قضايا

عدي عدنان البلداوي: عصر التقنية الرقمية وانثروبولوجيا ثقافة التغيير

من معوقات تكوين وتمكين أي مشروع ثقافي لإنسنة الوجود البشري في المجتمع العربي المعاصر، هو ان العاطفة في الشخصية العربية هي التي تهيئ للعقل أجواء التفكير، وهي ذاتها التي تكتب القرار العقلي بعد تهدئة الإنفعال ودخول مرحلة الموضوعية.
والموضوعية مادة غير متوفرة بما يكفي في نظام العلاقات الإجتماعية، عدا نفر من العقلاء الذين لا يشكلون سوى نسبة بسيطة في مجتمع تُعرض عليه يومياً أنواع السلع والأفكار والخدمات والثقافات، بحيث لا يسع الإنسان الإعتيادي ان يتعامل مع هذه العروض بغير العاطفة والإعتقاد الذي يتولد عنده جرّاء تعامله مع هذه الفكرة، وإستخدامه لتلك السلعة.
فهل الوعي العاطفي مجرد تجربة ذاتية؟
وفي عصر التقنية الرقمية، هل يهمنا ما إذا كانت المشاعر التي نتبادلها مع بعضنا حقيقية أم هي مجرد محاكاة؟
هل يمكن هندسة الوعي العاطفي رقمياً بطريقة تجعل الناس يتفاعلون معه كما لو كان حقيقياً؟
قد يكون هناك مشروع لأتمتة المشاعر، وقد ينجح هذا المشروع في المستقبل، ليس لأن الآلة لها مشاعر بل لأن الإنسان المعاصر، الواقع تحت ضغوط الحياة اليومية المادية الصعبة، سيكون أكثر إستعداداً لقبول وهم الآلة العاطفية.
في ضوء ذلك، هل ستصبح الآلة الرقمية جزءاً من التجربة العاطفية اليومية للإنسان في زمان يعلو فيه صوت التفاهة؟
يحتاج كل إنسان في علاقته بمحيطه الإجتماعي وفي علاقته بالسلطة الحاكمة الى الشعور بالأمان والشعور بإحترام الذات. في حال عدم إستقرار هذين الشعورين تحديداً لأسباب يرتبط معظمها بسياسة السلطة الحاكمة وبنظامها الإداري، فإن الثقافة تواجه مشكلة كبيرة جداً تتمثل في مدى قدرتها على تهيئة أجواء مناسبة لنمو هذين الشعورين عند كل شخص. يكمن حجم المشكلة الكبير في ان الحكومات لا تنظر الى هذه الحاجة عند المواطن من موقع المسؤولية والحكمة بقدر ما تنظر اليها من موقع السيطرة والتحكم، فهي تفرض العقوبات على من يهدد الأمن، وتعاقب من يسيء إحترام الآخر. في مثل هكذا جو لا تنمو ثقافة طبيعية في المجتمع، لكن قد تنمو طباع جديدة وعادات جديدة وبالتالي تظهر جراء ذلك ثقافة جديدة، يأتي ضررها في إحتمالية أنها لا تحفز على نمو وتكوين الشخصية ومداراتها من الناحية النفسية بقدر ما تحفز على تقبل الوضع الراهن، في هذا الجو من تقبل الواقع تظهر مشاريع تستثمر حاجة المواطن الى تحقيق هذين الشعورين، فنسمع عن أجندات ثقافية لحركات ومنظمات سياسية تروج لنفسها إعلامياً وتركب موجة المشاعر الجماهيرية للوصول الى شواطئها الخاصة التي كثيراً ما تكون بعيدة عن مسار طبيعة المجتمع، فتظهر نتيجة ذلك حالة من عدم الرضا عند الناس ينجم عنها فقدانهم الشعور بالأمان وبالتالي إفتقادهم الى الشعور بإحترام الذات، وهنا تصبح ميول الناس أقرب الى الدين كونه قوة فاعلة تراعي هذين الشعورين، أما الثقافة فإنها لم تفلح لحد الآن في أن تكون قوة بموازاة قوة الدين وقوة السياسة.
لعل ما يفسر عدم ظهور الثقافة كقوة حاضرة الى جانب حضور قوة السياسة وقوة الدين في المجتمع العربي، هو ان الثقافة لم تنجح لحد الآن في إكتشاف الطريقة الأقرب الى تفاعل الجماهير وتحريكهم في إتجاه وعي واقعهم وإثارة حسهم المسؤول في النهوض بهذا الواقع. من ذلك مثلاً ان التظاهرات والإحتجاجات الشعبية كثيراً ما تنطبع بطابع تقليدي مرتبط بالحاجات الخدمية أكثر من إرتباطها بالحاجات الثقافية. بمرور الوقت تمكنت قوة السياسة من إحتواء مضامين تلك الإحتجاجات والتظاهرات، إذ لم تعد التظاهرات قادرة على تغيير الواقع السيء. هذا من الناحية الميدانية في علاقة الناس بالسلطة الحاكمة، أما من ناحية علاقة الناس ببعضهم
فإن منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا لم تعد مطلقة كما في السابق. فهي اليوم نسبية في ظل نظام عالمي يسلّع كل شيء. هنا تكمن معاناة المجتمعات العربية المعاصرة، لأنها لا تزال تنظر الى القيم والأخلاق نظرة مطلقة، بينما تضطرهم تفاصيل الحياة اليومية الى إعتماد نسبيتها.
بالنظرة الأفقية للتفكير البشري في عصر الآلة، فإن التسليع ماضٍ، وهو يتطور الى الحد الذي يتدهور فيه الإنسان تماماً. عندها ستصبح الآلة الرقمية صديقة له، بل لعله يستبدل بها أصحابه ومقربيه في جو المعنى الرقمي للصداقة الذي تشيعه المواقع الالكترونية للتواصل الإجتماعي.
وسيستمر النظام العالمي في تسليع كل شيء الى ان يتحول الإنسان الى مستهلك ( بكسر اللام) ومستهلك ( بفتح اللام) في آن واحد، بحيث تتآكل العلاقات الإنسانية النقية ، عندها ستكون الآلة بديلاً أكثر مقبولية. وسيصبح طرد عائلة فقيرة لا تملك سكناً في وطنها بسبب فقرها المدقع، من منزل شيدته على ارض تعود ملكيتها لإحدى مؤسسات الدولة، إجراءً قانونياً سليماً تنفذه قوة عسكرية أمام صراخ وبكاء النساء والأطفال دون تقديم بديلٍ عاجل وآمن لهم.
مما يعرقل دور الثقافة العربية المعاصرة في تنقية الجو الإجتماعي، هو تلوث الجو العام لمناخ العالم العربي سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، وهو ما يضطر أبناء المجتمع الواحد الى التأثر بهذا الجو الملوث، هذا يعني ان الجو الثقافي الذي نعيشه اليوم ليس نقياً وصافياً بالقدر الكافي الذي يسمح للناس بأن يتنفسوا ما يملأ صدورهم فهماً وعلماً ووعياً وثقافة. إن أكثر ما يلوث الجو العام لأي مجتمع هو التضارب والتصارع بين أفراده على المكاسب والمناصب وتركهم السعي وراء النضج العقلي والنضج النفسي والعدالة الإجتماعية.
لعلي لا ابدو متشائماً اذا ما ذهبت الى إن تحقيق النضج العقلي والنضج النفسي في أيامنا هذه قد لا يجعل من مهمة الثقافة المعاصرة في تحديث الواقع وتصحيح أخطائه مهمة ميسرة، ذلك لأن قوة المال اليوم تفرض حضورها وقدرتها على إصطناع ثقافة من شأنها أن تبتلع مفهوم الإنسانية بإجراءات قانونية تنفذها قوة المال بغطاء سياسي وبمزاجية رسمية.
تواجه الثقافة العربية المعاصرة محنة شديدة ترتبط بجوهر عملها الإنساني، فماذا تستطيع فعله أمام قوة العصر الجديدة وهي المال المتنفذ الذي بات يشتري كل شيء، ويقدم عروضاً مغرية لمن يبيع إنسانيته وضميره وذمته وأخلاقه ودينه. يبدو من خلال واقع حال المجتمعات العربية ان دور الثقافة المعاصرة دور معقد للغاية، لأن الإيمان بقدرة العقل البشري على التطوير ، بات يرافقه شك في سلامة التفكير في ما يتعلق بتزكية هذه الجهود، هل إنها تصب في صالح إنسانية الإنسان، وانها لا تمضي به الى عالم الأشياء الذي يتساوى فيه الكائن الحي مع الموجودات والأجهزة الآلية والرقمية.
***
د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم