أقلام فكرية
طه جزاع فيلسوف النار.. النفس هوائية بين النار والماء (2)
مدارات فلسفية
إنسجاماً مع نظريته في التغير والحركة فإن النفس عند هيراقليطس أقل الأشياء جسدية، وهي في حالة سيلان مستمر، وحجته في ذلك أن العالَم المتحرك لا يتمكن من ادراكه إلَّا ما كان متحركاً، ويكمن مبدأ النفس في النمو، وهي بذلك تخضع لنظريته في الوجود والعدم، إذ أن موت النفوس هو أن تصير ماءً، وموت الماء أن يصير أرضاً، وعلى العكس من ذلك، يأتي الماء من الأرض، وتأتي النفوس من الماء، وعلى هذا الأساس، ومن أجل أن يربط النفس بمشكلة الوجود ككل، فإنها لابد أن ترتبط بالعالَم المتحرك المتغير أبداً. ومن أجل ذلك ذهب هيراقليطس إلى القول بأن أصل النفوس رطبٌ، وإنها تتبخر من الرطوبة، وذلك يعني أن النفس بالأساس عملية تبخر، ولما كانت عملية الجدل الصاعد عنده أشبه بعملية الخلق والإبداع والتكوين، فإن ذلك يتحقق حين يكون الصعود من الماء إلى الهواء، ثم التحول من الهواء إلى النار. ومن دون شك فإن البخار يوحي بالنار كماء جاء في " كتاب النفس " لأرسطو بترجمة أحمد فؤاد الأهواني، وذلك يشير إلى الطريق الصاعد، وعلى العكس من ذلك فإن البخار على قدر ما يكون رطباً فإنه يكشف عن ميله المضاد بأن يتحرك على طول الطريق الهابط، محولاً نفسه إلى ماء، وإذا استمر الميل، يحوّل نفسه إلى وحلٍ وإلى أرضٍ، وفي هذه الحالة يصبح مكان النفس الطبيعي في المسافة بين النار والماء، كما تحمل في داخلها على إمكانيات التحول الذاتي في كلا الإتجاهين، وإن هذه الحالة التي هي بينَ بين، تسمح لها أن تغير نفسها، أو تخضع للتغيير ضمن حركة الطبيعة الصاعدة والنازلة. والنفس وفق ذلك ذات قوة متحركة متحولة ذاتياً، وهي تجنح دائماً إلى أن تصير شيئاً آخر أكثر مما كانت ومما تكون، فإذا كانت حكيمة فإنها تحاول أن تسير في طريق الصعود، لتصير أكثر جفافاً ووضوحاً وناريةً، أما إذا استسلمت للتحلل، فإنها قد تنحدر في طريق الهبوط لتكون أكثر رطوبة، أي أنها تستطيع أن تحقق نفسها في أي من الإتجاهين الصاعد والنازل، فضلاً عن امتلاكها خاصية معينة هي خاصية الوجود وخاصية معرفة وجودها، وهي بذلك تحرك نفسها من الداخل، كما تعيد النار نفسها من شرارة صغيرة، والإنسان نفسه يستطيع أن يعرف ماهية النفس بطريقة واحدة، وهي أن يعيش مثل هذه العملية من إعادة إشعال النفس، والحقيقة التي لا فكاك منها بالنسبة لفيلسوف الصيرورة، إن كل الأشياء من دون إستثناء، تحقق وجودها بالحركة، وذلك ينطبق بدرجة عالية على النفوس الإنسانية، فهذه النفوس تواجه الحياة، وينبغي عليها أن تتحرك، شأنها في ذلك شأن ماء الشعير الذي يتحلل إن لم يتحرك، وهكذا هي النفوس فإن حركتها تعني الحياة، وفي حركتها هذه صعوداً وهبوطاً، يفترض أن تدرك الفرق بين الصعود والإنحدار، ذلك لأن طريق الصعود يمثل كمالها، وطريق الهبوط يمثل هزيمتها، والنفس في كل الأحوال هوائية وتتعلق وجودياً بين النار والماء. وتتجلى نظرية هيراقليطس في الصراع والتغير بوضوح في تأكيده على أن الناس مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالكلمة " اللوغوس " وهم يبقون أنفسهم في قيدها، وذلك يعني أن النفوس الإنسانية لا توجد فقط في علاقة مع الأساس المادي الذي تتبخر منه، بل لها علاقة وثيقة مع " اللوغوس " وهي الكلمة الإلهية التي تتخلل كل الأشياء، وكل القوى، وإننا نصبح عقلاء بأن نستنشق الإلهية حسب مذهب هيراقليطس، أما أثناء النوم فيصيبنا النسيان، ولكننا نعود للوعي مرة أخرى عند الاستيقاظ، لأن منافذ الحواس تكون مغلقة عند النوم، حتى أن العقل ينعزل عما هو قريب منه في العالم المحيط به، وحين يكون منعزلاً هكذا فإنه يفقد القوة التصويرية للذاكرة، ولكن حين نستيقظ مجدداً فإنه يرتفع من خلال منافذ الحواس التي تخدمه كأنها نوافذ صغيرة، وهكذا يدخل في علاقة مع ما يحيط به، ويسترد قوة العقل. ولابد من التوضيح بأن مشاركة النفوس الإنسانية في الكلمة" اللوغوس" لا تعني عزلة ذاتية، ولا تعني تجاهلاً للعقل، بل إنها على العكس من ذلك، فهي أساس الحركة والتغير المستمرين اللذين يُرمز لهما أيضاً بالنار الإلهية، فالمشاركة فيها خلال التيقظ العقلي للعالم المتغير، هي التي تمدنا بمعيار الحقيقة. وفي ما يخص العقل فإن هيراقليطس يمجده، لأن العقل في رأيه يوجه الأشياء كلها، وقد أدرك الفيلسوف أن كل نفس تميل إلى الإسراف والإفراط، ولهذا قال إن على الإنسان أن يحارب الإفراط كما يحارب النار، وذلك لأن الإفراط يضر الإنسان أكثر مما تضره النار، وهو ضد التطرف والإسراف، ورأيه ثابت على نظريته في التغير والصراع، حتى أنه يذهب إلى القول بأن كل شيء في هذا الوجود هو نسبي ومتناقض، فالتخالف يجلب الائتلاف، ومن التخالف يأتي أجمل الائتلاف، وذلك يعني إنه لا ثبات لشيء على الاطلاق، إنما الأشياء تأتلف مرة وتختلف مرة أخرى، وهكذا هو قانون الحياة الذي يجعل الصحة ممتعة بالمرض، وبالشر يكون الخير مجلبة للسرور، وكذلك بالجوع يكون الشبع، وبالتعب تكون الراحة. والمتأمل لهذه المقولات الهيراقليطية يدرك أن الشيء لا يبقى على حاله مطلقاً، وإن الانسان الطبيعي لا يشعر بأي تبدل في حياته الخاصة، ولكن حين يمرض يذوق مرارة الألم، وإذا ما تماثل للشفاء فإنه يتمتع بلذة الصحة، وفي الوقت نفسه إن لم يمسه الشر، فقد لا يدرك معنى الخير، أما إذا مسه الشر، فأنه بعد ذلك يعرف جيداً كيف أن الخير يجلب السرور، والأمر نفسه ينطبق على الشبع، فالإنسان يلتَّذُ به بعد أن يشعر بالجوع، ويتذوق الراحة جيداً بعد مدة من التعب، كما أن هناك أشياء نسبية في الحياة، فإن ماء البحر يميت الإنسان إذا شربه، والأسماك تحيى فيه حياة طبيعية، والحمير تفضل التبن على الذهب لأن فيه حياتها الطبيعية، والذهب بالنسبة لها ما هو إلا حجر لا أكثر، وفي هذا النسبية يطرح هيراقليطس حكمة جميلة تقول إن أجمل القرود هو قبيح بالنسبة للإنسان، وإن أحكم الناس يبدو قرداً إذا ما قورن بالإله. كلما تعمقنا في فلسفة هيراقليطس، نكتشف أن نظرته للأشياء قائمة على التناقض الذي يوجد في قلب الحقيقة ذاتها، وربما تكون هذه النظرة مضافاً إليها غموض عباراته وعمقها هي السبب وراء شهرته العريضة بين الفلاسفة، إنه أيضاً لا يتحدث عن مادة طبيعية محسوسة، أو وجود ميتافيزيقي مستديم، على أنه الكينونة الكلية للوجود، وحتى النار التي يتحدث عنها على أنها أصل الكون، ليست ناراً طبيعية ولا ميتافيزيقية، بل هي اللهب المغذي، وهي محسوسة الرؤية الخارجية، لكنها في الوقت نفسه هي الحقيقة الكلية للتغير المستمر، فالتنوع والتغير حقيقتان أساسيتان لا يمكن ابعادهما عن الطبيعة الحقيقية للأشياء، والزمن كما يقول طفل يلعب بالنرد، والعالَم الأكمل ليس إلَّا كومة من النفايات تكونت بطريقة عشوائية، وهو يعني بذلك إن العالَم متقلب، متغير، غير واعٍ، وطفولي في التغير أيضاً، مثل طفل يلعب بالنرد!. وحتى وحدة الأشياء التي يقول بها في فلسفته، هي نوع من الوحدة المخادعة الخفية، لأن وحدة الأشياء، وانتظامها المتبادل، لا يمكن أن توجد، ولا يمكن تصورها بعيداً عن التعدد والتنافر. وكثيراً ما يستعمل هيراقليطس اللغة المجازية على الرغم من غموض مقولاته، وقصر حكمه، كما يستعمل الاستعارة والرمز في أغلب كتاباته وعباراته الفلسفية العميقة، إنه يراوغ ويخادع في الجملة نفسها التي يخيل للقارىء العادي إنه يقصد شيئاً سهلاً وقريباً للتصور، فيما هو يقصد ما هو أعمق من ظاهر العبارة وشكلها اللغوي الخارجي، ولهذا السبب يشكو الكثيرون من صعوبة فهم فلسفته، ومن صعوبة إدراك معانيها لمعرفة مقاصده الحقيقية. أما عباراته الشائعة التي أراد فيها أن يعبر عن فكرة التغير والصيرورة " إنك لا تنزل النهر مرتين لأن مياهاً جديدة تجري حولك أبداً " فيقصد بها أن نظام الكون في تغير دائم، وأن اللحظة التي أنت فيها لن تعود أبداً، وحين تعبر النهر لأول مرة فإنك لن تعبره ثانية، لأن قطرات المياه قد مضت بعيداً، وخلايا جسدك التي لا مست المياه هي غير الخلايا التي ستلامسها في المرة الثانية . وفي عبارته " إن الكلاب تنبح على الذي لا تعرفه " لا يقصد المعنى البسيط الدارج والمتعارف عليه عن طبيعة الكلاب في تصرفها مع الغرباء، بل يقصد إن العامة الجهلاء قد لا يتقبلون نظريات ومكتشفات وتوجيهات الفلاسفة والمصلحين، وقد يثورون عليهم ويقتلوهم ويحرقون كتبهم. أما عبارته التي أثارت جدلاً كبيراً بين المفسرين فهي التي يقول فيها " إن شخصاً واحداً أفضل عندي من عشرة آلاف، إذا كان من الطبقة الأولى "، ذلك أن كثيراً من المفسرين اعتقدوا أنه فيلسوف متعجرف متكبر وطبقي، غير أن المتعمق لهذه العبارة قد لا يتوافق معهم، فهي لا تحمل أي إشارة طبقية، أو تصنيف للمجتمع إلى طبقات مثلما فعل أفلاطون وأرسطو صراحة، إنما تعني تفضيله للشخص العبقري النابه على غيره من الجهلاء حتى لو كان عددهم عشرة آلاف شخص، ولا تحتمل العبارة أبعد من هذا التفسير. ولا ينسى هيراقليطس أن ينصح الإنسان بالقول " من الأفضل أن تكون إنساناً ذا كلمة هادئة، من أن تكون أبلهاً مضطرباً، ومن الأفضل لعقل الإنسان أن يكون جافاً وواضحاً، من أن يكون ضحية للعواطف "، ثم يضيف " ومع ذلك فإن البُله والفاسقين لهم أدوارهم التي يلعبونها في العالَم المتغير أبداً".
***
د. طه جزاع
......................
* اعتمدنا في قراءة نصوص هيراقليطس على كتاب علي سامي النشار وجماعته: هيراقليطس، الإسكندرية 1965.
نشر المقال في مراصد ايضا