قضايا

حاتم حميد محسن: هل يمكن ان يساعدنا الشعر في التعامل مع العلم؟

في سيرته الذاتية الشعرية (المقدمة،1799)، يصف الشاعر البريطاني وليم وردزورث William Wordsworth حلماً رأى فيه فارسا عربيا يمتطي جواده بسرعة كبيرة حاملا حجرا و درعا. الحجر مثّل العقل والعلم، بينما الدرع يرمز الى الشعر والإلهام. كلاهما كانا في خطر شديد، ومن الواضح ان وردزورث منح قيمة عليا متساوية لكل منهما.
من الصعب تقدير ما اذا كان خطر هاتين القيمتين ازداد أم تناقص منذ ايام وردزورث (1770-1850)، لكن يبدو من الواضح ان العقل والعلم حصلا باستمرار على المكانة الراقية على حساب الشعر والخيال. هذا الموقف اكتسب قوة أكبر بفعل عاملي الوضعية والإختزالية، بصيغتهما "هذا هو ذلك فقط". طبقا للاختزالية، البايولوجي في النهاية يُختزل الى الكيمياء، والكيمياء تُختزل الى الفيزياء، وفي نفس المنحى، الشعر ربما يُختزل الى البايولوجي. لكن المعركة لازالت مستمرة.
في كتابها الشهير (قصص دارون: السرد التطوري،2009 جورج اليوت ورواية القرن التاسع عشر) تقارن الكاتبة واستاذة الادب جيليان بيرGillian Beer تلاميذ العقل مع مخلوقات اكثر قدرة على التخيّل. تطرح بير ادّعاء فرويد بان "النرجسية الكونية للرجال، وحبهم للذات،عانت حتى الان من ثلاث ضربات عنيفة من بحوث العلم (الصعوبة في مسار التحليل النفسي، 1953). هذه الضربات حسب ترتيبها الزمني هي : الثورة الكوبرنيكية التي اسقطت مركزية الارض، الجدال الداروني بان "الانسان ليس كائنا مختلفا او متفوقا على الحيوانات"، وثالثا، ادّعاء فرويد بان "الايغو ليس سيدا في بيته" طالما نحن نتصرف بحوافز لاواعية. هذه الضربات لإحساس الانسانية بالخصوصية،ترابطت كخطوات متتابعة قدماً للذهن العقلاني.
هل ان هذه "الثورات" في هوية الانسان التي تبدو أخف في تعاقبها هي دليل على تكيّف الانسان؟وكما بالنسبة للاولى، ربما العديد يشعرون بالفرح في اننا لسنا عالقين في كون ما قبل كوبرنيكوس الصغير نسبيا محاطين بكرات بلورية متحدة المركز بجحيم مشتعل بعيدا عنا .
من الواضح ان الثورة الدارونية عبر الانتخاب الطبيعي كانت فكرة صعبة القبول من جانب اكثرية الناس. تكتب بير عن "القشعريرة المادية" العميقة للعديد من الفيكتوريين الذين شعروا بها من تصوّر العلاقات الجديدة بين الناس والحيوانات – شعور غريزي بالتهديد من جانب البدائي واللاعقلاني في السيطرة على الانسانية الرشيدة. يرى البعض ان التهديد الحقيقي هنا هو للنموذج الأصلي الطبيعي لـ "الاختلاف البشري" – وهي الفكرة التي بدونها لا يستطيع الذهن البشري، بكل اصنافه الاجتماعية، من العمل ابدا. اذا تم انكار الشعور القوي بالاختلافات بين الانسانية وبقية العالم، فان الاضطراب الذهني والعاطفي والارباك والجنون سوف يكون هو السائد . حاليا – تقريبا 165 سنة بعد كتاب اصل الانواع الذي نُشر عام 1859 – العديد من الناس يشعرون بالرفعة بدلا من الانحطاط بسبب قرابتنا بالوحوش، وبكل الاشياء العضوية وغير العضوية. لكن ربما التباينات في صورة شخص ما عن العالم، بما في ذلك اختلافه هو عن الاخرين، هي ضرورية للذهن للاحتفاظ بإحساسه بالهوية؟ اذا كان الأمر كذلك، أين نؤسس الآن إحساسنا بالاختلاف؟
البعض يسقطون الاختلاف وبشكل ضار وغير مستديم على العرق او الثقافة او الجنس. و بنفس التحفيز الاساسي، العديد من النقاد يطالبون وبشدة ان الفن يجب ان يكون مزعجا ومواجها، ويدفعنا دائما الى اعادة ترتيب جذرية لأفكارنا.
كانت هناك ايضا جوانب اخرى صعبة لنظريات دارون. مقدمة خطاب وليم هيرشل William Herschel حول دراسة الفلسفة الطبيعية (1831) "أثارت حماسا شديدا في الشاب تشارلس دارون اضافت الكثير من المساهمات المتواضعة لهيكل العلوم الطبيعية" . مع ذلك، وصف هيرشل لاحقا ثورة دارون بـ "قانون الاضطراب والتشويش"، لأن كل شيء بدا يحدث بشكل مجزأ وعشوائي. كذلك، وكما يقول هكسلي T.H.Huxley،"اذا لم يكن هناك انقطاع ولا خرق في استمرارية السببية الطبيعية"، هل نستطيع كجزء من الطبيعة الحفاظ على معنى الحرية والاختيار الذي تعتمد عليه انسانيتنا؟ (حاليا، ربما هناك طرقا، مثل نظرية الأنظمة العامة، قادرة على انتشالنا من فخ الحتمية، عبر بيان مثلا ان الكون يمكن ان يتكشف بطرق غير متوقعة كثيرا، يرمي حقائق جديدة نحن جزءاً منها و يمكن ان نساهم بها بشكل واع وخلاق).
وفق المنظور المادي الخالص او الطبيعي الذي صاغه دارون،فان كل الأحكام الاخلاقية والجمالية هي وهمية، او في أفضل الاحوال، هي ذاتية فقط. اذا كان كل شيء يعمله الفرد طبيعي (لأنه لا يوجد شيء آخر يكون عليه)، لماذا نستمر بالكفاح ضد اللاعدالة، او نحاول "إنقاذ" المحيط الحيوي؟ مرة اخرى، يبدو ان الاختلافات تذوب في ظلمة رمادية حزينة ويأس معاد للانسانية.
وبالرغم من هذا، وربما جزئيا عبر تجاهل المضامين، استمر الناس بعمل التمايزات والاختيارات مدعومين ومحرّضين من جانب الطبيعة الخلاقة للّغة. الذهن البشري ككل نجا من ثورات العلم عبر الحكايات، والشعر،والتحيزات و ايجاد معنى الجمال. فمثلا، جون ستيوارت مل لجأ الى وردزورث لإنقاذه من الإنهيار العصبي الناجم عن الفراغ والكآبة في الفلسفة المادية.
يجدر الانتباه الى اسلوب فرويد الذكوري في التعبير عن وصف الثورات العلمية الثلاث بالحركات. افتراضه ان الايغو يجب ان يكون "سيدا في بيته" هو ابوي في العبارة، واشارة فرويد لنرجسية الرجل تبدو متأسسة على سيطرة الذكر الاجتماعية بدلا من ان تكون فكرة انسانية شاملة. بدلا من رؤية التحليل النفسي كفارس لإستعمار الظلام، نحن يمكننا التفكير في العقل المتجسد المستكشف لكلا الجنسين باعتباره يخلق روابطا جديدة بين الظلام والنور، العقلاني والعفوي. هذا يقودنا الى تصور الانسانية كافراد يتفاعلون بنوايا طيبة وآمال واهتمام بالملاحظات، لكن لانزال لا نتوقع ابدا معرفة المعنى التام لما يفعلون. لا توجد هناك طريقة بان الضوء العقلاني سيمتد الى كل ما حولنا، لذا يتعين الوثوق بالظلام المتبقي. بهذا الفهم،نستطيع مثلا، نؤكد القرابة مع الحيوانات التي سوف من المحتمل تبقى دائما محيرة. لاحاجة هناك لاحتضان الافاعي والنمور او الذئاب، لكن لاحاجة لايذائهم بدون سبب كاف.
في نفس الوقت هناك الحس الشعري والمرمم في ان هناك نسيج واحد للوجود: نسيج متعدد الالوان ومزخرف بشكل معقد يتضمن كل من العضوي واللاعضوي. دارون ترك بعمق بصمة من القرابة البايولوجية على الذهن الحديث، وعلم الكون الذي يشتق مكونات اجسامنا من النجوم القديمة يدفع الترابط بعيدا. لكن خيال وردزورث كان هناك سلفا عندما ننظر في مقطع مبكر حيث يكتب "قلب يهتز الى الابد، مستيقظ/ للشعور بكل الاشكال التي يمكن ان تتخذها الحياة/ ذلك الاتساع لايزال تعاطفه يمتد/ ولايرى أي خط ينتهي عنده الوجود"(مشية في المساء،1793).
ان أكبر تهديد لهذا الإحساس بكمال الوحدة ربما لايكون في النهاية أي شيء فلسفي، وانما وجود الألم الذي لايمكن توضيحه، الى جانب الحكم بان هذا الألم عظيم ايضا ومدمر،لايمكن تحمّله من جانب الكائن البشري الضعيف. نحن (ربما) نبقى منقسمين في ثنائية عاطفية لا يمكنها ابداً ان تحوّل بشكل دائم وروتيني اللامقبول الى ايجاب. دارون الذي هو ذاته عانى جدا من موت بنته الشابة بسبب المرض، مع ذلك كتب "طبقا لتقديري، السعادة تسود حتما بين الكائنات الحية، مع ذلك هذا سيكون من الصعب اثباته ... بعض الاعتبارات الاخرى،تقود الى الايمان بان كل الكائنات الحية ،كقاعدة عامة،تكونت لتتمتع بالسعادة" (السيرة الذاتية،1876). وردزورث ايضا واجه خسارة وحزن – خاص به وبالناس الآخرين – وهذا بالنسبة له اصبح جزءاً مما نستمع من "موسيقى الانسانية الحزينة والبطيئة"،والتي تبقى مسلية بشكل محير.
كتب دارون ايضا في سيرته الذاتية "الصعوبة الفائقة او استحالة تصوّرهذا الكون الهائل والمدهش، المتضمن الانسان بقدرته في النظر بعيدا الى الوراء وبعيدا نحو المستقبل، كنتيجة للحظ الأعمى او الضرورة. عندما افكر بهذا انا اشعر مكرها للنظر الى ان السبب الاول يمتلك ذهنا ذكيا بدرجة ما مشابه لما لدى الانسان، وانا استحق ان يُطلق علي مؤمنا". مع ذلك، وبصدق تام، هو يستمر لإضعاف هذا الاستنتاج بالسؤال،"هل عقل الانسان الذي،كما اعتقد، تطور من ذهن متدن كالذي تمتلكه ادنى الحيوانات، يمكن الوثوق به عندما يُطرح هكذا استنتاج عظيم؟". هو يقرر انه ليس بسبب ما يبدو من الإزدراء الدائم لعقول الغوريلا – ولهذا يقول، "انا يجب ان اكون راضيا بالبقاء لاادريا". هذا هو استنتاج دارون المتواضع. هناك جو من الشعور الكئيب في قبوله. في وردزورث نجد ادّعاء للحقيقة اكثر شمولا وإلهاما لكنه نسخة شعرية و غير دوغمائية. بالنسبة لوردزورث، الطبيعة كانت روحا تشكيلية "في عملها المظلم واللامرئي توفق بين العناصر المتنافرة".
الطبيعة المُجسدة على شكل "هي" توفر ارشادا – شيئا ما لطيفا، احيانا شرسا، لكنه دائما يضيف الى الإحساس بالمعنى، يدمج بين الفخامة والمتعة العميقة في الكون. هذه التجربة من الشعر لا تساعد في عمل ادّعاءات الحقيقة التي، بالطبع، يقترب منها الناس بوجهات نظر مختلفة هم احرار في انكارها.
وردزورث اعترف بان ما أسماه "فلسفة القرود" من المرجح ان تهاجم الشعراء واصحاب الرؤى بمثل هذه المصطلحات المهينة مثل المحتالين والمتطفلين والمتخلفين عقليا. لكننا تُركنا مع بدائل مفهومة يمكن ان نسلط عليها الضوء بشكل حاد. من هذه، استنتاج وردزورث هو بالتأكيد معقول ومحبط في آن واحد. لذا مع كل الاحترام الواجب لعالم عظيم مثل دارون، لايزال يريد إنقاذ كل من الحجر والدرع من كارثة ثقافية، يمكن القول ان وردزورث هو أفضل مرشد ومثال للحياة الانسانية.
***
حاتم حميد محسن
....................
Wordsworth&Darwin, philosophy Now Feb/Mar 2025

 

في المثقف اليوم