قراءات نقدية

جمعة عبد الله: بغداد الحزن والوفاء في رواية "يمامة بغداد" للاديب شلال عنوز

المتن الروائي يتناول قضايا صعبة وعويصة في جوانب الحياة والواقع، في أصعب مرحلة تاريخية من التسعينات الى الوقت الحاضر (1990 - 2024) بصياغة غير تقليدية، في جوانب متعددة من سرد الأحداث برؤية فكرية رصينة وموضوعية، فرضت نفسها على الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والقانوني، بما يخص عدالة القانون، تملك ترتيب وتنسيق في الحبكة الفنية وتوالي الأحداث بشكل متألق، بدون شك يستخدم الاستاذ (شلال عنوز) خبراته المتمكنة والمتعددة، ان يمسك خيوط السرد في النص الروائي، فهو شاعر وسارد والمحامي، يطعم النص بهذه الأشياء الثلاث، في مفاصل المتن الروائي، فهو يحاول ان يبرز برؤيته الفكرية، بأن العدالة والحكمة، لا يمكن طمرها مهما بلغت قوة التسلط والجبروت، لابد ان تنتفض من رمادها، ومهما طال الزمن ان تنتصر في الأخير، وكذلك الحكمة تنتصر على العصبية والتهور والتسرع بالغضب الشديد. النص الروائي يحمل براعة صراع الأضداد في أشد أزماتها ورمزيتها الدالة: الحياة والموت. الحرب والسلم. الحب والخيانة. الوفاء والغدر. الحقيقة والزيف. الظلم والعدالة. الواقع والخداع. هذه المفردات اشتدت خلال هذه المرحلة التاريخية المحددة على بغداد والعراق عامة، والتي جرت عليه بالويلات والكوارث والحروب المستنسخة، حرب ينتج حرباً، وحرب يتناسل حروباً، من اجل تخريب المجتمع وتشويه صورته بأسوأ الحالات، والموت اصبح يسير قدماً بخطوات متسارعة، فعرفنا أشكال متعددة من الموت، الموت في جبهات القتال، أو في البيت والطرقات أو في اي مكان، الموت من بطش النظام الشمولي، سواء في زنازين الموت، أو الموت في المقابر الجماعية، أو الموت من الغدر الخيانة، ومقبرة (وادي السلام) النجف الاشرف دليل على ذلك، أي ان الموت في النص الروائي ليس قدراً، وانما من فعل انسان فاعل. نحن إزاء سرد شفاف ومنساب بتدفق في شفافية مرهفة، ومطعم في ازدواجية الشعر والسرد، في لغة مدهشة كأنها عجينة تشكل كلماتها وعباراته وجملها في الرمز والمضمون الدال، تجبر القارئ ان يتعاطف بشدة ملتهبة وبحزن يعصر القلب، اي انها تدخل في شعور القارئ ويتوجع من الأحداث الدراماتيكية المتتالية، والنص الروائي يدخل في ازمات عويصة كأنها ساحة واسعة الاتساع، يجرب فيها كل الاشياء، ويخرج منها بصيدة ثمينة، رغم ان الحدث السردي يحمل دلالات رمزية متعددة الجوانب، في المعنى والمغزى العميق والبليغ، هي اولاً: رمزية بغداد تجمع بين الحزن والوفاء، بغداد في رمزية اليمامة، شاخصة وحاضرة في أسوأ الازمان، بغداد في رمزية المرأة، لأنها اكثر وفاء من الرجل في تحملها وصبرها وتشخيص الاشياء الحياتية، ولا تخون عشاقها، بغداد التاريخ والصور والتراث والثقافة والشعر (بغداد والشعراء والصورٌ / ذهب الزمان وضوعه القمرٌ / يا الف ليلة مكملة الأعراس / يغسل وجهك القمرٌ) هذه هي رمزية يمامة بغداد. صامدة ضد الحروب، صامدة ضد الحصار الاقتصادي، الذي خنق حياتها، وورثت منه الحرمان والفاقة والجوع، وسلب حياتها ودفعها الى الفوضى، صامدة حتى لو ان المتاجرين بها ضمائرهم الميتة، ان يعرضوها للبيع في اسواق النخاسة. صامدة في وجه الغزاة المدججين بأسلحتهم الفتاكة وقوتهم العالمية. صامدة حين سلموا بغداد الى العصابات لإدارة شؤونها، وهذه العصابات دمرت بغداد أو العراق، سلبوا ممتلكات الدولة بالنهب والسرقة، نهبت خيرات العراق دون وجع ضمير، عبثوا ببغداد بالفوضى والانفلات الامني والتفجيرات اليومية، حاولوا شطب حضاراتها وتاريخها واثارها (- ما ترينه الآن أمر بسيط، ليتك تشاهدين الدمار والخراب الذي أصاب الدوائر والمؤسسات الرسمية، وما رفق ذلك من أعمال السرقة والنهب والسلب، وظهور مصلح جديد الى العلن هو الحواسم، فضلاً عن تفاقم أعمال العنف والعبث بأمن الناس وسلب ممتلكاتهم من قبل هذه العصابات، لقد سرقوا الوطن وتاريخه وآثاره). هو مخطط مدروس في تدمير البلد وتشويه سمعة ناسه، وخروجه عن جادة الصواب والحكمة، في انتزاع روحه وكرامته وعزته ودفعه إلى المجهول، شطب الشهامة العراقية المعروفة والمشهورة في أصالتها، في أطيب خصالها الحميدة، لكن مع الاسف نحن شعب لا يتعلم من الدروس والعبر، يلدغ من جحره ألف مرة وليس مرتين ولا يتعلم (أتضح لي، بما لا يقبل الشك أننا شعب لا يعرف ما يريد ولا يريد ان يعرف........ ( - نعم صدقت، العيب فينا كنا ومازلنا نكدس الأخطاء ونتخبط في المتاهات فلا نتعظ، جٌبلنا على تقبيل يد جزارنا و تقديس الماضي وإن كان فاشلاً). هذه المفاصل العامة والاساسية في النص الروائي.

×× الشخوص المحورية في النص الروائي:

1 - ما ترويه اليمامة:

تروي (حنان) بعد خروجها من موتها، أي أنها خرجت من القبر، خائرة القوى ومنهكة بالتعب، تروي سيرة حياتها وهي سيرة بغداد والعراق عامة، في المرحلة المحصورة من حرب الخليج الاولى عام 1990 الى الحرب الخليج الثانية عام 2003 فيما بعد، بأنها واظبت على زيارة قبر زوجها (ثائر) في مقبرة وادي السلام في النجف الاشرف، كل يوم جمعة، على مدى اثني عشر عاما، منذ ذلك اليوم المشؤوم. حين جاء في تابوت ملفوفاً بالعلم العراقي، تلك الصدمة لم تتحملها فسقطت مغشياً عليا، انها ارتبطت به بحب وعشق مقدس،، وعاشت معه اجمل ايام العمر، بالسعادة والانسجام الروحي والوفاء، احلى من عطر الرياحين، وكل زيارة تحمل الحزن الشديد في تذكر ايام سعادتها المغدورة، لانها فقدت سعادتها وراحتها النفسية بهذا المصاب الجلل، وحينما أنهت زيارتها للقبر، مر بقربها رجل بزي العربي (عراف) للمرة الاولى تراه في حياتها، ليقول لها بنبوءة الحدس ويختفي (سايتك زائر تقر به عينكِ، يكون له أثر البالغ في حياتك، لن يفارقك مدى الحياة، وأخر سيكون له دور في حياتكِ المستقبلية، يساعد في كشف حقيقة ما) أصابها الذهول والدهشة لم تفق منها إلا على صوت طفل عمره عامان، يجهش في البكاء، يلف كيانه الخوف والرعب، هدأت من خوفه ومسحت دموعه في اشفاق حنون، لان في تلك اللحظة قصفت طائرة من دول التحالف في حرب الخليج الثانية عام 2003، قصفت رتل عسكري على الطريق العام، وطال عسكريين ومدنيين، وساد المكان الفوضى العارمة، انتظرت مجيء اهل الطفل حتى تعود الى بغداد، وطال الانتظار ولم يحضر احداً، حاولت ان تبحث عن شرطي تسلمه الطفل لكن لم تجده، كانت سلسلة ذهبية معلقة برقبة الطفل بأسم (طاهر صبيح كريم ميران) وقررت الرجوع الى بغداد مع الطفل، وهناك تبحث عن اهله عبر الجهات الرسمية، وهي تدرك حالة البلد في فوضى، تمر بأسوأ الظروف الصعبة والقاسية، انهك الناس الحرمان والجوع وفاقة من الحصار الاقتصادي الدولي (- هذا الحصار الجائر هو الهم الذي يشغل تفكير الناس، ويقطع كل أمل في توفير حاجاتهم الاساسية، شيء مؤلم ما يعانيه الناس من الفقر والجوع ونقص في الحاجات الضرورية والدواء، نحن كما يقول المثل: نحلم بالحصاد والسنابل فارغة.....)،

2 - الطفل:

الطفل الذي وجدته (حنان) في مقبرة وادي السلام، عادت به الى بغداد، لم تجد أهله، فكانت هي بمثابة الأم الحنون، كأنه قطعة من قلبها في الحب والحنان، ترعرع في حضن دافئ بالحب والمودة، في أفضل تربية، فتعلق الطفل (طاهر) بقوة كأنها تمثل كيانه الروحي وامه الحقيقية، بل أصبح جزء أساسي من حياتها، ليعوض حزنها الشديد برحيل زوجها (ثائر) في تبادل الحب والحنان المشترك (- صدقني باسم أحس بأن هذا الطفل فلذة من قلبي، ان لم اكن أمه التي ولدته، فأني الأم التي منحته الأمان ودفء العاطفة والحنان) كأن نبوءة العراف، تحققت برجل يملي حياتها بالحب المقدس، كأنه هبة وهدية من رب العالمين، حتى وصل الى كلية الطب، وعثر على أهله، لكنه رفض بشدة ان يفارق امه (حنان) لانه يعتبرها الام الحنون، هي محطة الأمان وواحة الراحة، أصبحت جزء أساسي من حياته وكيانه، وكانت محل فخر واعتزاز، وحين داهما الموت، شعر بصدمة تهز كيانه بالحزن والوجع والحسرة والدموع (آه يا أمي.... / كيف أصف لك لوعتي وتوقي اليك / منذ رحيلك، وأنا تائه في مسارات وجعي / تأكلني الحسرة، ويجد في مساءاتي لهاث الالم / اصارع قهر الفراق / فأذعن تارة وتارة أثور / غارق في بحار وحدتي برغم وجود المواسين / فمثلك لا ينسى بالمواساة، ولا يسد مكانه جليس / أنت معي دوماً) ودفنت قرب قبر زوجها حسب رغبتها، لكي يلتقيان في الجنة سوية، واثناء عملية الدفن حطت يمامة على شجرة السدر، وشاركت المشيعين بالحزن والدموع.

3 - ثائر:

من خلال دراسته في الكلية تعرف على (حنان) وهو شاب محبوب محل تقدير واحترام من المقربين له، وارتبط بحب وعشق عاصف، اجمل من زقزقة العصافير، وطرح عليها فكرة الزواج، كانت ترى في عينيه صدق الحب ومشاعره، وكانت تشعر في أعماق احساسها كأنها ولدت من جديد، وابتهجت في شغاف هذا الحب، الذي يجلب للحياة الابتهاج والسعادة، هذا ما تقوله وعواطفها ويقر به عقلها، لكنها تساءلت لماذا هذه السرعة، فرد عليها (لابد من ذلك يا حنان، فقد احببتك بكل كياني، والأمر لا يحمل التأجيل، انها فرصة ذهبية منحنا إياها القدر، ينبغي عدم تفويتها بالتأخر غير المسوغ والنقاش الممل) فوافقت على الزواج حتى لا تحرم من سعادة العشق وبهجة الحياة، الذي فتح بابه على مصراعيه، هذ ما تقول عواطفها ويقر به عقلها، وكان الزواج وفرصة السانحة لكي يعيشان معاً، وفي حرب الخليج الاولى عام 1990، ذهب الى جبهات القتال كضابط طبيب بيطري احتياط، وفي خندق الحرب تعرض الى عملية غدر جبانة برصاصة من الخلف اخترقت رأسه وقتل في الحال. مقتله رمزية بليغة، بأن الشريف والصادق، ليس له سهم من الحياة والنجاة، في مجتمع غير عادل في معاييره.

4 - سامر:

الوطن اصبح شماعة ننشر عليه كل جرائم بالغدر والخيانة، بحجة الدفاع عن الوطن، كل المآسي والخراب والدمار، هي من اجل الوطن، الزيف والخداع والدجل، من أجل سرقة جيب الوطن المالي بحجة الجهاد المزيف والمخادع، حتى الشيطان لم يتجاسر على فعله، هي الدفاع عن الوطن، وما شخصية (سامر) هي معنى رمزي بليغ بالخداع والزيف، انه صورة طبق الأصل من هذه القاذورات العفنة، لكن خداعه وزيفه يجني منه الجاه والمنصب في العراق بعد عام 2003. فكان صديق (ثائر) في العلن، لكن في السر يشعر بالغيرة والحسد والحقد والانتقام، لأنه خسر (حنان) التي كان يطاردها في الكلية وخارج الكلية، يخدعها بحبه المزيف، لكي يخطفها بالاحتيال من حبيها (ثائر) ولكنه فشل فشلاً ذيعاً، لذلك تحين الفرص لكي ينتقم من (ثائر) وجاءت الفرصة الثمينة، في الحرب، وجد نفسه في خندق واحد معه، أثناء حرب الخليج الأولى عام 1990، ليطلق عليه رصاصة من الخلف ويموت حالاً، وادعى بأن قذيفة سقطت على الخندق، لكن بعد التحريات والتحقيقات، ثبت جرمه بالقتل واحيل الى المحكمة العسكرية لينال عقابه العادل، لكن تسارعت الأحداث، في انكسار الجيش العراقي بالهزيمة الساحقة، وقيام الانتفاضة ضد النظام، هرب من السجن الى السعودية ثم الى مخيم رفحاء، وبعدها الى امريكا، وبعد سقوط النظام عام 2003، ادعى بأنه من المجاهدين في الانتفاضة، وفي مخيم رفحاء، فكرم تكريماً رائعا في المنصب والتقاعد المحترم، مثل كل اللاجئين في مخيم رفحاء، في تكريمهم المبالغ به، في اختلاط الأخضر واليابس، في انتصار الدجل والتزييف دون تدقيق في سجلات سيرة حياة كل رفحاوي، وواظب في مطاردة (حنان) حتى وقعت في شباكه المنصوب بالزواج منها عام 2007. ولكن ناصب العداء والبغض للطفل (طاهر) فكان يستهزئ به بأن (حنان) ليس امه (- والدتك ! مسكين لا يعرف الحقيقة.

هنا انصدم الطفل وقال:

- لا أسمح لك ان تقول ذلك، أنها امي ولا حقيقة غير ذلك، ليس في الكون أحب الى قلبها مني) وبعد ذلك تحين فرصة نوم الطفل وحده في الغرفة، فهم في ارتكاب جريمة قتل، مثلما فعل مع (ثائر) ولكن تداركت (حنان) في اللحظة الاخيرة وفزعت عليه مستنفرة (- ماذا تفعل في غرفة الطفل ؟ اجبني) ولكي أخذ الحيطة والحذر، قررت ان ينام الطفل في غرفتها، رغم رفضه الشديد، وفي الاخير وبعد التحري والتحقيقات، وعثر على قرار المجلس العسكري، الذي يثبت عليه جريمة القتل بشكل صريح، واحالته الى المحكمة العسكرية، وأجبر تحت التهديد على الطلاق من (حنان) وأحيل الى الجهات المختصة ليحاكم بجريمة الغدر والخيانة، لينال عقابه العادل.... يقول الامام علي (ع) بصدد الغدر والخيانة (إياك والغدر فإنه أقبح الخيانة، وان الغدور لمٌهان عند الله بغدره، فها هو مهان في الدنيا قبل ان يلقى ربه).

***

جمعة عبد الله

 

في المثقف اليوم