قضايا

صائب المختار: من هو رجل الدين (1)

قال صاحبي وهو يحاورني: لقد سئمنا من رجال الدين المنافقين والكذّابين، يعظون الناس بالعمل الصالح وينهون عن فعل المنكر وهم يمارسون الرذيلة وسيء الاعمال.

قلت وأنا أحاوره: لا يا صديقي، ليست هذه هي الصورة الحقيقية لرجال الدين، فأكثر رجال الدين هم من الصالحين والقليل منهم هم الطالحين، وأكثرهم من الأخيار والقليل منهم من الأشرار. الكل يعرف رجال الدين أمثال محمد عبده ومحمود شلتوت، ومحمود شكري الألوسي والشيخ وليد الأعظمي، ومحمد باقر الصدر ومحسن الحكيم والعلامة الشيخ الوائلي وكثيرون غيرهم من المعروفين بعلمهم واخلاقهم ونزاهتهم، والكل يسمع لهم ويقتدي بهم. وإن كان هناك رجال دين فاسدين فهم قلة، لا يسمع لهم أكثر الناس ولا يعرفهم أكثر الناس، وليس لهم تأثير على الناس والمجتمع. إنما هي فكرة خاطئة وصورة مشوّهه عن رجال الدين في مجتمعاتنا، مدسوسة من قبل مغرضين وصَدّقها الناس وأصبحت فكرة متداولة.

كيف نُعرّف رجل الدين؟

في الثقافة والفكر العربي، وصف رجل الدين بأوصاف ازدراءيه معيبة، مثل وعاض السلاطين، متخلفين، ينشرون الخرافات والأساطير، وأنهم السبب المباشر والعائق لتطور ونهضة الفكر والثقافة في المجتمع العربي. هذه هي الصورة السائدة حالياً في عقول افراد المجتمع العربي. فهل هذه هي حقاً الصورة التي تعكس صفة وحال رجل الدين في مجتمعنا الحاضر؟ للإجابة على هذا التساؤل ينبغي أولاً أن نَعرِف من هو رجل الدين. ما هو تَعرّيف رجل الدين في الإسلام؟ ما هي مواصفات رجل الدين؟ هل هو كل من له معرفة واطلاع واسع بعلوم الدين والشريعة (خريج الازهر أو الحوزة العلمية)؟ أم هو من يؤم المصلين اثناء الصلاة في الجامع أو أي موقف آخر؟ هل يعتبر مؤذن الجامع أو قارئ القرآن (عبد الباسط) أو مفسّر القرآن (سيد قطب) رجل دين؟ أو هو كل من لبس العمامة والعباية؟ كما يبدو، ليس هناك صورة واضحة في افكارنا لرجل الدين، وليس هناك تعريف واحد متفق عليه من قبل المؤسسات الثقافية أو الدينية أو السلطة المدنية والإدارية، ولا من افراد المجتمع.

كيف دخل مصطلح رجل الدين في ثقافتنا، وكيف ولماذا انتشر؟ وهل هناك أصلاً منصب رجل دين في الإسلام؟

لمحة تاريخية لمنصب رجل الدين

في العصور الغابرة وفي حضارات بلاد الرافدين والفرعونية واليونانية، كان البشر يصنفون إلى طبقات اجتماعية، مثل طبقة المحاربين وطبقة رجال الدين وطبقة الرعاع وغيرهم من الطبقات. كان لرجل الدين في تلك العهود منزلة رفيعة، مقدسة ومحترمة، لأنه يمثل حلقة الوصل بين العابد والمعبود. وبذلك، فإن منصب رجل الدين في الحضارات القديمة موجود ومعروف. له زيّه الخاص، وله دور واضح في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وأنه مفوّض من قبل الآلهة لأداء هذه المهام.

وفي الديانة المسيحية: فإن رجل الدين معروف، ويوصف بمواصفات خاصة يكتسبها من انتسابه للكنيسة. فكل من ينتسب إلى الكنيسة هو رجل دين (ويسمى بالإكليروس)، ومن لم ينتسب إلى الكنيسة فهو من عامة الشعب وليس رجل دين. ورجال الدين في الكنيسة لهم لباسهم الخاص، ولهم رتب خاصة بهم كالرهبان والقساوسة والشماسين والمطارنة والاساقف. كل رتبة من هذه الرتب لها امتيازاتها وواجباتها في عبادات وتعاليم الدين وأداء الطقوس الدينية والواجبات الشرعية وغيرها. إن الطقوس والشعائر الدينية في الديانة المسيحية يجب أن تؤدى في الكنيسة، ويقوم بها رجال الدين (القساوسة والرهبان)، ويتوجب على الناس الذهاب إلى الكنيسة لأداء العبادات. ولذلك، فإن منصب رجل الدين في الديانة المسيحية موجود ومعروف. له دور واضح في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وأنه مفوّض لأداء هذه المهام.

ونستنتج من هذا: أن منصب رجل الدين، في العهود قبل الإسلامية، معروف وموصوف ومحترم، وله مهام دينية معروفة ومحددة.

لكن ماذا عن الديانة الإسلامية، هل هناك طبقة خاصة من الناس يطلق عليهم لقب رجل الدين؟

دور رجل الدين في الاسلام

في بدء الرسالة السماوية، وفي عصر النبوة، كان النبي (ص) أعلم المسلمين بالشريعة الإسلامية واصولها وعباداتها. كان يُعلّم المسلمين كل ما يحتاجونه من أمور الدين والدنيا. لم تكن هناك حاجة لوجود رجل دين آخر ليعلم الناس أمور دينهم. كان كل مسلم في المجتمع الإسلامي بمثابة رجل دين، يعرف أصول دينه ويؤدي العبادات، ولا حاجة لأن يكون عالِماً ومتبحّراً في علوم الدين، وذلك بسبب وجود النبي (ص) بينهم. والمسلم لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الخالق (وإذَا سَألَك عبادي عَنّي فَإنّي قَريبٌ أجِيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إذا دَعَانِ). ولذلك، لم يكن هناك وجود لرجل الدين في عصر النبوة.

بقي الحال كذلك في فترة الخلفاء الراشدين. إذ كان الخلفاء الراشدين أيضاً أعلم الناس بأمور دينهم ولم يحتاجوا لرجل دين آخر يُفَقههم في الدين أو يكون وسيطاً بينهم وبين خالقهم. وبعد، فهذه أول خمسين سنة من عمر الإسلام، وهي فترة الإسلام النقي الخالص والصحيح، كان كل من فيها يعلم ما ينبغي عليه في أمور دينه، ويعمل بها، ولا وجود لشخص يسمى رجل دين، ولا منصب رجل دين، لأن كل مسلم فيها يعرف أصول دينه بما ينبغي عليه أن يعرفه.

ثم جاء عصر الدولة الاموية والعباسية والاندلسية حيث ابتعد الناس فيها عن الدين وانصرفوا لشؤون الدنيا، ودخل الإسلام الأعاجم (غير العرب)، فظهرت الحاجة لمن يُعلّمهم أصول الدين والشريعة، فتفرغ أناس من المسلمين لدراسة علوم الدين، فظهر الفقهاء والمفسرين وعلماء الحديث والكلام. ولم تُسمّى هذه الفئة برجال الدين بل بالفقهاء أو المفسرين أو المحدثين أو العلماء، ذلك أن كل مسلم هو في حقيقته رجل دين يعرف أصول دينه، وقد يحتاج إلى بعض الاستشارات من علماء الدين والفقهاء.

وفي فترة الحكم العثماني أيضاً، لم يكن هناك منصب واضح لرجال الدين. فالمجتمعات العربية كانت عبارة عن مدن وقرى صغيرة متخلفة، فيها جامع يرتاده الناس يوميا للصلاة، ويديره إمام الجامع، وهو مزكّى من قبل الناس كونه مؤهل لهذا المنصب، ويكون بمثابة المرجع الديني لهم. ولا يسمى رجل دين إنما هو الامام أو الشيخ. يُذكر أن السلطان سليمان القانوني استحدث منصب مفتي الإسلام (أو شيخ الإسلام) ليكون مستشاراً دينياً له ولعموم السلطنة.

من كل هذا يمكن أن نستنتج أن: لا وجود لمنصب رجل الدين في التاريخ والتراث الإسلامي، والعربي. وإن مصطلح رجل الدين لم يكن متداولاً ولا معروفاً في الحضارة الإسلامية. إن مثل هؤلاء الرجال يُعرفون بما يؤدونه من خدمات دينية للمجتمع، كأن يسمى، العالِم أو الفقيه أو المحدّث أو الامام أو المفتي وغير ذلك من المسمّيات المعروفة، ولم يستعمل مصطلح رجل الدين ليشمل كل هؤلاء.

فمن أين جاء إذن، مصطلح رجل الدين في ثقافتنا وفكرنا، وما هي صفاته وواجباته؟

هذا ما سنبحثه في الجزء الثاني إن شاء الله.

***

د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم