قضايا

رشيد الخيّون: دراما التَّاريخ وكتابته أدباً.. المحاذير

يبقى تمثيل وقائع مِن التَّاريخ، ذات الشّجار الدِّينيّ والمذَّهبيّ، خطراً ليس في الحُسبان، فالمتلقي يتعامل مع المَشاهد واقعاً مجسداً أمامه فيلماً، يُطبع في ذهنه أنَّ المعروض ليس تاريخاً ممثلاً، ولى ومضى، إنَّما حاضرٌ حيَّ يعيشه بكلِّ جوارحه، يترصد عدوه مجسداً في الفيلم.
يجري التّراشق بتفاسير وتآويل للمعروض، فالمُشاهدُ لا يتعامل مع الشَّخصيات بفائدة التَّاريخ، إنما بعين ما رسمتها مخيلته، ملائكيَّة أو شيطنة، فلكلٍّ تدويناته وتهويلاته، مدحاً وقدحاً. كيف يُرجى مِن مؤلف السيناريو الحياد والموضوعيَّة، والتَّاريخ الذي غرف منه معلوماته متعدد الرّوايات، وكاتب النّص والمخرج ضالتهما الإثارة، لا يهمهما ما تسفر عنه، سلباً أم إيجاباً؟
فالكاتب لا يملك ثبت أمثال محمد بن جرير الطّبري (ت: 310هج)، الذي لم يتعبه تقصي الواقعة مِن مختلف الموارد، ولا يهمه ما عرف بـ «الجرح والتَّعديل». مع علمنا، أنَّ ما نقرؤه في كُتب الملل والنّحل، وفي حِقب مِن التّاريخ العام، ليس المعلومة التي يُطمأن إليها، فكلّ مؤرخٍ جعل شخوص فرقته ملائكةً وأعلى، بينما جعل الآخرين شياطين وأدنى، ومَن حاول الحياد جُلد بسِياط التَّسقيط، مِن قِبل الطَّرفين.
كيف يكون الأَمر، والدّراما الدّينية أو التّاريخيَّة، شأنها شأن غيرها، تقدم محلاةً محشاةً بزيادات ونواقص للإثارة والترويج، فأصحابها لا يكترثون بنتائج التَّأثير كفائدة اجتماعيَّة، لأنَّ النّجاح عندهم يحدده عدد المتفرجين، وأيّ عمل يثير الجمهور، وإنْ كان برنامج «زعيق»، يُعد ناجحاً بحصاد ملايين المشاهدات، بينما برامج ثقافيّة جادة، لها جمهورها الهادئ، عُطلت لأنْها لا تُنافس في أجواء الجهل.
أما عن كتابة الرّواية نصاً أدبيَّاً، فيغلب على الظَّن أن الذي أدخلها جرجي زيدان (ت: 1914) مِن كُتاب الغرب، وزيدان طبيب، ودارس للعلوم الطَّبيعية، ليته ترك التّاريخ واعتنى بطبه، لأنَّ ما صنفه تحت عنوان «روايات تاريخ الإسلام»، نشد فيه التَّشويق لقراءة كتبه، وليس صحيحاً قصد تشجع قراءة التّاريخ، فقد أدخل الخيال على الرّوايات، وفتح الباب أمَّام آخرين، دربوا على دربه وأسلوبه، وعاشوا على جهود المؤرخين، الأوائل والمعاصرين، فمن أجل الإثارة والتّشويق هُتكت شخصيات، ورفعت أُخرى، وأخذت هذه الكتب تُمثل دراما وكوميديات.
ذكر لي أحدهم منبهراً بما قرأه في نص أدبيّ تاريخيّ، أنَّ صفاً دراسيّاً جمع بين ثلاثة كبار صاروا، واتفقوا على التعاضد في المستقبل: الوزير نظام المُلك (اغتيل: 485 هج)، وقائد الحركة النّزاريّة حسن الصَّباح (ت: 519ه)، والشَّاعر عُمر الخيَّام (ت: 515 هج)، وشاع ذلك على أنّها حقيقة، وجد من نقل ذلك إثارة فجعلها في روايته، وهي كذْبة سبق أنْ كشفها طه أحمد شرف، في «دولة النّزاريَّة أجداد أغاخان» (القاهرة 1950)، وهذا مجرد مثال. إذا دخلت أكاذيب في تدوين التَّاريخ، لأسبابٍ وأغراضٍ شتى، فكُتاب السِّيناريوهات للدراما التَّاريخية، وكُتاب قصص التاريخ بأسلوب الرّوايات الأدبيَّة، زادوا في المشهد، ودورهم هنا ليس قصد التَّنابز المذهبيّ أو الدّينيّ، إنما طلب الإثارة والتّشويق، بقصد جذب المشاهدين والقراء، لهذا لا تجد مؤرخاً، يحترم عِلمه، يقرأ هذه القصص، ويشاهد تلك الأعمال، ويتخذها في مصادره، حتَّى مِن باب نقضها.
لا يجوز معاملة تدوين التّاريخ بالتمثيل وكتابة الأدب، فهو بشرقنا غير مأمون النَّتائج، لا تظنونه نزهة مشوقة لقراءة التّاريخ، فالعِلة بالملقن والمتلقي، أعمال تخوض في مواقف ومعارك، مَن يعتبرها نصراً لا ظُلم فيه، ولا تستطيع الدّراما أو الأدب تقديمها بأقل مِن هذا، بينما الذي وقع عليه النَّصر يراه قهراً، وهذه حقيقة المعارك كافة، فيها المنتصر والمهزوم. أقول: لا يُحجب التّاريخ في الدّراما أو الأدب، إلا ما يصعب على العوام تحمله مهما جُمل، وإلا هناك أضابير مِن الوقائع، التي يجتمع عليها النّاس، مِن الآداب والعلوم والفلسفات، تمثيل الوقائع الحياديَّة لا الملتهبة، حرصاً على الإثارة النَّافعة.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم