قضايا
خالد اليماني: قراءة في "حي بن يقظان" لابن طفيل.. رحلة العقل إلى المطلق

مدخل إلى شخصية ابن طفيل وتكوينه الفكري
حين نقترب من سيرة ابن طفيل، لا نرى مجرد فيلسوف من فلاسفة الأندلس، بل نواجه مشروعًا متكاملًا لشخص نذر نفسه لفهم الوجود وإضاءة طريق العقل. وُلد أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل في وادي آش بالأندلس مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، وامتدت حياته بين غرناطة ومراكش، في فضاء ثقافي شهد تلاقح العلوم، وتصارع الرؤى، وخصوبة التجربة الروحية. جمع في تكوينه بين الطب والفلك، وبين القضاء والشعر، لكنه اختار أن يعبّر عن أعمق أفكاره من خلال الفلسفة، مستلهمًا روح القصة الرمزية التي مهّد لها من قبله ابن سينا، ومكمّلًا مسارها برؤية أكثر اكتمالًا واتساعًا.
ما ميّز ابن طفيل لم يكن مجرد اطلاعه على الفلسفة الإسلامية واليونانية، بل قدرته على تطويعها ضمن سياق يزاوج بين التجربة العقلية والتأمل الوجودي. لم يكن معنيًّا ببناء نسق نظري مغلق، بقدر ما كان مهتمًّا بتجسيد إمكانيات المعرفة الذاتية، وبناء جسر بين الإنسان والعالم من خلال العقل الحر، لا عبر التلقين أو التبعية. هذه الرؤية لم تكن حبيسة المقولات المجردة، بل اختار لها ابن طفيل قالبًا سرديًّا فريدًا، جسّده في عمله الأشهر: حي بن يقظان.
قصة “حي بن يقظان” بوصفها تجربة وجودية
ليست قصة “حي بن يقظان” مجرد سرد لحياة شخص نشأ في عزلة، بل هي إعادة تمثيل فلسفية لميلاد الوعي. تبدأ الحكاية من جزيرة خالية من البشر، حيث يظهر طفل مجهول الأصل، يتربى بين أحضان الطبيعة، فيتعلّم كل شيء من خلال ملاحظته الحسية وتجاربه اليومية. شيئًا فشيئًا، يبدأ الطفل “حي” في إدراك الظواهر من حوله، ثم يتأمل في الحياة والموت، ويتوصل بنفسه إلى وجود مبدأ أول خالق ومنظم.
لا يعتمد حي في اكتشافه على معلم أو نصوص، بل يرقى في مدارج الفهم عبر مزيج من الحدس والتجريب. هذا المسار الرمزي يرسم صورة حية لمسيرة العقل البشري حين يكون متحررًا من القيود. وحين يلتقي حي لاحقًا بالعابد “أبسال”، تتضح مفارقة عميقة: فـ”حي” الذي لم يتلقَ أي تعليم ديني، توصّل إلى نفس جوهر الحقيقة التي عرفها أبسال عن طريق الوحي. إلا أن حي، بفطرته الحرة، سرعان ما يصطدم بالمجتمع، حين يقرر الذهاب مع أبسال إلى الناس، فلا يستطيعون تحمّل رؤيته الفلسفية العميقة، ويفضّلان عليه الشكل الظاهري للدين.
القصة إذن ليست مجرد مغامرة فكرية، بل دعوة إلى تأمل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، بين الروح واللغة، وبين الفرد والمجتمع. ابن طفيل يصوغ في هذا النص أطروحة عن قدرة العقل البشري على إدراك الحقيقة، لكنه في الوقت نفسه يعترف بحاجات العامة إلى الرموز والشعائر، ما يفتح مجالًا لفهم الدين كمنظومة تربوية لا كإجبار معرفي.
تأثير القصة ورمزيتها في تاريخ الفلسفة
لم يلبث أثر “حي بن يقظان” أن تجاوز حدود الثقافة الإسلامية، فحين تُرجمت القصة إلى اللاتينية عام 1671، استوقفت العديد من فلاسفة أوروبا في عصر النهضة والتنوير. رأى فيها جون لوك مثالًا حيًا على مفهومه في أن العقل يولد كصفحة بيضاء تُشكّلها التجربة، وهو ما يشكل صدى مباشرًا لما فعله حي في الجزيرة. كما أُعجب بها دانييل ديفو، الذي بنى في روايته “روبنسون كروزو” صورة قريبة لشخصية الفرد المعزول الذي يكتشف ذاته في مواجهة الطبيعة.
أما في السياق الإسلامي، فقد أثارت القصة تفاعلات مختلفة، أبرزها رد ابن النفيس في “الرسالة الكاملية”، حيث اقترح مسارًا مختلفًا لنشوء المعرفة، أكثر ارتباطًا بالمجتمع واللغة. غير أن ابن طفيل ظل مميزًا في اختياره للعزلة طريقًا للتطهر المعرفي، وفي جعله من التأمل طريقًا للترقي الروحي. القصة لم تكن دفاعًا عن الفلسفة ضد الدين، بل كانت سعيًا لتجاوز هذا التعارض، عبر تقديم نموذج إنساني يُجسّد المعرفة لا كمجموعة مفاهيم، بل كرحلة وجدانية عقلية تصل في نهايتها إلى الصمت المملوء باليقين.
خاتمة
“حي بن يقظان” ليس مجرد نص أدبي أو فلسفي، بل علامة بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، تجسّد كيف يمكن أن تتجسد الفلسفة في صورة سرد حي. عبر شخصية ابن طفيل، نلمس اتساعًا في الأفق العقلي، وعمقًا في الرؤية الوجودية، وتجسيدًا نادرًا لتحالف العقل مع الروح. من خلال القصة، نُعيد التفكير في علاقتنا بالمعرفة، في جدوى العزلة، وفي حتمية البحث عن المعنى. وربما يكمن سحر هذا العمل في قدرته على أن يظل حيًا، يقظًا، كلما أعدنا قراءته.
***
خالد اليماني - باحث