قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسعة لقصيدة "تَصَوَّر...!"

للشاعرة التونسية أمل صالح.. منهج تحليلي: أسلوبي – نفسي – رمزي – هيرمينوطيقي
في قصيدة "تَصَوَّر...!" تفتح الشاعرة أمل صالح نافذة تأملية على الذات وهي تلامس تخوم النسيان والذاكرة، وتفكك من خلالها جدلية الغياب والحضور، الموت والحياة، من خلال خطاب شعري داخلي تتجلى فيه الأنا المتشظية والباحثة عن معنى لوجودها في ضوء سرد خافت يمر عبر الصور والإيقاع والرمز. تنتمي هذه القصيدة إلى شعر التأمل الوجودي الذاتي، وتحتكم في بنيتها إلى تعددية أسلوبية وتراكيب رمزية كثيفة، ما يتيح قراءتها بعدة مستويات، وهو ما سنسعى إليه من خلال أربعة مداخل تحليلية متشابكة: الأسلوبي، النفسي، الرمزي، والهيرمينوطيقي التأويلي.
المدخل الأسلوبي – البنية الإيقاعية وتكثيف الصورة:
القصيدة تخضع لتشكيل أسلوبي متوازن بين البساطة الظاهرة والعمق الدلالي المضمر، فهي ليست شعر تفعيلة تقليدياً، لكنها تحمل إيقاعاً داخلياً موسيقياً ينبثق من التكرار والتوازي والتنغيم الصوتي الناعم.
يتكرر فعل "تتصوّر" مراراً، مما يشكّل لازمة أسلوبية تنسج فضاءً تكراريًّا وظيفيًّا، وهو تكرار يحمل دلالتين:
1. دعوة للآخر/القارئ إلى المشاركة في الوعي الشعري للذات.
2. محاولة للذات الشعرية لإقناع نفسها بالواقع أو الحلم عبر التخييل المتكرر. تقول الشاعرة أمل صالح:
"هل تتصوَّرُ مِثلي...
أماكنَ كانت مزدحمةً...
وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!"
هذا الاستهلال يُؤسس منذ البداية لعلاقة قائمة على التشظي الحسي والانكسار المعرفي، فالشاعرة تبحث عن مؤازرة شعورية من قارئ مفترض، لكنها في العمق تبحث عن ذاتها، عن صوتها الداخلي الموشوش في زحمة الغياب.
من الناحية الإيقاعية، تستعمل الشاعرة علامات التوقف (...) والتساؤل (!؟) بشكل كثيف، ما يمنح النص توتراً إيقاعياً يشبه التنهيدات، ويعزز من توظيف الصمت كعنصر صوتي ضمن القصيدة، مما يفتح النص على الفراغ الزمني والذهني.
المدخل النفسي – الذات المجروحة والذاكرة المأزومة:
من منظور التحليل النفسي، تتجلى في القصيدة ذات مأزومة تمرّ بحالة من الانسحاب والتفكك الداخلي، ما يشبه المرحلة الفاصلة بين الصدمة وإعادة البناء النفسي. فالقصيدة، في ظاهرها، لا تتحدث فقط عن أماكن أو أشياء، بل عن الانهيار الداخلي للمعنى، تقول:
"الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،
ازدحامٌ كان قد رحل...
هل كان موتًا
ذلك الذي عشته؟
أم بدايةً لحياةٍ...؟!"
هذا التساؤل الكينوني يحمل ثقل تجربة نفسية مريرة، قد تكون فقداناً أو اكتئاباً وجودياً، غير أن اللافت أن الشاعرة أمل صالح لا تمنح أي يقين، بل تترك الباب مفتوحاً على الاحتمالين: الموت كبداية، والحياة كامتداد للموت. إنها إذن تتحدث عن المنطقة الرمادية في الوعي البشري، تلك التي تفصل بين الإدراك والانهيار.
العبارات مثل:
"نسيتُ حتى معنى النسيان"
"أحسستُ باختناقٍ"
"ربما سأعود لنفسي ثانيةً".
تعكس بوضوح مراحل الإنكار ثم الوعي ثم التمني، وهي من مراحل ما بعد الصدمة. فالنص ينمو من حالة الانفصال عن الذات باتجاه رغبة في الترميم النفسي، لكن ذلك مشروط بتدخل "النسيان" كشخصية فاعلة.
المدخل الرمزي – النسيان ككائن، والزمن كخصم:
من أبرز خصائص النص أن الشاعرة أمل صالح تشخص المفاهيم:
النسيان ليس مجرد فعل عقلي، بل كائن حي من لحم ودم، "كان يجب أن يوقفني... أن يحاورني".
الزمن ليس إطاراً محايداً، بل خصم عنيد يتطلب هدنة كي تستعيد الذات تنفسها، تقول:
"يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً..."
الرموز في النص ليست تقليدية بل متحوّلة:
الازدحام رمز للانتماء أو الحياة الاجتماعية التي تلاشت فجأة.
المركب رمز للمسار الجمعي، أو القارب الوجودي الذي غادرته الشاعرة عن وعي.
الوجوه السابحة تشير إلى كثرة العلاقات السطحية، وإلى الغربة في محيط مكتظ لكنه فارغ من المعنى.
كل هذه الرموز تصب في محاولة استرجاع الذات التي غادرت كل شيء لتنجو من كل شيء.
المدخل الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للنص:
وفقًا للمنهج الهيرمينوطيقي الذي يقرأ النصوص بوصفها حلقات في مسار تأويلي لا نهائي، يمكننا أن نفهم القصيدة كمحاولة لإعادة تفسير الذات في علاقتها بالزمن والآخر والنسيان.
القصيدة لا تطرح حقائق بل أسئلة مفتوحة، وتُركّب دلالتها من خلال المعاني المتولّدة باستمرار. في قولهــا:
"رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،
وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي..."
نجد أن الذات لا تبحث عن الحاضر بل عن إمكانية استعادة ما فُقد، كأن القصيدة كلها هي أداة للتخييل العلاجي، أي أن التأمل يصبح وسيلة للشفاء.
الخطاب الموجّه للآخر – الظاهر في "هل تتصور معي" – ليس سوى استبطان للذات، ومحاولة لمحاورة مرآتها، فكل "آخر" هو صورة متخيلة للنفس ذاتها، وبهذا المعنى يمكن أن نقرأ النص كتأويل شعري لحالة "الانقسام الوجودي" ومحاولة رتقه عبر اللغة.
خاتمة:
قصيدة "تَصَوَّر...!" نص شاعري متماسك ينتمي إلى شعر الذات المنكسرة والمتحوّلة، ويكشف عن تجربة شعورية مركّبة تتنقل بين الذاكرة والنسيان، الموت والحياة، الفردانية والانفصال.
بنيته الأسلوبية القائمة على التكرار والصمت، وشحناته النفسية العميقة، والرموز المفتوحة، والمستوى التأويلي الغني، تجعل من هذا النص نموذجاً للشعر الذي يستبطن المعنى بدل أن يصرّح به، ويقود القارئ إلى مجاهل التأمل، لا إلى ضوء المعنى النهائي.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.......................
تَصَوَّر...!
هل تتصوَّرُ مِثلي...
أماكنَ كانت مزدحمةً...
وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!
هل تتصوَّرُ معي...
الزمنَ في عنفوانِه... يفضي
إلى نَسيمٍ لا رائحةَ له؟
الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،
ازدحامٌ كان قد رحل...
هل كان موتًا
ذلك الذي عشته؟
أم بدايةً لحياةٍ...؟!
*
هل تتصوَّرُ معي
أنني نسيتُ حتى معنى النسيان...؟!
لم يُعاتبني،
لم يتفوَّهْ بكلمة...
لم يقلْ لي: لماذا غادرتَ المركب؟
لماذا غادرتَ الوجوهَ السابحةَ
في عوالمَ مكتظّة؟
لأنني أحسستُ باختناقٍ...
كنتُ سأُجيبُه:
النسيان...
لو كان توقّفَ وحاورني...
رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،
وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي...
رُبّما ستعودُ لي الذاكرة...
وأتصوَّر...
يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً...
حتى أتصوَّر...!
***
أمل صالح