أقلام فكرية
علي عمرون: نيوتن ودور الفرضية في بناء العلوم التجريبية

(نحن لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم)... محمد حسنين هيكل
العلم كالفن كلاهما اشراق واشعاع، اشراق يستمد نوره من مشكاة الخيال الخصب المبدع، وبدون قوة الخيال لا وجود لإبداع علمي ولا قيمة للفنون الجميلة وبقدْر جرأة وقوة الخيال تقاس جودة الفنون، وبمقدار ما يكون خيال العالم متجددا تكون جرأة وقوة الفرض العلمي فالفرضية في الغالب نتاج خيال وبصيرة واسعة وبدونها ستكون كل تجربة عقيمة. ومن منطلق ان العلوم التجريبية منظومة؛ أي نسق، يستهدف (الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة.) كان لزاما تحديد خطوات المنهج العلمي الذي تقوم عليه فالمنهج هو سند العلم وهو إبداع إنساني، تحتل فيه الفرضية حجر الاساس انه نسق من الملاحظات والتجارب والفروض الناجحة وهذا ما تعكسه الفيزياء الكلاسيكية في عمومها والمعاصرة على وجه الدقة والتحديد.
حقا لقد لعب الخيال المبدع المرتكز على الملاحظة والتأمل العقلي دورا بارزا في فيزياء نيوتن وانتقاله من تفاحة ساقطة الى قمر ساقط كان كما يقول الفيزيائي تندول كان عملا من اعمال الخيال المتأهب لذلك نقول ان مفتاح باب العلم عند نيوتن يمر عبر إثبات الفرضيات تجريبيا، وليس التظاهر بها وعبارته الشهيرة "أنا لا أتظاهر بالفرضيات" تشكل مسلمة للطبيعة الاستقرائية لمنهجه العلمي منهج يقف في وجه العقلانية المتحررة من قيود التجربة.
فيزياء نيوتن لا تتنكر للفرضية وما قاله عن الفرضية لا يشكل رفضا لها بل هو رفض للتفكير التأملي المجرد ومحاولة جادة لوضع ضوابط للفرضية، لقد اشترط نيوتن أن تكون الفرضية قريبة من الحقائق، ولا ترتبط بها حقائق أخرى تعسفية وغير مجربة. وأن العالم يجب أن يكون مستعدا للاستقالة منها بمجرد أن ترفض الحقائق تأكيد ذلك الفرض. وقد وصف فيلسوف العلوم في القرن التاسع عشر ويليام ويويل هذا البيان، قائلا إنه "من خلال مثل هذا الاستخدام للفرضيات، قام كل من نيوتن نفسه وكبلر ببحوثهما" وقد وضح نيوتن الفرق بينه وبين الفيلسوف الألماني ليبينتز قائلا: " " يجب القول بأنّ هذين السيّدين يختلفان كثيرًا من الناحية الفلسفية؛ فأحدهما ينطلق من الدليل القادم من التجارب والظاهرات ويتوقّف أينما أراد له الدليل ذلك، أمّا الآخر فينشغل بالفرضيات وينظر فيها دون أن يختبرها بالتجارب، بل يعتقد بها دون فحص. إنّ الأوّل يريد للتجارب أن تبتّ في المسألة، ولذلك لا يصرّ على أنّ علّة الجاذبية ميكانيكية أو غير ميكانيكية؛ أمّا الآخر فيرى بأنّها معجزة مستمرّة إن لم تكن ميكانيكية."
ويمكن القول مع الدكتورة يمنى طريف الخولي ان المسألة لا تتعلق برفض الفرضية داخل المنهج التجريبي بل بتحديد الاسبقية ففي كتابها مفهوم المنهج العلمي تقول: "كانت فلسفة العلوم في القرن التاسع عشر، معنية بسؤال المنهج ...، وتحديدًا حول قطبَي المنهج العلمي التجريبي، وهما الفرض والملاحظة والعلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر، وعادةً ما يُؤرَّخ لهذا بالمناظرات بين وليم ويول W. Whewell (1794–1866م)، الذي انتصر للفرض، وجون ستيوارت مل J. S. Mill (1806–1872م)، الذي انتصر للملاحظة"
وتضيف انه لابد من التمييز بين مرحلتين فالعلم الحديث مرَّ بمرحلتين جوهريتين: مرحلة العلم الكلاسيكي منذ العام 1600م (تقريبًا) حتى العام 1900م (تحديدًا)؛ حيث كانت نظرية نيوتن بمثاليتها المعرفية والمنهجية هي الإطار السائد. ويواكب هذا نظرة كلاسيكية للمنهج التجريبي، يمثِّلها الاستقراء التقليدي، الذي يبدأ بالملاحظة ويصعد منها إلى الفرض. ومرحلة العلم المعاصر منذ العام 1900م وما تلاه، منذ أن تفجَّرت ثورة النسبية والكوانتم، التي أحدثت انقلابًا في مثاليات المعرفة العلمية، ويحق اعتبارها أعظم ثورة عقلية أنجزها الإنسان، وتصاعدت معها معدلات التقدم العلمي بصورةٍ مبهرة حقًّا. لقد أحدثت انقلابًا جذريًّا في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم، وبالتالي واكبها انقلاب مماثل في نظرية المنهج التجريبي، بحيث اتضح أنه يبدأ من الفرض ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي.
وفي كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، منشورات مجموعة الفيزياء والفلسفة في سانتا كولوما دي جرامينيت، 1987، ص. 46 نقف امام هذا النص الذي يوضح ان نيوتن لا يتنكر للفرضية جملة وتفصيلا بل يهاجم فقط الفرضيات التي لا يكون مصدرها الملاحظة والتجربة: " لقد شرحت حتى الآن من خلال ظواهر قوة الجاذبية في السماء وبحرنا، لكنني لم أحدد بعد سبب الجاذبية. من المؤكد أن هذه القوة تنطلق من سبب ما يخترق مركز الشمس والكواكب، دون أن ينتقص من قوتها. وأنه يعمل، ليس بما يتناسب مع حجم أسطح الجسيمات التي تعمل عليها (كما تفعل الأسباب الميكانيكية عادة)، ولكن بما يتناسب مع كمية المادة الصلبة. والتي يمتد عملها بالتأكيد على مسافات هائلة، ودائما ما يتناقص في النسبة المربعة للمسافات. تتكون الجاذبية نحو الشمس من الجاذبية تجاه كل جزء من جزيئات الشمس، وعندما تغادر الشمس تقل بالضبط في النسبة المربعة المسافات إلى مدار زحل، كما يتضح من حقيقة أن أفيليوس الكواكب، وحتى أبعد أفيليوس المذنبات، في حالة راحة. إذا كانت هذه الأوج في حالة راحة. لكن سبب امتلاك الجاذبية لهذه الخصائص لم أتمكن بعد من استنتاجها من الظواهر، ولا أتخيل فرضيات. لأن كل ما لا يستنبط من الظواهر يجب أن يسمى فرضيات. والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو فيزيائية، أو ذات صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. في هذه الفلسفة، يتم استنتاج الافتراضات من الظواهر، ويتم تعميمها بالاستقراء..
ونفس الطرح يفتتح به كتاب نيوتن للبصريات، الذي نشر باللغة الإنجليزية عام 1704، بهذه الجملة، حيث يبدأ بقول: "تصميمي في هذا الكتاب ليس شرح خصائص الضوء بالفرضيات، ولكن اقتراحها وإثباتها بالعقل والتجارب". في طبعته اللاتينية (وبالتالي الدولية) لعام 1706، يضيف رأيه حول ما يجب أن يكون "العمل الرئيسي للفلسفة الطبيعية" (السؤال 28). بكلماته الخاصة: "Ex phaenomeni sine fictis hypothesibus arguamus, et ab effectis ratiocinatione [...] السبب. في عام 1787، اقترح مترجمه الفرنسي مارات: "
لقد تخيل الفلاسفة المعاصرون فرضيات لشرح كل شيء ميكانيكيا. لكن الهدف العظيم الذي يجب اقتراحه في دراسة الطبيعة هو التفكير في الظواهر دون مساعدة أي فرضية، لاستنتاج أسباب الآثار.
مفهوم الفرضية في الفلسفة النيوتنية
في مقالته مفاهيم وتجربة في الفكر العلمي لنيوتن، المنشورة تحت عنوان L'Hipothèse et l'experience chez Newton، يقوم Koyré بتحليل معاني مصطلح الفرضية في عمل نيوتن، وتحديد ثلاثة في إطار المبادئ في طبعاتها الثلاث.
أولها المعنى التقليدي، الذي استخدمه الإغريق القدماء الذين فهموا الفرضية، ليس كحكم، بل كافتراض أو تخمين يجب فحصه لتقييم عواقبها وآثارها من أجل التحقق من البيان أو تزويره. وبالتالي، فإن الفرضية هي اقتراح (أو مجموعة من الافتراضات) التي يتم افتراضها من أجل تقييم عواقبها المنطقية. هذا هو المعنى الذي يستخدم به علماء الرياضيات الفرضيات. يمكن أن تكون هذه العواقب داخلية أو خارجية للنظرية. الفرضيات الداخلية مثل الفرضيات التي تم افتراضها في بارمينيدس لأفلاطون أو التماسات إقليدس وأرخميدس. العواقب الخارجية لها علاقة بالعلاقات بين النظرية والتجربة وهي تلك المستخدمة في العلوم الطبيعية. ومع ذلك، عندما يقوم نيوتن بتحليل الافتراضات، فإنه لا يستخدم مصطلح الفرضية في المبادئ .
المعنيان الثاني والثالث لهما علاقة محددة بالعلاقات بين النظرية والتجربة. تم استخدام المعنى الثاني في علم الفلك من قبل بطليموس وكوبرنيكوس وكبلر وأوزياندر وجاليليو. يشير هذا المعنى إلى أن الفرضية هي افتراض (أو مجموعة من الافتراضات) تستخدم لاستنتاج العواقب من أجل التنبؤ بالظواهر السماوية، دون نية التأكيد أو النفي أن التحقق من هذه الافتراضات، بفضل الملاحظة، يشير إلى أي شيء عن حقيقتها الأنطولوجية أو المادية.
والمعنى الثالث هو الديكارتية، التي تفهم الفرضية على أنها خيال يمكن أن يكون خاطئا ومع ذلك إيجابيا بشكل إرشادي بقدر ما يمكن استنتاج أسئلة معينة منه. يوجه نيوتن هجماته نحو هذا النوع من الفرضيات. في رأي كويري عبارة (أنا لا أتظاهر بالفرضيات)، يعني لنيوتن: أنا لا أستخدم الخيال، ولا أستخدم الافتراضات الخاطئة كمقدمات أو تفسيرات.
أخيرا، يشير Koyré إلى استخدام آخر، لم يعد في إطار المبادئ ولكن في إطار البصريات. بين عامي 1671 و 1672، طور نيوتن تجاربه وملاحظاته على الضوء التي لم يكن المقصود منها تفسير طبيعته، بل شكلت سلسلة من الملاحظات والتجارب لإجراء قياسات للطيف الضوئي. يمكن اشتقاق النظرية الجسدية للضوء منها، ليس كفرضية بالمعنى الديكارتي للمصطلح، ولا بالمعنى الفلكي، ناهيك عن المعنى اليوناني التقليدي، ولكن بالأحرى كتفسير تخميني تماما مشتق من التجريب. يقول كويري في هذا الصدد ما يلي:
"لا ينكر نيوتن أن تجاربه يمكن تفسيرها عن طريق العديد من الفرضيات الميكانيكية. هذا هو السبب في أنه لم يقترح أي فرضيات، لكنه اقتصر على تطوير نظرية تتوافق تماما مع ما يمكن إثباته".
***
علي عمرون