آراء

عبد الحسين: مجزرة الأرمن.. جرح في ذاكرة الإنسانية

تشكل مجزرة الأرمن واحدة من أبشع الجرائم والمآسي التي شهدها القرن العشرون، تحديداً في (24) نيسان/ أبريل 1915، التي تجلى بها الفكر القومي المتطرف في ممارسة التطهير العرقي. حصلت المأساة في قلب الدولة العثمانية المتهالكة التي بدأت تفقد نفوذها مع تصاعد النزعات القومية. ومع تأسيس "جمعية الاتحاد والترقي" واستلامها السلطة، برز تيار قومي تركي عنيف يدعو إلى "تتريك" الدولة، وجعل الهُوِية التركية فوق جميع الهُوِيات الأُخرى. هذا الطابع القومي المتشنج لم يكن مجرد شعور بالإنتماء، بل تطور إلى شوفينية عنصرية تُقصي الآخر المختلف، حيث كُتب فصل دامٍ مازال عالقاً في الذاكرة الجمعية المؤلمة، اسفر عن نتائج مرعبة أدت إلى مقتل ما يقارب مليون ونصف المليون أرمني خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1915-1917). إلى جانب تهجير وتشريد مئات الآلاف من السكان وتدمير مجتمعات كاملة كانت جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي الثقافي للمنطقة.

المسيحيون الأرمن إحدى أكبر الجماعات العرقية المتميزة التي كانت تعيش منذ قرون في منطقة الأناضول التي هي جزء من الدولة العثمانية، وكانوا يتمتعون بحضور اقتصادي وثقافي واجتماعي متميز. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، شكَّل بعض الأرمن منظمات سياسية تهدف إلى المطالبة بحقوقها في إطار الحكم الذاتي، هذا التوجه أثار شكوك الدولة العثمانية حول مدى ولاء الأرمن. في بادئ الأمر، كانت السلطات العثمانية تستوعب بعض المظالم الاجتماعية الأرمنية، ولكن في ربيع عام 1909، تحولت المظاهرات الأرمنية المطالبة بالحكم الذاتي الى أحداث عنف دموية راح ضحيتها الكثير من المواطنين من الطرفين.

مجزرة الأرمن، كانت نتيجة لمجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والدينية. أُرتكبت في سياق قومي شوفيني، حيث اجتمعت النزعة القومية المتطرفة مع أدوات السلطة العثمانية، في إطار تطهير عرقي ممنهج أدى إلى كارثة إنسانية. كانت السلطات العثمانية متذمرة من وجود الأرمن، بسبب قربهم من روسيا، وإحتمالية انضمامهم للعدو الروسي أثناء الحرب، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات قاسية ضدهم. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك خوفاً من زيادة نفوذ الأقليات المسيحية داخل الدولة العثمانية، مما دفع بعض القادة إلى اعتبار الأرمن تهديداً يجب التخلص منه. 

ومع زيادة مطالب الأرمن الحقوقية، بدأت التوترات تتوسع بين الأرمن والحكومة العثمانية نتيجة للتمييز الديني والعرقي، وأخذت مسارات معقدة، لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى، اتهمت السلطات العثمانية الأرمن بالتعاون مع عدو تركيا الجيش الروسي، ما أدى إلى إشكالات عديدة أدت إلى اتخاذ قرارات جائرة بالضد من الأرمن. وفي 24 أبريل 1915، بدأت السلطات العثمانية باعتقال وقتل قادة المجتمع الأرمني في إسطنبول، وهو ما يُعد بداية الإبادة الجماعية.

 وفي بداية مايو 1915، توسعت المضايقات الحكومية للأرمن، ترحيل قسري لمئات الآلاف من الأرمن من منازلهم في شرق الأناضول باتجاه سوريا والعراق، وزحفت أعداد كبيرة من المدنيين على شكل قوافل إلى أقاليم أرمنية ذات كثافة سكانية في شرق الأناضول. وقد رافق هذا الهجوم العنفي مشاهد دموية وعمليات سرقة واغتصاب واختطاف وابتزاز وتعذيب وتنكيل، أدت إلى موت مئات الآلاف من الأرمن قبل الوصول إلى معسكرات الاعتقال المخصصة لهم. ووسط هذه المشاهد المرعبة سقطت القيم الأخلاقية والإنسانية، وتواطأت السياسة الدولية بالصمت أو التجاهل لتضيف مزيداً من الآلام على ذاكرة الناجين من المجزرة.

ارتبطت مسألة محاربة الأرمن ارتباطًا وثيقاً بأحداث الحرب العالمية الأولى، حيث شاركت الدولة العثمانية بشكل رسمي في الحرب في نوفمبر 1914 إلى جانب دول المحور (ألمانيا والنمسا-المجر)، الذين قاتلوا ضد (بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا وصربيا). وفي ظل تلك الظروف الاستثنائية أُرتكبت الأعمال الوحشية وعمليات الإبادة الجماعية.

ورغم التعددية الثقافية والدينية التي كانت تتسم بها الإمبراطورية العثمانية، فإن صعود الفكر القومي الطوراني - الشوفيني - إلى سدة الحكم عبر "حزب الاتحاد والترقي"، شكل تحوّلاً خطيراً نحو سياسات الإقصاء والتصفية العرقية، خاصة ضد الأقليات غير المسلمة، لاسيما المسيحية منها.

كان الفكر القومي الشوفيني الذي تبناه قادة "الاتحاد والترقي" يقوم على فكرة مركزية تفوق "العرق التركي"، وسعيه لخلق وطن متجانس عرقياً ودينياً. واعتُبرت الأقليات، خصوصاً الأرمن والمسيحيين، "كياناً غريباً" داخل هذا المشروع القومي، مما جعلهم هدفاً مباشراً لخطط "التطهير" التي رُوج لها باعتبارها ضرورة وطنية للحفاظ على أمن الدولة ووحدتها، تحت ذرائع واهية مثل "الخيانة" بعد اتهام الأرمن زيفاً بالتحالف مع قوى أجنبية معادية، أي "التحالف مع الروس".

استغلت السلطات العثمانية هذه الاتهامات كذريعة  نفذت من خلالها مذبحة مأساوية من خلال  القتل الميداني وارتكاب أبشع حالات الاضطهاد والقتل الجماعي، والتهجير القسري،  وعمليات الاغتصاب وغيرها من الممارسات البعيدة عن القيم الإنسانية. لم تكن هذه الأفعال مجرد تجاوزات عسكرية في زمن الحرب، بل كانت مدفوعة بعقيدة واضحة تسعى إلى تطهير الأناضول من كل ما هو غير تركي وغير مسلم. ولم يكن الأرمن وحدهم من دفعوا ثمن هذا الفكر المتطرف، بل طالت المذابح أيضاً الآشوريين والسريان والكلدان، حيث شُنت حملات إبادة مماثلة ضدهم نتيجة للنهج القومي المتطرف.

هذا التصرف العنفي الدموي كشف عن حقيقة طبيعة المشروع القومي العثماني الجديد الذي أراد خلق "أمة واحدة" بالقوة، ولو على أنقاض شعوب بأكملها. أظهرت أحداث الكارثة بأنه يمكن للفكر القومي الشوفيني المتعصب الراغب في النقاء العرقي أن يتحول إلى أداة فتاكة بيد سلطة الدولة.

رغم مرور أكثر من قرن على مأساة المجازر، لا تزال الدولة التركية الرسمية ترفض الاعتراف بهذه الجريمة إلى يومنا بأن ما حصل يعتبر "إبادة جماعية". هذا الموقف الرسمي المتشنج المتمسك بمسألة استمرارية الإنكار، يشكل جزءاً من البنية الفكرية القومية المتطرفة. ويُعد هذا الإنكار امتداداً لنفس المنظومة التي سمحت أصلاً بوقوع تلك المأساة.

إن مذبحة الأرمن لم تكن مجرد فصل من فصول من العنف العشوائي، بل كانت نتاجاً مباشراً لفكر قومي شوفيني تبنى الإقصاء والتطهير العرقي كوسيلة لصياغة هُوِيّة وطنية متخيلة. وهي حقيقة مأساوية توضح لنا كيف يمكن للفكر المتطرف أن يتحول إلى أداة إبادة حين يتحالف مع السلطة والقوة العسكرية.

ورغم محاولات التعتيم على هذه الجريمة وإنكارها، ولكن الدلائل التاريخية والشهادات الموثقة والوثائق الرسمية أثبتت بأن ما حدث يرقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية وفقاً لتعريف الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع جرائم الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن لا يعني تغذية مشاعر العداء أو الانتقام، وإنما إلى ترسيخ ثقافة الوعي بالتاريخ، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، ومنع تكرار هكذا جرائم مشينة بحق البشرية. مأساة مجزرة الأرمن ستبقى جرحاً مفتوحاً لا يندمل في ضمير وذاكرة الإنسانية، ومسؤولية أخلاقية لتذكيرالأجيال بكيفية التصدي للظلم بكل أشكاله. وهذا يتطلب عملاً متواصلاً ومتعدد الجوانب في تثقيف الأجيال القادمة، بأهمية إستذكار هذا الحدث المأساوي الذي يهدف إلى تكريم ضحايا المجزرة، ومنع حدوث مثل هذه الجرائم مستقبلاً من خلال إقامة فعاليات تذكارية تسلط الضوء على الأحداث التاريخية تسهم في نشر الوعي والتعليم، وإدراج مادة الإبادة الجماعية في المناهج الدراسية وتعزيز البحث الأكاديمي حولها. والتواصل في مجالات العطاء الفني والأدبي، كتابة المقالات والكتب، وإنتاج أفلام وثائقية، وإقامة معارض فنية تعكس معاناة الأرمن وقصص الناجين من تلك الأحداث. والمساهمة في الدعوة للاعتراف السياسي بالضغط على الحكومات للاعتراف بهذه المجزرة وإدانة مرتكبيها، والمطالبة بالعدالة التاريخية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

في المثقف اليوم