آراء

ايلان بابيه: انهيار الصهيونية

كتب: ايلان بابيه

ترجمة: علي حمدان

***

يمكن تشبيه هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بالزلزال الذي ضرب مبنى قديما. الشقوق كانت بدأت بالفعل تظهر لكنها الان اكثر وضوحا. بعد مرور اكثر من 120 عاما علي بدايته، هل يمكن ان يواجه المشروع الصهيوني في فلسطين، فكرة فرض دولة يهودية على ارض دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية، احتمال الانهيار؟ تاريخيا، هناك عدد كبير من العوامل التي يمكن ان تتسبب في انهيار دولة ما: يمكن ان ينجم عن الهجوم المستمر من قبل الدول المجاورة او عن حرب أهلية مزمنة، ويمكن ان يتبع انهيار المؤسسات العامة، والتي أصبحت غير قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين. غالبا ما تبدأ كعملية تفكك بطيئة تكتسب زخما ثم، بعد  فترة قصيرة من الزمن، تنهار الهياكل التي كانت ذات يوم صلبة وثابتة.

الصعوبة تكمن في رصد هذه المؤشرات مبكرا، هنا، سأجادل بان هذه المؤشرات أوضح من أي وقت مضى في حالة إسرائيل. نحن نشهد عملية تاريخيّة- أو بدقة اكبر، بدايات من المرجح ان تنتهي بسقوط الصهيونية. وإذا كان تشخيصي صحيحا، فإننا ايضاً ندخل منعطفا خطرا بشكل خاص، فبمجرد ان تدرك إسرائيل حجم الأزمة، ستمارس عنفا غير مقيد لمحاولة احتوائها، كما فعل النظام العنصري الجنوب أفريقي خلال أيامه الأخيرة.

المؤشر الأول هو انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي. وحاليا يتكون من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة. وينبع هذا الصدع من التناقضات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية. وفي حين ان الهوية اليهودية في إسرائيل بدت في بعض الأحيان ليست اكثر من  مجرد موضوع للنقاش النظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، فقد أصبحت الان مادة للصراع حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها. يخاض هذا الصراع  ليس في وسائل الاعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.

احد المعسكرين يمكن تسميته ب" دولة إسرائيل"، وهو يضم اليهود العلمانيين والليبراليين على الاغلب، ولكن ليس حصرا على اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة واحفادهم، الذين كان لهم دور فعال في تأسيس الدولة في عام 1948 وتمتعوا بالهيمنة علي الدولة حتى نهاية القرن الماضي. ويجب ان لا نخطيء في ان دفاعهم عن "القيم الديمقراطية الليبرالية " لا يؤثر على التزامهم بنظام الفصل العنصري الذي فرض، بطرق مختلفة، على جميع الفلسطينيين، الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الابيض المتوسط. رغبتهم الأساسية ان يعيش المواطنون اليهود في دولة ديمقراطية، مجتمع تعددي يستبعد منه العرب.

المعسكر الاخر هو" دولة يهودا"، والذي نشأ بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، يحظى بمستويات متزايدة من الدعم داخل البلاد ويشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت انتصار نتنياهو في انتخابات نوفمبر 2022. تأثيره في الطبقات العليا من الجيش الإسرائيلي والخدمات الأمنية يتزايد بشكل مضاعف. ترغب دولة يهودا في ان تصبح إسرائيل نظاما دينيا يمتد على كامل فلسطين التاريخية. من اجل تحقيق هذا، فهي مصممة على تقليل عدد الفلسطينيين الى ادنى حد ممكن، وهي تفكر في بناء هيكل ثالث مكان المسجد الأقصى، يعتقد أعضاء هذا المعسكر ان بإمكانهم من تجديد العصر الذهبي للمالك الكتاب المقدس. بالنسبة لهم، فان اليهود العلمانيين هم بدرجة ما مهرطقين كالفلسطينيين اذا رفضوا المشاركة في هذا المسعى.

كان المعسكران قد بدأ في التصادم بعنف قبل أسابيع من أكتوبر. خلال الأسابيع الأولى بعد الهجوم، بدا انهما يضعان خلافاتهم جانبا امام عدو مشترك. ولكن هذا كان وهما. ان القتال في الشوارع قد عاد، ومن الصعب رؤية ما يمكن ان يجلب المصالحة. النتيجة الأكثر احتمالا بالفعل تتكشف امام اعيننا. اكثر من نصف مليون إسرائيلي، يمثلون دولة إسرائيل قد غادروا البلد منذ أكتوبر، مما يشير الي ان البلاد تغرق في دولة يهودا. هذا مشروع سياسي لن يتحمله العالم العربي، وربما حتى العالم بشكل عام على المدى الطويل.

المؤشر الثاني هو ازمة اقتصاد إسرائيل. لا يبدو ان الطبقة السياسية لديها أي خطة لتحقيق توازن في المالية العامة وسط الصراعات المسلحة المستمرة،  بل تعتمد بشكل متزايد على المساعدات المالية الامريكية. في الربع الأخير من العام الماضي، انخفض الاقتصاد بما يقرب من 20 ٪ ؛ ومنذ ذلك الحين كان الانتعاش الاقتصادي هشا. الوعد الأمريكي ب 14 مليار دولار من غير المرجح ان يغير من هذا الوضع. بل ان  العبء الاقتصادي سيزداد سوء ا اذا قامت إسرائيل بتنفيذ نيتها للدخول في حرب مع حزب الله وزيادة النشاط العسكري في الضفة الغربية، في وقت بدأت فيه بعض البلدان – بما في ذلك تركيا وكولومبيا- بفرض عقوبات اقتصادية.

تتفاقم الازمة بسبب عدم كفاءة وزير المالية بيتساليل سموتريتش، الذي يقوم باستمرار بتوجيه الأموال الى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ولكن يبدو عاجزا خلاف ذلك عن إدارة وزارته.  ان الصراع بين دولة إسرائيل ودولة يهودا، جنب الى جنب مع احداث السابع من أكتوبر، يؤدي الى نقل  رؤوس الأموال الى خارج البلد من قبل النخب الاقتصادية. الذين يفكرون في نقل استثماراتهم يشكلون جزءا هاما من20 ٪ من الاسرائيليين الذين يدفعون 80 ٪ من الضرائب.

المؤشر الثالث هو تزايد عزلة إسرائيل دوليا. حيث تصبح تدريجيا دولة منبوذة. ان هذه العملية بدأت قبل السابع من أكتوبر ولكن الامر تفاقم منذ بدء عمليات الإبادة. تمثل ذلك في المواقف الغير مسبوقة التي اعتمدتها المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. في السابق، كانت حركة التضامن العالمية مع فلسطين  قادرة على تحفيز الناس على المشاركة في مبادرات المقاطعة، ومع ذلك فشلت في تعزيز احتمال فرض عقوبات دولية. في معظم البلدان، بقى الدعم لإسرائيل قويا من قبل المؤسسات السياسية والاقتصادية.

في هذا السياق، يجب ان ننظر الى قرارات المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية الأخيرة- التي تقول  ان إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وانه يجب عليها وقف هجومها على رفح، وانه يجب اعتقال قادتها بتهم جرائم حرب- كمحاولة  للاستجابة الى اراء المجتمع المدني العالمي، بدلا من مجرد انعكاس لاراء النخب. لم تخفف المحاكم من الهجمات الوحشية على شعب غزة والضفة الغربية، ولكنها ساهمت في زيادة الانتقادات الموجة الى الدولة الإسرائيلية، والتي تأتى بشكل متزايد من كل الاتجاهات.

المؤشر الرابع المرتبط هو التغيير الجذري بين اليهود الشباب في جميع انحاء العالم. بعد الاحداث التي وقعت خلال الأشهر التسعة الماضية، يبدو ان العديد منهم الان مستعدين للتخلي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية والمشاركة بنشاط في حركة تضامن مع الفلسطينيين. كانت المجتمعات اليهودية، خاصة في الولايات المتحدة، في وقت ما توفر لإسرائيل حصانة فعالة ضد الانتقادات، فقدان هذا الدعم، او على الأقل الخسارة الجزئية، له تأثيرات كبيرة على مكانة البلد عالميا. لا يزال بإمكان "ايبك" الاعتماد على الصهاينة المسيحيين لتقديم المساعدة والدعم، لكنها لن تكون نفس المنظمة القوية بدون شريحة يهودية كبيرة، ان قوة اللوبي بدأت بالتأكل.

المؤشر الخامس هو ضعف الجيش الإسرائيلي. لاشك ان الجيش الإسرائيلي يظل قوة قوية بأسلحة متطورة في تصرفه. ومع ذلك، تم الكشف عن محدودية قوته في 7 أكتوبر. يشعر العديد من الإسرائيليين ان الجيش كان محظوظا للغاية، حيث كان يمكن ان تكون الحالة أسوأ بكثير لو انضم حزب الله الى هجوم تنسيقي في السابع من أكتوبر. منذ ذلك الحين، اظهرت إسرائيل انها تعتمد بشدة على تحالف إقليمي، تقوده الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها ضد ايران، الذي شهد هجومها التحذيري في ابريل استخدام نحو 170 درون بالإضافة الى الصواريخ الباليستية والموجهة. اكثر من أي وقت مضى، يعتمد المشروع الصهيوني على الاستعانة السريعة بكميات هائلة من الامدادات من الأمريكيين، دونها لا يمكنه حتى مقارعة جيش صغير من المحاربين غير النظاميين في الجنوب.

هناك الان اعتقاد واسع الانتشار في عدم جاهزية إسرائيل وعجزها عن الدفاع عن نفسها بين السكان اليهود في البلد. أدى ذلك الى ضغط كبير لإلغاء الاعفاء العسكري لليهود الأرثوذكس- الذي كان قائما منذ عام 1948وبدء تجنيدهم بألالاف. هذا نادرا ما سيحدث فرقا كبيرا على الساحة العسكرية، ولكنه يعكس مدى التشاؤم حول الجيش - الذي بدوره عمق الانقسامات السياسية داخل إسرائيل.

المؤشر النهائي هو تجدد الطاقة النضالية بين الجيل الشاب من الفلسطينيين. انهم اكثر توحدا وترابطا عضويا ووضوحا من النخبة السياسية الفلسطينية. نظرا لان سكان غزة والضفة الغربية من بين الاصغر عمرا من سكان العالم. ان هذه الشريحة الجديدة ستمتلك تأثيرا هائلا على مسار النضال التحرري. تظهر المناقشات التي تجرى بين الشباب الفلسطيني انهم مشغولون بإنشاء منظمة ديمقراطية حقيقية – اما ان يتم تجديد منظمة التحرير الفلسطينية او انشاء منظمة جديدة ستسعى وراء رؤية تحررية تتناقض مع حملة السلطة الفلسطينية للحصول على الاعتراف كدولة. يبدو انهم يفضلون حلا  لدولة واحدة بدلا من نموذج الدولتين الذي فقد مصداقيته.

هل سيكونون قادرين على تقديم استجابة فعالة لانحسار الصهيونية؟ هذا سؤال صعب الإجابة عليه. فانهيار مشروع دولة لا يتبعه دائما بديل اكثر اشراقا. في مناطق أخرى في الشرق الأوسط – في سوريا واليمن وليبيا- راينا كيف يمكن ان تكون النتائج دموية ومديدة. في هذه الحالة، سيتعين تحقيق عملية التخلص من الاستعمار، وقد اظهر القرن السابق ان واقع ما بعد الاستعمار لا يكون احسن من الوضع الاستعماري. فقط وضع الفلسطينيين  يمكن ان يقودنا في الاتجاه الصحيح. اعتقد انه عاجلا او اجلا، سيؤدي الاندماج المتفجر لهذه المؤشرات الى انهيار المشروع الصهيوني في فلسطين. عندما يحدث ذلك، يجب ان نأمل ان تكون هناك حركة تحرير قوية لتملأ الفراغ.

لأكثر من 56 عاما. كان ما سمي ب "عملية السلام " والتي لم تؤدي الى نتيجة- في الواقع سلسلة من المبادرات الامريكية الإسرائيلية التي طلب من الفلسطينيين الرد عليها، اليوم، يجب ان يحل "السلام " محله بالتخلص من الاستعمار، ويجب على الفلسطينيين ان يكونوا قادرين على صياغة رؤيتهم للمنطقة، مع الطلب من الاسرائيليين الرد عليها. سيمثل هذا المرة الأولى، على الأقل لعدة عقود، التي ستتخذ فيها حركة الفلسطينيين زمام الأمور  بوضوح وتقديم اقتراحاتها لفلسطين ما بعد الاستعمار وما بعد الصهيونية( واي كان المسمى للكيان الجديد). في القيام بذلك، من المحتمل ان ننظر الى أوروبا( ربما كانتونات سويسرا والنموذج البلجيكي). او، بشكل اكثر ملاءمة الى الهياكل القديمة لشرق البحر الابيض المتوسط، حيث تحولت الجماعات الدينية المعيارية تدريجيا الى جماعات عرقية ثقافية عاشت جنبا الى جنب على نفس الأرض.

سواء رحب الناس بالفكرة ام انها تثير الرهبة، اصبح انهيار إسرائيل قابلا للتنبؤ  به. هذه الاحتمالية يجب ان تجعلنا ان نفكر في مستقبل المنطقة. سوف يتم اجباريا وضع هذه المسالة على جدول اعمال الناس، حين يدركوا ان المحاولة التي دامت قرنا كاملا، بقيادة بريطانيا ومن ثم الولايات، لفرض دولة يهودية على بلد عربي تقترب ببطء من نهايتها. لقد حققت نجاحا كافيا لأنشاء مجتمع من ملايين المستوطنين، والعديد منهم الان من الجيل الثاني والثالث، ومع ذلك لا يزالوا  يعتمدوا في وجودهم، كما كان عند وصولهم، على قدرتهم في فرض ارادتهم بعنف علي ملايين من الشعب الأصلي، الذين لم يتخلوا ابدا عن كفاحهم من اجل تقرير مصيرهم والحرية في وطنهم. في العقود القادمة، سيتعين على المستوطنين التخلي عن هذا النهج وإظهار استعدادهم للعيش كمواطنين متساويين في فلسطين محررة ومتخلصة من الاستعمار.

نيولفت ريفيو 21 يونيو/ حزيران 2024.

في المثقف اليوم