة مجرد وسيلة للكلام، بل أداة للتأمل. ولذلك، فإن الاحتفال باللغة العربية في يومها العالمي لا يكون لأنها جميلة فقط، بل لأنها تفكّر معنا، وتساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا.

***

أ.د/ علي الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا

 

في المثقف اليوم