أقلام فكرية
غالب المسعودي: الأنطولوجيا السياسية للهشاشة
تفكيك أبعاد الهيكلية الرأسمالية والوجود المتخلخل
في مفهوم الأزمة الوجودية المركبة
لم يعد ممكناً في حقل الفلسفة السياسية المعاصرة أو الاقتصاد السياسي، مقاربة أزمات "الدول المتخلخلة" وهو التعبير الأكاديمي لما كان يُعرف بدول العالم الثالث أو الأطراف، بمعزل عن التحولات البنيوية الجوهرية في الرأسمالية العالمية. هنا لا نتحدث هنا عن مجرد "فقر" مادي أو "فساد" إداري فحسب، بل بصدد أزمة وجودية تضرب عمق الكينونة الإنسانية في هذه المجتمعات.
إن التحول من النيوليبرالية المتوحشة إلى ما يُصطلح عليه بـ "الإقطاع الرقمي"، لم يعد يكتفي بانتزاع فائض القيمة الاقتصادي (وفق التحليل الماركسي الكلاسيكي)، بل تجاوز ذلك إلى ممارسة ما يمكن تسميته "التلاعب الوجودي" أي إعادة هندسة وعي الإنسان، وزمانه، وعلاقته بذاته وبالآخر، بل وبالمقدس، بما يخدم استدامة الهيمنة، انطلاقا من فرضية مؤداها أن "الرخاوة" في بنية الدولة ليست خللاً طارئاً، بل هي الشرط الضروري لتمكين الرأسمالية المعولمة من ممارسة هذا التلاعب. في هذه البيئة "الرخوة"، تتحلل المؤسسات الصلبة (الدولة، العائلة، النقابة) لتفسح المجال أمام "سيولة" مدمرة (بتعبير زيجمونت باومان) تجعل الفرد أعزلاً أمام طغيان السوق والصور الرقمية. وهو كشف في تحولات "المواطن" إلى "مستهلك قلق" أو "منتظِر أبدي"، وكيف تتحول الهوية إلى "سلعة"، مستعينين بترسانة مفاهيمية تمتد من فينومينولوجيا ليفيناس وسارتر، مروراً بنقد الاقتصاد السياسي لسمير أمين، وصولاً إلى البدائل الأخلاقية.
ميتافيزيقا التلاعب الوجودي: من ترويض الأجساد إلى هندسة الأرواح
يُعد مفهوم "التلاعب الوجودي" حجر الزاوية في فهم آليات الهيمنة الجديدة. وخلافاً للتلاعب "الشامل" الذي تفترضه الحتميات المادية، فإن التلاعب الوجودي يستهدف نطاقاً محدداً من الفاعلية، حيث يتم التدخل في الشروط القبلية للاختيارات الحرة والمسؤولية الأخلاقية. يُنظر إلى الفاعلين الخاضعين لهذا النوع من التلاعب فلسفيًا على أنهم "منقوصو الحرية"، لا لأنهم مُجبرون قسراً، بل لأن خياراتهم تنبع من سياق صُمم مسبقاً لتوجيه "القصدية" نحو مسارات محددة.
يمكن تتبع الجذور الفلسفية لهذا المفهوم في نقد إيمانويل ليفيناس للأنظمة الشمولية. يشير ليفيناس إلى أن الهيمنة لا تعتمد فقط على القوة الغاشمة، بل على "إغراء أنطولوجي" يستغل حالة "التشرد المتعالي" للإنسان الحديث في المجتمعات المتخلخلة، حيث تتآكل الروابط التقليدية، ينشأ فراغ روحي تتدخل الرأسمالية لملئه بوعود زائفة عن "الأصالة" عبر الاستهلاك. إنها تستثمر في "العجز المجتمعي" لتقديم السوق كبديل لليقين المفقود، دافعةً الأفراد نحو "عدمية أخلاقية" تبرر الوسائل بالغايات، على حد تعبير ألبير كامو.
تسليع الذات: الفينومنولوجيا في خدمة السوق
تنتقل آليات الهيمنة من المستوى الكلي إلى الفردي عبر "تسليع الذات". في ظل النيوليبرالية، لم تعد السلعة موضوعاً منفصلاً عن الذات، بل أصبحت الذات نفسها مشروعاً استثمارياً. وتُظهر الدراسات النقدية كيف أن منطق الطبية الحيوية يحوّل الرعاية النفسية إلى سلع تهدف إلى "صيانة" الأفراد ليعودوا مستهلكين منتجين، متجاهلة الجذور الاجتماعية لمعاناتهم.
تحلّل الفينومنولوجيا هذه الظاهرة عبر مفهومي "القصدية" عند هوسرل و"نظرة الآخر" عند سارتر. في فضاءات الاستهلاك المعاصرة، يتعرض الفرد لما يمكن تسميته "الشيئية المتبادلة". يتم الحكم على الكينونة بناءً على المظهر والقدرة الشرائية، مما يضع الفرد تحت ضغط هائل لـ "تعديل" ذاته لتلائم توقعات السوق. هذا الضغط يخلق تلاعباً وجودياً يشعر فيه الفرد، وخصوصاً الأجيال الرقمية، بأنه مراقب ومحكوم عليه باستمرار، مما يدفعه للانخراط في استهلاك تفاخري قسري لحماية كينونته من التلاشي تحت "نظرة الآخر".
الدولة الرخوة: من التخطيط إلى السمسرة
على مستوى الاقتصاد السياسي، استعار الاقتصادي المصري جلال أمين مصطلح "الدولة الرخوة"" من غونار ميردال، لتوصيف التحولات البنيوية في الدول العربية منذ حقبة الانفتاح. الدولة الرخوة هنا ليست بالضرورة "فاشلة" أمنياً، بل قد تكون قمعية، لكنها "رخوة" في التزامها بالقانون والصالح العام.
تتجلى هذه الرخاوة في:
الفجوة بين التشريع والتنفيذ: حيث يطبق القانون بانتقائية، مما يخلق بيئة من "اللايقين" تدفع المواطن للاحتماء بشبكات الزبونية.
الفساد الممنهج: حيث يتحول الفساد من انحراف سلوكي إلى "نظام" تشغيلي للدولة، مما يؤدي إلى تآكل النسيج الأخلاقي.
تآكل السيادة الاقتصادية: تخلي الدولة عن التخطيط التنموي المستقل لصالح الرأسمالية الكومبرادورية (الوسيطة).
قانون القيمة المعولم وتعميق التخلف
يؤطر سمير أمين هذه الحالة ضمن نظريته حول "التبادل غير المتكافئ". يرى أمين أن الرأسمالية نظام استقطابي بطبيعته، يفرض عبر "قانون القيمة المعولم" استنزافاً للأطراف (الجنوب) لصالح المركز (الشمال). لا يتوقف هذا الاستنزاف عند الموارد، بل يمتد ليشمل "الاستلاب الثقافي"، حيث تُدمّر البنى الإنتاجية المحلية لصالح نمط استهلاكي مشوّه، مما يخلق نخباً معولمة تعيش في فقاعات منعزلة عن واقع الغالبية المسحوقة.
السيولة والقبائلية الجديدة
في ظل هذه "الحداثة السائلة"، يعيش مواطن الدول المتخلخلة حالة من "انعدام الأمن الوجودي". وكرد فعل دفاعي على هذه السيولة، يلجأ الأفراد إلى ما أسماه باومان ومافيزولي "القبائلية الجديدة" في سياقات متعددة، لا يُعد تصاعد الهويات الطائفية مجرد عودة للدين، بل استراتيجية بقاء في ظل "رخاوة" الدولة. تعمل الطائفة هنا كشبكة حماية بديلة توفر ما عجزت عنه الدولة، بينما يستخدم "أمراء الطوائف" هذا الانقسام كدرع ضد نشوء وعي وطني أو طبقي جامع.
الإقطاع الرقمي وتلعيب العنف
تتوج هذه البنية بظهور "الإقطاع الرقمي"، حيث تمتلك المنصات التكنولوجية "الأرض" (الخوارزميات)، بينما يعمل المستخدمون كـ “أقنان" جدد يقدمون بياناتهم مجاناً. وفي الدول المتخلخلة، يصبح "الهروب الرقمي" ملاذاً للشباب المحبط. والأخطر هو استغلال الجماعات المتطرفة لهذا الفراغ عبر تلعيب العنف"" حيث تُستخدم آليات الألعاب لتجنيد الشباب، محولة الصراعات الدموية إلى "مغامرات" تمنح إحساساً زائفاً بالبطولة والمعنى.
خاتمة
إن تحليل انعكاسات البنية الرأسمالية في الدول المتخلخلة يكشف عن نظام "كلياني" ناعم، يجمع بين صلابة الاستغلال الاقتصادي وسيولة التلاعب الوجودي. في هذا السياق، يصبح الإنسان محاصراً بين مطرقة الحاجة وسندان الاغتراب. إن المخرج من هذا المأزق يتطلب، كما تشير المقاربات الأخلاقية (مثل الائتمانية عند طه عبد الرحمن أو الفاعلية عند فانون)، مقاومة لا تكتفي بالبعد الاقتصادي، بل تؤسس لـ “ثورة في المفاهيم" تستعيد حق الإنسان في تعريف وجوده بعيداً عن إملاءات السوق.
***
غالب المسعودي
........................
قائمة المراجع
Levinas, Emmanuel. Humanism of the Other. Translated by Nidra Poller. Urbana: University of Illinois Press, 2003. (See also: Discussion on Levinas and Camus in Continuum Studies in Continental Philosophy).
Amin, Galal. Whatever Happened to the Egyptians? Changes in Egyptian Society from 1950 to the Present. Cairo: American University in Cairo Press, 2000. (Reference to "The Soft State").
Amin, Samir. The Law of Worldwide Value. Translated by Brian Pearce and Shane Mage. (“The Law of Worldwide Value – Marx & Philosophy Society”) New York: Monthly Review Press, 2010.
Bauman, Zygmunt. Liquid Modernity. Cambridge: Polity Press, 2000.
Creary, M., et al. "Being-with-staff-in-a-technology-enabled-fashion-store." NTU Institutional Repository, Nottingham Trent University. Accessed December 28, 2025. http://irep.ntu.ac.uk/id/eprint/example.
Hanna, Nathan. "Defusing Existential and Universal Threats to Compatibilism: A Strawson and Dilemma for Manipulation Arguments." ResearchGate. Accessed December 28, 2025.
https://www.researchgate.net/publication/example.
Sartre, Jean-Paul. Being and Nothingness: An Essay on Phenomenological Ontology. Translated by Hazel E. Barnes. New York: Philosophical Library, 1956.
American Philosophical Association. "2022 Eastern Division Abstracts." APA Online. Accessed December 28, 2025. https://www.apaonline.org.
بوزيان، عبد القادر. "من الانغلاق إلى الانعتاق في الفلسفة الغربية: الذات
(The Self)." ASJP. Accessed December 28, 2025. https://www.asjp.cerist.dz.






