آراء
عبد السلام فاروق: محنة العقل.. وعقل المحنة!

إنها المأساة ذاتها التي تعود إلى مسرح الوعي العربي بين الفينة والأخرى، كالفيلم السينمائي الذي أعادت قنوات الفكر العربي عرضه مراراً، لا لأن فيه من الجودة ما يستهوي النفوس، بل لأن فيه من الإثارة ما يجذب المشاهدين، ويملأ جيوب المنتجين. وهل يهم أولئك المنتجون ما يحدث من معارك فكرية تدور رحاها في صالات العرض أو مقاهي المشاهدة؟ كلا، فالمهم عندهم هو الربح المادي، أما الحقيقة الفكرية فتبقى أسيرة هذا الصراع المصنوع .
أتحدث هنا عن قضية الكاتبة فاطمة ناعوت، لا لأنني أريد الدفاع عن رأيها، فإني لا أتبناه ولا أؤيده، بل لأنني أريد أن أناقش ما أسميته "محنة العقل" حين يواجه المقدس. لقد رأت ناعوت في شعيرة الأضحية ما وصفته بـ"المذبحة" السنوية"، فوقع عقلها - ذلك العقل المحدود بطبيعته البشرية – في فخ الافتتان الذاتي، فلم ير إلا ما تتصوره قدراته الضيقة، ولم يستطع تجاوز إدراكه الخاص إلى الحكمة الإلهية التي قد تكون وراء هذا التشريع .
ولعل ما دفع ناعوت إلى هذا الرأي هو ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من تشويه لصورتها على يد جماعات التطرف والإرهاب، تلك الجماعات التي تصور الإسلام على أنه دين القتل والذبح.
لكن هذا لا يبرر عدم تحرز الكاتبة في عباراتها، ولا يعفيها من مسئولية التدقيق في كلماتها لئلا تفتح الباب أمام سوء الفهم .
عقلية القطيع الفكري..
أما "عقل المحنة" فهو ذلك العقل الجمعي الذي يتحرك كالقطيع حين يسمع صوتاً يخالف المألوف. وما إن يصدر رأي فردي حتى تتحرك جيوش هذا العقل الجمعي لسحق الفرد وتدميره، وكأنهم كهنة معبد قديم يحرسون قداستهم المتوهمة. إنهم لا يكتفون بمجرد الرد على الرأي المخالف، بل يسعون إلى إهدار كرامة صاحبه وإنسانيته .
شجرة الكفرة وحجارة المؤمنين!
لقد حولت هذه المعركة المفتعلة الكافر - في نظر المتطرفين - إلى شجرة مثمرة ينتظرون ثمارها ليتاجروا بها، وحولت المؤمنين إلى مجرد رماة أحجار مسمومة. أليس من العجيب أن نرى آلاف التعليقات التي تخرج أصحابها من دائرة الأخلاق الإسلامية التي أمرنا الله بها؟ أين هم من قوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم"؟
دعوة إلى التأمل..
على "عقل المحنة" أن يراجع نفسه، وعلى رجالات الفكر أن يتدخلوا قبل أن تتحول كل أزمة فكرية إلى مذبحة إعلامية. وفي الوقت نفسه، على الكاتب أن يدرك محدودية عقله البشري حين يتناول المقدس، فلا يغتر بذاته، ولا يتصور أنه قادر على إدراك كل الحكمة الإلهية الكامنة وراء التشريعات الدينية .
لقد أخطأت ناعوت بلا شك، وحاولت توضيح موقفها، لكن الافتتان الذاتي حال دون ذلك. والدرس الذي نتعلمه هنا هو أن علينا أن ندرك حدود عقلنا البشري حين نخوض في المسائل الدينية، فلا نغالي في اعتراضنا، ولا نغلو في ردنا على المعترضين .
المحنة والمحاكمة..
ما أشبه معارك الفكر اليوم بمعارك الكهنة في المعابد القديمة، حيث يحاكم كل من تجرأ على مساءلة المقدس، لا بالحجة والبرهان، بل بالتكفير والتشهير. فـ"فاطمة ناعوت" لم تكن أول من وقع في هذا الفخ، ولن تكون الأخيرة، لأن المشهد يتكرر كلما تجرأ عقل على طرح سؤال، أو عبر عن رأي يخالف السائد. والسائد هنا ليس بالضرورة الحق، بل هو ما تكرس في الأذهان بفعل التلقين والترديد، حتى صار مقدساً لا يمس.
لقد وصفت ناعوت الأضحية بـ"المذبحة السنوية"، فكان رد الفعل كمن ألقى حجراً في مستنقع آسن، فتناثرت حوله كل مخلوقات الظلام، لا لتناقش، بل لتهاجم. وهنا تكمن المفارقة: فبينما يدعي المدافعون عن الدين أنهم يحمونه، فإنهم في الواقع يحولونه إلى ساحة للصراع، حيث تسحق العقول قبل أن تفحص الحجج.
لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا أن كل حركة فكرية تقدمية واجهت مقاومة شرسة من قبل حراس التقليد. فسقراط أُجبر على شرب السم لأنه "أفسد الشباب"، والحلاج صُلب لأنه تجرأ على القول بـ"أنا الحق"، وابن رشد نُفي، وكتبه أُحرقت. واليوم، لا يختلف الأمر كثيراً، إلا أن أدوات القمع تطورت من السيف إلى "التكفير الإلكتروني"، ومن المحارق إلى "الفضائيات".
والسؤال الذي يجب أن نطرحه: لماذا هذا الخوف من النقد؟ هل الدين ضعيف إلى درجة أنه ينهار أمام سؤال؟ أم أن المشكلة في فهمنا للدين، الذي حولناه من رسالة تحرير للعقل إلى مجموعة من الطقوس التي لا يجوز المساءلة عنها؟
الخطيئة الكبرى
المشكلة ليست في أن ناعوت قد تكون أخطأت في التعبير، بل في أن المجتمع لا يسمح حتى بالخطأ. فما إن يُطلق أحدهم رأياً مخالفاً حتى يُحاصر بجيش من "المفتين" الذين يحكمون عليه بالكفر قبل أن يفهموا ما قال. وهنا يتحول النقاش من حوار فكري إلى محاكمة دينية، حيث يُستدعى التاريخ كله ليدين فرداً تجرأ على كسر التابو.
والأخطر من ذلك أن هذه الآلية لا تُستخدم فقط ضد "الليبراليين" أو "المتشككين"، بل حتى ضد علماء الدين أنفسهم إذا خالفوا السائد. فكم من عالم اتهم بالزندقة لأنه فسر آية بتفسير جديد، أو لأنه تجرأ على القول بأن بعض الأحاديث ضعيفة؟
هل يمكن الخروج من هذا المأزق؟
إن الخروج من هذه الدائرة يتطلب أمرين:
1. الاعتراف بحق الاختلاف: فالدين ليس ملكاً لفئة دون أخرى، والنقاش حوله يجب أن يكون مفتوحاً لكل عاقل، دون اتهامات مسبقة.
2. الفصل بين النقد والتكفير: فليس كل من انتقد شيئاً في التراث الديني كافراً، وليس كل من طرح سؤالاً خائناً.
أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسنظل ندور في حلقة مفرغة: كلما طرح أحدٌ فكرة، هاجمه القطيع، وكلما هاجمه القطيع، زادت الفجوة بين العقل المفكر والجمهور المُفَكر فيه.
العقل سيف ذو حدين
العقل نعمة، لكنه قد يكون نقمة إذا تحول إلى أداة قمع بدلاً من أن يكون أداة تحرير. وناعوت هنا ليست أكثر من حلقة في سلسلة طويلة من الصراع بين من يريدون التفكير بحرية، ومن يريدون أن يُفكروا الآخرين نيابة عنهم.
فهل نستطيع أن نخرج من هذه المعركة بأقل الخسائر؟ الجواب يعتمد على ما إذا كنا مستعدين لأن نعترف بأن الدين أقوى من أن يهزه سؤال، وأن العقل أقدس من أن يُسجن في زنزانة اليقين الجمعي.
***
عبد السلام فاروق