قراءات نقدية

محمد العرجوني: عتاب شاعري.. مع نص الشاعرة سنيا فرجاني

قراءة في نص: "أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد"، للشاعرة التونسية: سنيا فرجاني

***

أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد

بين السطور يسكن المزارعون

يخبّئون فؤوسهم

ومعاول الخريف

وحبوب العام المقبل من كل عام .

أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام

تسللّت من حقولهم

لأسرّة الحديد

ينامون عليها في رأسي

ويخرجون مع الفجر

عندما يتطلّع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر.

الشعر تبن يستلقي عليه القطيع حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا.

هو تلك المسافة الضئيلة بين عيونكم

وحروفي

فيها امرأة تغيّر مكان الفانوس

من طاولة الليل إلى حفرة في وجه عبوس.

وفيها بستانيّ يقلّم شجرة على فستان بنيّة

غنّت قرب الغدير ونامت

فصارت باقتها جاهزة

هل ترون الباقة؟؟

اقرؤوا قصائدي ببطء شديد

ستعثرون على كيس القمح ومقصّ البستانيّ

وعلى وسادة محشوّة بالبراهين.

***

من ديوان: ال45 بتوقيت أبي[1]

................

هذه القصيدة تغري المتلقي الذي يبحث عن إشباع متعته الأدبية. وما يزيد في نكهة الإغراء، هو هذا الاستفزاز المباشر الصادر عن الشاعرة اتجاه المتلقي. فالقصيدة يؤطرها إذن خطاب مباشر موجه إلى المتلقي كما سنرى، لكن سرعان ما  يصبح نصا متماسكا لسانيا بجمالية مدهشة ناتجة عن انزياحات مفاجئة وكأنها توابل من خيال جامح، وصور تكاد تتكلم أكثر من اللغة، حتى وكأنها رموز اختلقتها الشاعرة ببراعة قد يجد المتلقي العادي، أو حتى ذلك الكائن آكل المعاني الجاهزة، صعوبة في فك شيفرتها، خاصة وأنها تسعى إلى الارتقاء بالمتلقي ليس إلى الشعر المتداول، وإنما إلى ما يمكن التعبير عنه بما وراء الشعر. لهذا كله، تغرينا القصيدة كي نتعامل معها بالمقاربة التلفظية، ما دمنا أمام منجز لغوي، على صيغة كلام محدد صادرعن متكلمة/متلفظة مـحددة، وبطبيعة الحال، موجه إلى متلق مـحدد، وهو قارئ نصوص الشاعرة، بلفظ محدد (خطاب شعري) في سياق مـحدد، بهدف تحقيق غرض تواصلي محدد. فالمتلفظة، الشاعرة توجه خطابا يحمل في دلالته فعلا لغويا يمكن تلخيصه بالعتاب. فتصبح ناقدة توجه المتلقي كيف قراءة نصوصها.عتاب موجه إلى المتلقي الذي لا يقرأ نصوصها ببطء. نحن إذن كما قلنا أمام فعل للكلام داخل خطاب "شعري"يحفز المتلقي على هذه القراءة المتأنية. وبطبيعة الحال تقدم المتلفظة/الشاعرة، براهينها لإقناعه وحثه على التمعن في نصوصها. وهكذا يمكن تفكيك بنية الملفوظ على النحو التالي :

تحديد الخطاب والنص

البرهان الأول: "أنتم لا تقرؤون.......من كل عام."

البرهان الثاني: "أنتم لا تنتبهون......حرف آخر."

البرهان الثالث: "الشعر تبن..... هل ترون الباقة؟؟"

البرهان الرابع: " اقرؤوا قصائدي ببطء شديد.....بالبراهين"

قراءة كهذه التي ربما قد يقول قائل بأنها قد تنسينا الوقوف عند شاعرية الخطاب، سوف تمكننا بالعكس من ملامسة ما يجعل من النص كما قلت سابقا نصا يمكن تصنيفه بماوراء الشعر. لأن ما يميز مقاربتنا هو انطلاقنا من كينونة اللغة في إطار سياق، نستخلصه مما لاحظته الشاعرة، لهذا يتطلب تواصلا يقحم المتلقي.

تحديد الخطاب والنص:

ليس هدفنا التعمق في كل ما قيل حول هذين المفهومين، بدءا بالحديث عن من لا يرى أي فرق بينهما، ثم التطرق إلى من يرى عكس ذلك. فهناك عدة مراجع من أراد التعمق. لكن حتى لا نبتعد عن مبتغانا، وقد نسقط فيما تسقط فيه بعض الدراسات النقدية حيث تستلذ ترديد النظريات متناسية ما قررت دراسته،  وهو دراسة قصيدة الشاعرة سونيا فرجاني، لا بد من القول بأن القصيدة جاءت كنص منسجم مع الخطاب. فالنص، أو القصيدة تتميز بكونها مؤطرة بعناصر الخطاب، وهو التأطير الذي زاد في بريقها. فنلمس الوظائف التي توصل إليها اللساني رومان جاكوبسون، خاصة الوظيفة الانتباهية التي تتجلى في ترديدها: "انتم لا تقرؤون، أنتم لا تنتبهون،هل ترون الباقة؟"، زيادة طبعا على الوظيفة الشعرية التي تتجلى في النص، والذي يمكن اعتباره أيضا ذا وظيفة إفهامية، حيث نلمس الإرادة والجهد اللذان تتحلى بهما الشاعرة لتوصيل فكرتها شعريا، مبرهنة هكذا أن لغتها، لغة شاعرية عن سليقة وليس فيها أي تكلف. القصيدة إذن عبارة عن جمل متماسكة، تتشكل من صور شعرية تضفي عليها جمالية قد لا نجدها في الخطاب.

أما الخطاب، كما سبق الذكر، فهو مرتبط بالضرورة بالتلفظ وبإقحام المتلقين وعلاقتهم بالسياق التواصلي. لكن بالنسبة إلينا أعتقد أن خطابنا يؤطر نصا بظروف إنتاجه، وهكذا نكون قد خلصنا إلى المفهوم الذي حدداه كل من كريماس وكورتيس[2] حيث يعتقدان أن الخطاب مرادف للنص، مادام أنه جزء منه، وفي الغالب يكون وجوده بهدف الإقناع، فيكون اهتمامه منصبا على البراهين التي يقدمها، بكل أنواعها، إن اقتضى الأمر ذلك. وهو ما تجسده القصيدة كما سنرى.

البرهان الأول: "أنتم لا تقرؤون.......من كل عام."

هنا يتجلى بوضوح عنصر الخطاب: "أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد". فالشاعرة تخاطب مباشرة من يقرؤون لها. لكن وهي تؤكد على "بطء شديد"، تجعلنا نتريث ولا نعمم على كل المتلقين، وإنما تخاطب صنفا معينا من متلقيها. وكأنها في حوار مع هذا الصنف. قد يكون هؤلاء المتلقين "أعابوا عليها غموض قصائدها. لهذا طلبت منهم "قراءة النصوص ببطء شديد". وما تركيزها على "البطء الشديد"، إلا اعتراف ضمني من جهتها على أن نصوصها ليست "فيترينا" تعرض المعاني على "الغادي والرايح"، بل هي نصوص تشتغل على اللغة التي تسعفها في التقاط ما تقدمه نروناتها من خيال عجيب. إنها تحرص جيدا على "كيف القول" وليست من المستعجلين على "القول" فقط. وفي نفس الوقت تحفز المتلقين على القراءة المتأنية والمجتهدة. أي تحاول إقحامهم في عوالمها كما سوف نرى. ثم تشرح لهم بأنهم سوف يجدون ما يأملون:

بين السطور يسكن المزارعون

يخبّئون فؤوسهم

ومعاول الخريف

وحبوب العام المقبل من كل عام .

الرسالة هنا، في صيغتها الشعرية، تحمل معطيات أكثر من الرسالة نفسها. فانطلاق الشاعرة من المزارعين، وتأكيدها على جزيئات تشكل حياتهم كعمال مهتمين بالزراعة: الاهتمام بالفؤوس والمعاول، وبطبيعة الحال بالمنتوج، دليل على التزامها بشعرها، بقضايا شريحة مجتمعية لها دور مهم في المجتمع. لهذا تأويها "بين سطور " نصوصها. وما على المتلقين إلا فك شيفرة النص الشعري الذي يوحي ولا يسمي الأشياء.

1-2- البرهان الثاني: " أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام."

أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام

تسللّت من حقولهم

لأسرّة الحديد

ينامون عليها في رأسي

ويخرجون مع الفجر

عندما يتطلّع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر.

تواصل الشاعرة، بدون كلل، إقحام المتلقين، بمعاتبتهم، كونهم قليلي الانتباه. لتفاجئنا بأنهم لا ينتبهون "لقطع الغمام التي تسللت من حقول المزارعين لأسرة الحديد حيث ينامون". وبطبيعة الحال نتفاجأ، لأننا كمتلقين كنا ننتظر تفسيرا منطقيا لقلة الانتباه، فإذا بها تزيد في شاعريتها التي قد تبدع بنا فنتيه. إلا أن هدفها ليس هو ذا. بل بالعكس تسعى إلى جرنا للغوص في دماغها لأن المزارعين "ينامون على الأسرة في رأسها ويخرجون مع الفجر". فهي إذن دعوة للمتلقين باستقبال لغتها التي لا تدخل في المنطق المتداول، وقد نقول عنه بأنه تآكل تحت مفعول صدإ اللغة المستهلكة. إنها دعوة لاكتشاف مرارة عيش المزارعين تحت منطق اللغة الشاعرية. لأنها اللغة التي تثير أكثر الانتباه، من اللغة المتداولة. هدفها إذن من هذه الصورة الرائعة التي تجعل من قطع الغمام تتسلل من حقولهم إلى أسرتهم،هو تكبير وتضخيم لهذا الإحساس والزيادة في تأثيره ليصبح عربون التزام بمعاناة هؤلاء المزارعين الذين يبيتون على أسرتهم الصدئة، نظرا للرطوبة التي تلحق بهم، ثم يغادرونها مع الفجر متعبين. ما يفيد بأن لا راحة لهم. ولنبقى دائما مع اللغة. فالغمام، قد يوحي أيضا بالغمة والحزن اللذان قد يخيمان على المزارعين نتيجة للتعب وترقب المنتوج السنوي الذي يبقى تحت رحمة الطقس. هذه الطريقة الفنية إذن، والتي تذكرنا بما يسمى في الفن التشكيلي بالواقعية المفرطة، توحي بأحاسيس الشاعرة النبيلة اتجاه المزارعين. القصيدة إذن تنهج هذا التوجه كتابة. وبطبيعة الحال تذكرنا، بصفتها شاعرة بأن كل ما يحدث للمزارع، فهو يحدث داخل رأس الشاعرة، ما يعني أنها مهتمة بهؤلاء المزارعين إلى درجة الإبداع الشعري، مع التلميح ما جدوى الكتابة، والتي تعبر عليها فنيا ب: "عندما يتطلع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر". هنا يتجلى وعي الشاعرة بمأساة الحرف الذي مع الأسف لا يمكنه تغيير الوضع. وكل ما بوسعه هو التعبير بصدق عن هذا الإحساس.

1-3- البرهان الثالث:" الشعر تبن.... هل ترون الباقة؟؟"

الشعر تبن يستلقي عليه القطيع حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا.

هو تلك المسافة الضئيلة بين عيونكم

وحروفي

فيها امرأة تغيّر مكان الفانوس

من طاولة الليل إلى حفرة في وجه عبوس.

وفيها بستانيّ يقلّم شجرة على فستان بنيّة

غنّت قرب الغدير ونامت

فصارت باقتها جاهزة

هل ترون الباقة؟؟

بعد أن برهنت على اهتمامها بشريحة مجتمعية في كتاباتها، كمثال، ربما ردا على بعض المتلقين الذين يرون الغموض في نصوصها، وقد يبدو لهم بأنها تتعامل مع اللغة من أجل اللغة فقط، وبما أنها أحست بعدم جدوى الشعر، تعود لصياغة مفهومها للشعر بطريقة فنية ومدهشة وكأنها تريد من هذا المتلقي أن يلمس جيدا، كما تلمسها، ماهية الشعرالخالص. لهذا نجدها في هذا المقطع الأخير وكأنها تبذل جهدا كبيرا في تعريف الشعر لتقربه من متلقيها، أو بالأحرى من المتلقين الذين "تخاطبهم". فبطريقة فنية كما قلنا، وببداغوجية شاعرة حريصة على إيصال فهمها للشعر، تلقن درسها الإفهامي، إذ يتجلى هذا الحرص الشديد في تنوع مرجعياتها الصورية. فتتناسل الصور على الشكل التالي:

صور من عالم الرعاة.

صور من علاقة المتلقي بنصوص الشاعرة. وهي علاقة عبرت عنها "بمسافة ضئيلة بين عيني المتلقين وحروفها". ومن هذه المسافة تتناسل أيضا صورة المرأة في علاقتها بالفانوس، ثم صورة البستاني في علاقته ببُنيّة، وأخيرا صورة البُنيّة في علاقتها بباقة الورود."

هكذا إذن تشتغل نوروناتها وتظل يقضة لالتقاط الصورفتسبح بخيالها في أول الأمر، في عالم الرعاة. وهو دليل آخر على احتكاكها بهذه الطبقة التي تعاني من أجل العيش. فيصبح عالمها رمز للشعر الذي تراه "تبن يستلقي عليه القطيع". لكنها لا تتوقف عند هذه الصورة. فاهتمامها بالجزيئات، وعيا منها بأنها هي التي تؤثث القصيدة وتسمح لها بالتفرد، تماما كما يتفرد عالم الفيزياء الكمومية باهتمامه بجزيئات الأجسام أو الذبذبات، مقارنة بعالم الفيزياء التقليدية الذي يهتم بالأجسام الضخمة المرئية، فإنها أضافت لحظة عودة الراعي بدون عصا بعد أن باع خرفانا:" حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا". فلنا أن نقبض على هذه الصورة  لنقبض أيضا على الحالة النفسية للراعي. فالراعي بدون عصا لا يساوي شيئا. فالعصا هي مقود الراعي، فإذا حرم من المقود فمعناه ليس له ما يقود. والعصا، ثقافيا عند بعض القبائل الرحل بالمغرب الكبير ترمز إلى عدد كبير من رؤوس القطعان، أي مائة راس. وبدون خرفان يكون أيضا متذمرا. هو ذا إذن الشعر بالنسبة للشاعرة المتقدة أحساسا عميقا. هكذا تنمو القصيدة من التبن وتذمر الراعي. ثم تعود، لتنبه المتلقي بأن الشعر، زيادة على ما قيل، يجده في تلك المسافة الضئيلة بين عينيه وحروفها، لتخبره بأن هناك "امرأة"، وفي غالب الظن، هي الشاعرة، تحمل فانوسا هدفها إنارة الوجه العبوس وليس غرفة النوم مادامت تغير مكان الفانوس من طاولة الليل إلى حفرة في هذا الوجه العبوس. فالشعر إذن بالنسبة لها تنويري وضروري لزراعة النور في  كل ركن مظلم. ولن يتأتى ذلك إلا بفضل لغة تلتقط الخيال الماورائي. ولم تتوقف بوهجها المخيالي حيث استمرت وكأنها أحست بصعوبة استيعاب ما قدمته من تعاريف، فعادت إلى عالم المزارع، فأصبح الشعر، تلك المسافة الضئيلة، مكانا للبستاني الذي يقلم شجرة على فستان بُنيّة. هكذا بضربة ساحرة أصبحنا أمام "فستان" بنية، بعد ما كنا أمام "بستان"، فيتحول البستاني إلى خياط. فلا نستغرب هذا التحول لأن الإثنين يستعملان المقص الذي يهدف إلى التزيين. فمقص الشِعر، كما مقص الشَعر أو مقص الشجر، وظيفته إضفاء الجمال بالتقليم والتشذيب. وهو ما تحرص عليه في تعاملها مع لغة شاعرية تسعفها، لأنها صادقة في التعامل معها، وفي اختيارها لشخصياتها التي تصبح رموزا. هكذا من نسجل من بين أهدافها، إحياء البراءة الإنسانية المتجلية في البُنيّة والتي ترمز، زيادة على البراءة، إلى الحب والسلام، مادامت نائمة بالقرب من الغديربعد أن غنت، فكانت باقتها جاهزة. لتختم الشاعرة بعد هذا التعمق في التعريف الشعري، بإثارة انتباه المتلقي بصيغة الجمع: "هل ترون الباقة؟؟".

1-4- البرهان الرابع: إقرؤوا قصائدي.......بالبراهين":

إقرؤوا قصائدي ببطء شديد

ستعثرون على كيس القمح ومقصّ البستانيّ

وعلى وسادة محشوّة بالبراهين.

يعتبر هذا المقطع الأخير كتلخيص لما قدمته من براهين، هدفها أن تحفز المتلقي كي يتعامل مع نصوصها بكل تأن، لهذا استعادت عالم المزارع في استعمالها "كيس القمح" لتومئ للمتلقي بأن ما عليه إلا أن يتبع ما اقترحته عليه ليحصل على محصول فني، شبيه بما يحصل عليه كل مزارع. ثم استعادت صورة البستاني بمقصه، لتؤكد على أن عملية التقليم، هدفها خلق جمالية تضمن الراحة النفسية للمتلقي. وحتى إذا كان من محبي البراهين فإن الشاعرة تضمن له ذلك حينما يسند رأسه إلى الوسادة، فإنه سوف يشعر بذلك مادامت وسادته محشوة بها. فهي بهذه الصورة تقترح على المتلقي الاسترخاء والدخول فيما يسميه السرياليون بالكرى، أي تلك اللحظة بين اليقظة والغفوة، حيث يجد اللاوعي حريته ويتسلل للمنطق المتداول فيكون بإمكانه استيعاب الصور الشعرية.

كخاتمة:

بعد أن حللنا حسب طاقتنا الاستيعابية هذا الفعل الكلامي والذي يلخص فيما سميناه بالعتاب الموجه من قبل الشاعرة إلى المتلقين الذين لا يقرؤون بتأن نصوصها، وبعد أن أسندنا رأسنا إلى "وسادة محشوة بالبراهين"، ونحن نتابع من داخل رأسها كل الصور التي تتخيلها، بدءا من المزارعين وانتهاء بالفتاة الصغيرة وباقتها، مرورا بالراعي وبالمرأة والفانوس والبستاني ومقصه، لا يسعنا إلا أن نقول بأن الشاعرة أغدقت أولا علينا بأجمل الصور في حلة لغوية بسيطة وعميقة، وجعلتنا نستمتع بكل أريحية بوسادة براهينها، ثم نعترف بأنها استطاعت استمالتنا بهذا الإبداع الشيق. لأن الاستمالة تحرك فينا أحاسيسنا لنتجاوب مع أحاسيسها، ما دمنا في عالم الأحاسيس، خاصة مع نصوصها التي تبدو وكأنها تسبح في عالم ما وراء الشعر.  فأوصلتنا إلى المعنى المراد إيصاله بكل هذه البراعة، متجاوبة مع متلقيها، لتبرز بالفعل أن هذا التجاوب المطلوب هو الذي يخلق المعنى. فالكلمة وحدها لا تمتلك المعنى، ولا يمتلكها الشاعر وحده، بل في ارتباطها بالسياق وبتفاعل المتلقي أيضا. فالشاعرة إذن واعية بهذه العملية التداولية بين جميع الأطراف، لهذا استفزت المتلقي بمخاطبته مباشرة لكن من غير أن تخرج عن السياق الشاعري. وفي اعتقادنا، فخرجتها هذه انتصار للمتلقي الذي قد يكون استفسر، وانتصار لها لأنها استفزت المتلقي، وانتصار للغة الشاعرية التي تُوِّجت في الأخير بهذا النص الماورائي. وفي الأخير وجب التذكير بأن الشاعرة، حرصا على تفاعلها مع المتلقي، ليست من أولئك الذين ينغلقون على أنفسهم فيما يسمى  ببرج التعالي. وخير دليل هذا النص للشاعرة، الذي يؤكد ما قلناه حول تفاعلها مع متلقيها، والذي أود أن اختم به قراءتي هذه:

[3]القراء الخالدون

من سيكتب عنهم؟

إنهم أكبر من قصائدنا بخمس سنوات.

تعلموا المشي قبلنا

وتعلموا حروف الكناية خارج الفصحى

قبلنا

هم العارفون بالحقيقة في شك الغزالة كونها أنثى

وهم خصلة الشعر في الشِّعر الكثيف على رصيف أحلامنا الأولى.

القراء الخالدون

يولدون قبل القصيدة

ويموتون بعد ذوبان الجليد الأخير.

***

محمد العرجوني

........................

[1] عن دار الأمينة للنشر والتوزيع القيروان 2023

[2]   Greimas.A & Courtes.J 1979 : Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie de langage. [1.Hachette. Paris.] كريماس وكورتيس

[3] 18-9-2024 على صفحة الفي سبوك

 

في المثقف اليوم