آراء
علاء اللامي: الشنقيطي نموذج نقدي مختلف لباحث غير طائفي في المسألة الطائفية! (2)
بين التشييع العراقي والأخر المصري والشامي
* يقول الباحث محمد بن المختار في الندوة المسجلة ذاتها، إنه لاحظ من خلال دراسته أن التشييع المصري والشامي كان تشيعاً شكلياً أما التشيع العراقي فقد كان تشيعاً حقيقياً. ويعلل ذلك بأن التسنن سبق التشيع في الشام ومصر زمنياً وتجذر فيهما قبل التشيع الذي لم يخترق البنية النفسية والثقافية فيهما. أما في العراق فكان التشيع فيه منذ بدايات الإسلام وظل التشيع فيه متجذرا فلم يتأثر لا بالحروب الصليبية ولا بالغزو المغولي واعتقد أن هذه الفكرة قابلة للأخذ والرد إذْ أن غالبية قبائل العراق الشيعية اليوم كانت سُنية قبل قرنين.
* على عكس علاقة نور الدين زنكي السيئة بالشيعة الإمامية في بلاد الشام ومصر حيث اضطهدهم ونفى قادتهم فإن علاقة صلاح الدين الأيوبي بالشيعة الإمامية كانت جيدة جدا. مشكلته كانت مع الإسماعيليين وخاصة النزاريين الذين حاولوا اغتياله ثلاث مرات (يعترض سيار الجميل لاحقا على هذه المعلومة فيقول إن محاولات اغتيال صلاح الدين على يد النزاريين كان 15 محاولة وليست 3 مرات).
* آخر محاولة لإحياء الدولة الفاطمية واستردادها من صلاح الدين الأيوبي بواسطة انقلاب مسلح قادها الفقيه الشاعر عمارة اليمني. والطريف والملفت أن عمارة لم يكن شيعياً إسماعيلياً فاطمياً بل كان سنياً شافعياً مثل صلاح الدين السني الشافعي تماماً. ولكنه أي عمارة كان ممن يوالون الفاطميين بعمق وإخلاص وله قصيدة مشهورة في رثائهم مطلعها:
يا لائمي بهوى أبناءِ فاطمةٍ
لك الملامة إنْ قصرتَ في عَذَلي
* و"فاطمةٍ" حُركت هنا بتنوين الكسرة مع إنها ممنوعة من الصرف للضرورة الشعرية. وحين فشل الانقلاب الذي قاده عمارة اليمني حكم الأيوبي بإعدامه فأعدِمَ شنقاً في شهر رمضان.
فرس جعلوا الأتراكَ سُنةً وأتراكٌ حولوا الفرسَ شيعةً
* ومن طرائف التاريخ أيضا يقول الشنقيطي أن الترك السلاجقة دخلوا الإسلام على مذهب السنة على أيدي الفرس السنة آنذاك في عهد الدولة السامانية. وإن الفرس السنة تحولوا إلى شيعة على أيدي الترك الشيعة (أعتقد أن المتحدث يقصد على أيدي جماعة الشيخ الشيعي الإمامي الإذري التركي صفي الدين وابنه صدر الدين وحفيده علاء الدين الأردبيلي الصفوي الذين بدأ معهم تشيع إيران السنية في عهد حاكمها إسماعيل الصفوي. ع.ل).
* ويقول الباحث إن العامل المذهبي كان أقل العوامل تأثيرا في الجيل القديم من المؤرخين بدليل أن المؤرخ يحيى بن أبي طي الحلبي وهو شيعي إمامي وأول من ألف سيرة لصلاح الدين بعنوان " كنز المؤمنين من سيرة الملك صلاح الدين" ، أما المؤرخ ابن الأثير السني (لأنه كان مواليا للزنكيين وهم على المذهب الحنفي وليس شافعيا على مذهب صلاح الدين) والمؤرخ المصري المقريزي السني أيضا (ولكن لأسباب وطنية مصرية أي لأنه يرى الفاطميين مصريين وليسوا أجانب كصلاح الدين) فقد ألفا كتابين فيهما الكثير من النقد والاتهامات القاسية لصلاح الدين الأيوبي.
شيعة يدافعون عن صلاح الدين وسنة يهاجمونه
والغريب - كما يقول الشنقيطي في الندوة الثانية/ الرابط 2 - إننا نرى أن الشيعة المعاصرين لا يعتمدون على كتاب المؤرخ الشيعي يحيى بن أبي طي الحلبي المدافع عن صلاح الدين بل يكثرون من الاستشهاد بابن الأثير والمقريزي (السُّنيين) للطعن في صلاح الدين!
ويتوقف الشنقيطي عند كتاب حسن الأمين عن صلاح الدين وهو بعنوان "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين" ويعتبره القنبلة الكبرى التي أسست لروح العداء لصلاح الدين في الثقافة الشيعية المعاصرة. لدرجة ان الأمين اتهم صلاح الدين بانه عميل للصليبيين وأنه تخلى لهم عن أرض فلسطين حتى أنه اتهمه بالصهيونية والتعاون مع اليهود يوم لم تكن هناك صهيونية. (ومن حسن الأمين استمد بعض الكتاب العراقيين الشيعة مادتهم في ندواتهم التلفزية وكتبهم وكنت قد تصديت لهم في سلسلة مقالات قبل سبع سنين. ع.ل)
* وأخيرا، فربما يتفاجأ بعض القراء حين يعلمون أن الباحث محمد الشنقيطي إسلامي سلفي من حيث التوجه الفكري والأيديولوجي الشخصي وقد يكون محافظا في بعض قناعاته الشخصية الإسلامية في نظر البعض بل قد لا يصدق البعض أن الشنقيطي يدافع عن ابن تيمية ويضعه ضمن سياقه التأريخي الحقيقي ولكنه دفاع نقدي هو الآخر ويعتبره مختطفا خضع فكره لتحريف وتوظيف ليس منه. ويمكن لنا أن نحسب موقفه من ابن تيمية على ملاك الإنصاف والحياد المحمودين للمؤرخ الموضوعي، وليس على حساب الأدلجة السلفية، وعلى الرغم من ذلك فربما يمكن اعتبار الشنقيطي - وأنا ممن يعتبرونه - الباحث الإسلامي الأكثر جرأة وموضوعية ودقة في المجال البحثي الأكاديمي، فهو حين يتكلم ويحلل مواضيعه منهجيا، ينسى أو للدقة يتناسى انتماءاته الفكرية والدينية الشخصية ويتذكر أنه مؤرخ وباحث في التأريخ فقط، ليكون أكثر حيادا وتجردا وحرية وجرأة في العمل وقد قالها صراحة حين انتقده البعض لأنه لا يحترم ما جاء في المصادر الإسلامية القديمة فقال "أنا حين أطلع على المصادر القديمة لا أطلع عليها كمقدسات بل كوجهات نظر لبشر مثلنا كانوا يعيشون في سياقهم التأريخي ولهم وجهة نظر".
أو في رده على من شككوا في احترامه للقادة العظام وللصحابة فقال "القادة العظام على الرأس والعين ولكن هناك مبادئ وهناك أشخاص قادة، لأن قراءة التأريخ بطريقة قراءة المناقب ليست طريقة تأريخية، وإذا فعل ذلك واعظ على منبره أو كاتب صحافي فليس ذلك مقبولا ممن درس التأريخ وبذل فيه جهدا. أنا ضد تقديس التأريخ. وحتى تأريخ الصحابة ففيه جوانب مشرقة وأخرى معتمة. وأنا أرى أن قدسية المبادئ فوق قدسية الأشخاص، لأن الأشخاص يحاكَمون بالمبادئ أما المبادئ فلا تحاكَم بهم".
وأعتقد أن جوهر هذه المقولة للباحث الموريتاني الشاب قريبة جدا من فحوى المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب والتي تقول في إحدى صيغها: "الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله". وتلك كانت خاتمة موفقة وذكية لكلام المتحدث.
***
علاء اللامي
........................
1- رابط يحيل إلى الفيديو موضوع الحديث:
https://www.youtube.com/watch?v=eE9pufjrgFA
2- رابط آخر لجلسة أخرى للشنقيطي مع مجموعة من الحضور حول موضوع أطروحته للدكتوراة "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" وهي من تاريخ لاحق للندوة السابقة (بعدها بأربع سنوات) وفيها يتراجع الشنقيطي بعض الشيء عن الموضوعية التي يعتمدها فيصرح ببعض الاستشرافات المرتجلة ومنها توقعاته بتراجع التشييع بسبب الأداء السيء كما قال للشيعة. وهذا الاستشراف يناقض الواقع إذْ أن العكس هو الصحيح فالأداء السيء للدول السنية العربية التي بدأت بالتطبيع مع العدو الصهيوني أو أنها نفضت يديها من القضية الفلسطينية وعقدت خمس دول منها معاهدات سلام معه، فيما تقود إيران الشيعية محورا مقاتلا لمقاومة العدوان الغربي الصهيوني وهذا الواقع هو ما سوف يسمح للتشيع السياسي والشعبي بالتقدم والانتشار على الأرجح مع أن الأمل يبقى في النأي عن هذه الأطروحات ذات النزعة التقسيمية الطائفية لمصلحة خطاب ديموقراطي شعبي مقاوم:
https://www.youtube.com/watch?v=9wLYOqP6t90