قضايا

نهاد الحديثي: الشاعر والفيلسوف

قيل: إن الشاعر والفيلسوف لا يتفقان، فالفيلسوف يزعم أن الشاعر يحبب إلى الناس الخلاعة ويغريهم بها؛ والشاعر يظن أن الفيلسوف يبعدهم من الإدراك الأسمى لحقائق الحياة، وقيل: إن هذا الخلاف بينهما قديم جدًّا، أقدم من أفلاطون وهوميروس، فلا الفيلسوف يحترم الشاعر منذ ذاك الزمن حتى اليوم، ولا الشاعر يحترم الفيلسوف، منذ أفلاطون وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة ظلت العلاقة مضطربة بين الفيلسوف والشعر، علاقة لم تعد إلى التواصل إلا مع نيتشه الذي أعاد الربط بين الفلسفة والشعر بشكل جمالي. لكن الخلافات مازالت كثيرة بين العالمين رغم تقاطعاتهما، وإمكانية إرساء أرض وسط بينهما، لكل نمط من الكتابة قواعده التي يسعى العقل لفرضها أو التسليم بالشائع منها، لكن أكثر الكتابات انفلاتا من عقال العقل هي الشعر. غير أن الشاعر لا يكسر كل القواعد، فهو يكتب بلغة لها نحوها وأصواتها وعوالمها، وقد يجند نفسه دفاعا عن واقع بديل لآخر مرفوض، فينشد عدلا برفضه لما يبدو له ظلما، وقد يتخيل ما ليس موجودا فيشيده بناء على نموذج خاص، ابتدعه واشترط له شروطا، امتثل لها بطريقته، أو حتى تمرد عليها فناقضها أو أخفى ما ينازعها وجودها، الشاعر لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، ولذلك تتحول اللغات بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى، لم تنل منه كليا، وتركت عليه خدوشاتها الراسمة لمسارات الأفكار والتخيلات وهي تغامر في مواجهاتها للمعتاد والمتفق حوله، اقتناعا أو كرها. من هنا اكتشفت الوشائج الخفية بين الفلاسفة والشعراء، هي وجدت ولم تظهر إلا متأخرة، الشاعر الفيلسوف محمد اقبال يقول عندما كانت الأساطير تقتات من الشعر، كان الشعراء مغيبون ونادرا ما تحضر أسماؤهم بحضور كلامهم أو ما شابهه، لكن الفلاسفة بتوجسهم من الشعر حاولوا بناء قولهم، بما يشبه اختزال الكلام وعزله عن الصور. فقط أفلاطون، في حجاجية الكهف، استحضر صورهم الشبيهة بالأسطورة وإن جعل لغتها خالية من التعبير الأدبي رغم مجازاتها الظاهرة، ولم يكن له خيار آخر، والأسطورة لا تزال عوالمها حاضرة، تحتضر، لكن ببطء، لكن نيتشه في عودته إلى الحكمة الزرادشتية شذب القول الشعري بحكمة الشذرة، التي لم تكن غريبة عن الشعر الذي كان خير ممثل لها عندما يحتويها، ليجعل الفكرة عميقة بمعناها وجمالية تعبيرها، مثبتا أن العقل يتمثل بحب، كما قد يعشق العاشق بعقل، وهكذا، بفنية تمرد على الميتافيزيقا التي ربما بدت له أسطورة عقلنها العقل بأن استأجر لها بناء عقليا يجعلها مقبولة كوجود حقيقي يدعم به الموجود، ويهبه أخلاقية مفترضة، هي أخلاق الخضوع للقوة الغريزية التي تقدست بالفضيلة، صونا لعار الخضوع والامتثال للقوة المفروضة بأخلاقية، تحررت من سطوة المقدس، لتقبل بعبودية لأقانيم جديدة، هي قوانين العقل المبجلة، والتي خرقها يجعل الإنسان منحطا في نظر نفسه، قبل غيره، الفيلسوف مفارق في تاريخه، بين الرفض والتمرد يقيم، كاشف عن أنساق الفكر الذي يتمثل به العالم، إذ هو على حد تعبير سقراط “الذبابة التي تزعجكم” وهي طيلة النهار تلدغ لتحرم البشر من النوم، ليضجروا من الكسل وعاداته السيئة، فكانت الفلسفة رديفا لليقظة، والحكيم هو اليقظ، الرافض للخدع والاستسلام للراحة التي يحبذها الجسد وتسعى لها الأنفس الراضخة له، إنه الحالم بالوضوح والبداهة العقلية، وهو مطارد للوهم في صراعاته ضد غيره، فلا تغريه البساطة التي تخفي عجزا، ولا القداسة التي تستهوي الخاضعين لسلطتها المغرية، ولا يستكين الفيلسوف لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، فيعترف بما اقترف من هفوات، ليعلنها دون طقوس للغفران، فهي ليست ذنوبا موجبة للتوبة، وهو لا يخافها، كعثرات يتعلم بها الجري والتغلب على خيبات الفكر وهو يفاجئ نفسه، فيتمرن بالخدع على ملاحقة الحقائق أو ما يبدو كذلك، هو من بمعرفته يكتشف أنه لا يعرف، هو من بوجوده المتناهي يرسم حدود اللانهائي، كما يظنه ويحسب أنه ملاقيه فيما بعد بغيره، أي بمن يواصلون مساره، أو يعدلونه، أو حتى يرفضونه

الفيلسوف متمرد لا يستكين لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، أما الشاعر فلا يجرد في تخيله، بل يلامس باللغة ما يستعصي عليها وهي تستحوذ على عوالم متاحة لرؤيتها ولمسها، هو يخلق للفكر متعة، بلغة لها إيقاعاتها الداخلية، قبل قافيتها الخارجية، فيتخيل بوهم أوجه الحقيقة ليدفعها نحو ما كانته قبل القول، وينتظر بروزها ليعيد صياغة القول أو يكتبه، وبذلك فهو لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، يجد فيها سامعها ما لم يجد القارئ فيها، فتتجدد المعاني وقد تتضارب، في غموض تمضي وتتسع إلى ما لا نهاية، فيجد فيها كل ساع إليها ما افتقده في غيرها، فيعثر على الحكمة إن حكيما كان، ورمزا بإيحاءات محركة لعوالم، بحث عنها فتاهت منه أو فقدها في ذكرى عاشها، إن في بنات خيال الشعراء العبقريين وبنات أفكار الفلاسفة الكبار لفلسفة هي الشعر، وشعرًا هو الفلسفة، وقل: هو الشعر الفلسفي في أسمى مظاهره، وهي الفلسفة الشعرية في أجلى وأجمل معانيها، فما قولنا بأبي العلاء، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء؟ وما قولنا بالفارض، شاعر التصوف والفلسفة الإلهية؟ وهل أذكرك كذلك بقصيدة الفيلسوف ابن سينا في النفس؟ فماهي حقيقة الغزالي في «إحياء العلوم»، وماهي حقيقة ابن طفيل في «حي بن يقظان».

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم