قضايا
فاضل حسن شريف: حكمة الحاكم في القرآن الكريم (2)
الحاكم صاحب الحكمة مطلوب منه صد المظالم لحماية شعبه كما جاء في قوله تعالى " إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (البقرة 246). لذلك فإن السكوت عن المعتدين مرفوض. ولهذا السبب فان الرسل والملوك بعثوا لحماية المجتمع من الظلم. والحكام الظالمون البعيدون عن الحكمة لهم نهاية مغزية، فهذا نمرود انهته بعوضة وفرعون الطاغية بعصا وغرق. وبسبب قتل داوود عليه السلام للظالم جالوت "وقتل دَاوُدَ جَالُوت وءاته الملك" (البقرة 251) فإن الله تعالى أعطاه الملك والنبوة والحكمة وجعل ابنه سليمان عليه السلام ملكا.
الحكم كمصطلح مشتق من الحكمة، لذلك فإن الحاكم القاضي عليه ان يتصف بالحكمة والا فإنه لا يسمى حاكما. والحكمة ذكرت في ايات عديدة منها "وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 151) وهذا يعني ان القاضي الحاكم عليه ان يتعلم الحكمة. فالقاضي بدون حكمة تصبح قراراته تحوي شيئا من الظلم لأن الحكمة عكس الظلم. ومن محاكم الأنبياء محكمة النبي ابراهيم عليه السلام الذي ترأسها الحاكم نمرود نفسه مع لجنة من قضاته الظالمين الذين لم يتصفوا بالحكمة. والدليل على ظلم المحكمة ان قرار الحكم كان سريعا بحرقه في أكبر محرقة، ولكن الله تعالى كان لهم بالمرصاد "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً" (الطارق 15-16) بان جعل النار بردا وسلاما "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ" (الانبياء 69).
ومصطلح المحكم او التام مصدره من الحكم فعلى القاضي ان يكون حكمه تام لا ريبة او شبهة فيه لان المحكم عكس المتشابه "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" (ال عمران 7) وعن تفسير هذه الاية قال الامام الصادق عليه السلام (المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جهله) وبتعبير اخر ان على الحاكم القاضي ان يدرس الامر او الشكوى بامعان ويصدر قراره بحكمة حتى لا يظلم احد. والقاضي وقت المحكمة ان لا يكون في غضب حيث قال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا يَقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان). وقد ذكرت المصادر ان الغضب له مقاصد مختلفة فلا يجوز للقاضي أن ينظر في القضاء، أو يجلس إليه، وهو في حالة من الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وشدة النعاس، والهم والغم، والحزن والفرح.
والإسلام دين فيه مبدأ الدفاع وليس الاعتداء، فالبداية مع العدو تكون كما قال الله تعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125) و " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة 83) حيث تتطلب الرحمة وعدم الغلظة "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (ال عمران 159) وإذا لم يردعهم عفوك فاعزم وتوكل على الله. ولكن بعد مقدمات التعامل الحسن وعند استمرار الاعداء بغيهم فإن الله تعالى طلب من رسوله التعامل بقسوة وشدة مع هؤلاء الأعداء "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ " (التوبة 73) ولا يمكن تطبيق الآية فيهم "عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ" (المائدة 95). ولا يلدغ المؤمن مرتين
عن المجتمع الإنساني في القرآن الكريم للسيد محمد باقر الحكيم: إن الله سبحانه وتعالى أخبر الملائكة بالقرار الإلهي، في أن يجعل في الأرض خليفة عنه يودع في فطرته (الإرادة المطلقة) التي تجعله قادراً على التصرف، حسب قدراته ومعلوماته التي لا يـمكن أن تصل إلى مرتبة الكمال. وعـلى أسـاس هذه الإرادة المطلقة، وهذا العلم الناقص، عرف الملائكة أن هذا الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الأرض، لأن ذلك نتيجة طبيعية لما يتمتع به مـن إرادة مطلقة يسير بها حسب علمه الذي لا يحيط بجميع جوانب المصالح والمـنافع، الأمـر الذي قد يوجه الإرادة إلى خلاف الحكمة والمصلحة، فيقع في الفساد. وحين عرف الملائكة ذلك، تعجبوا من خلافة هذا النوع من الخـلق الذي يسفك الدماء ويـفسد في الأرض لله تعالى، فسألوا الله سبحانه (عن طريق النطق، أو الحال، أو غير ذلك) أن يتفضل عليهم بإعلامهم عن ذلك وبيان الحكمة لهم. وكان الجواب لهم على ذلك، هو بيان وجوب الخضوع والتسليم، لمـن هـو بـكل شيء عليم، لأن هذا هو موقف جميع المخلوقات تجاهه، لأنه العالم المحيط بـكل المصالح والحكم. على أن هذا النوع من الخضوع والتسليم الذي ينشأ من معرفة الملائكة بإحاطة الله بكل شـيء، قـد لا يـذهب الحيرة ولا يزيل الاضطراب، وإنّما تسكن النفس بإظهار الحكمة والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حـصل مـنه تـعجب الملائكة. ولذلك تفضل الله سبحانه على الملائكة، بأن أوضح لهم السر، وأكمل علمهم ببيان الحكمة في هـذا الخـلق، فأودع في نفس آدم وفطرته (علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين) الأمر الذي جعل لآدم امـتيازاً خـاصاً استحق به الخلافة عن الله في الأرض.
والقضاء على الحكام الطواغيت في القرآن الكريم اعتبرها الله تعالى آيات "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ" (البقرة 252) و (الجاثية 6). كل ذلك لان هؤلاء الحكام لم يتبعوا الحكمة لانهم لم يعطوا الحق للمستحقين ولم يحكموا بين الناس بالعدل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل 90). وعلى الرعية ايضا ان يتبعوا الحكمة وذلك بمساعدة الحاكم العادل والا فان الله يسلط عليهم غضبه كما حصل لقوم موسى كونه عليه السلام بمثابة الراعي الحاكم لهم بعد ان اعطاهم الملك ونجاهم من فرعون وجعل لهم الارض المقدسة ملكا لهم ولكنهم رفضو مجابهة الجبارين "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" (المائدة 21-22).
***
د. فاضل حسن شريف