قراءات نقدية
أمان السيد: قراءة عاطفية حول رواية "بيت خالتي"
للروائي العراقي أحمد خيري العمري
بيت الخالة، الحضن الدافئ الذي تلبينا رحابه حين لا تحتملنا شجوننا، وتصدّعاتنا.. الخالة التي تضافرت منجباتنا معها الرحم نفسها، فحلّتا وسطا متناغم الأسرار، والهبات، وهنّ في سبيل الانبثاق إلى الوجود.. الأنفاس، الرائحة، الانفعالات، ودقائق ليس لنا إليها سبيلا، لنصل إلى التوالد نسلا يسلسل ما سيليه في ذاكرة لن تنضب ما دام للحياة انفراجها..
من منا من لا يحمل من الذكريات الطفولية أحلاها حين تحضر الخالة، ومن منا من لا يلتجئ إليها حين يستبق الموت أمهاتنا، لنتنشق عبير حضورهن الغائب فيها، فيتجلل بنقاء افتقده بينما الحياة تسوقه، وتتقاذفه بين منتدياتها...
للوهلة الأولى، وقد وقعت على رواية تحمل العنوان " بيت خالتي" سيخطر لك ما سبق أن خطر لي، ولقرّاء يبكرون تصفحهم لها، لكن أمثالنا من المتعبين، والمنفيين، سيصطادون في صفحاتها الأولى أنفاسا تقذفهم قذفا حيث الانعدام، ثم الانعدام، ثم التلاشي...
لست بحاجة سوى إلى مفاتيح في كل أمر لتفتح بها المغارات التي تسعى جاهدا ألا تقترب منها، لأنك تثق تماما أن بانتظارك الجحيم برمته!...
نحن "السوريين" على الأخص نتهامس بتلك التسمية سرا، ونتندر بها جهرا بيننا وبين من نثق بهم بشدة، وأكفنا على قلوبنا، وقبضاتنا تتكمش بنبضنا خوف أن يفلت منا فتعدمنا الحياة، رغما منا، شئنا، أم أبينا سنفقد الحياة ما أن نُلتقط..
قد تتلقفك عين ما، قريب منك، نكرة من النكرات، من ليس في بالك، لتغدو الضحية.. ذاك بعض من مسبب!...
لقد استطاع " أحمد خيري العمري"، الروائي العراقي الذي لن تشك في سوريته تجاه ما تقرأ، في روايته "بيت خالتي" أن يتقمص السوري المسكين في معاناته، وينقل وجعه إلى القارئ بحرفية، وإتقان مؤلمين، ينقل وجوها من القهر وظلالا من أجواء عايش البعيد أحداثها عبر الأقنية الفضائية، فسبر بعض ما يجري لأبناء بلده في الوطن الأم، ورغم أنه سمع الحكايات والأساطير عن سراديبها، فهو المحظوظ أنها لم تمسه مباشرة، أو لم تلامسه تفاصيلها في أسرته أو بين أقربائه، حتى أن القارئ لن يصدق إلا أن " العمري" قد يكون واحدا من أولئك المعتقلين الذين طبقت عليهم الأساليب السادية الوحشية، وكتب الله له النجاة بعدها!
ولا بد أن العمري كان حاضرا في تساؤلات لن تستقر حيث خطّ على ظهر غلاف روايته سطورا جاء فيها:
" عندما عرفت تفاصيل ما حدث، لم أستطع أن أواصل حياتي كما لو أني لم أعرف، لم أستطع أن أطوي الصفحة، وأنسى.. حاولت، لكن فشلت.. ألم المعرفة كان مختلفا، يثقل الروح والجسد معا. وشعور العجز كان أكبر من طاقتي على التحمل. لقد عرفت، فماذا بعد؟ هل تستطيع أن تفعل شيئا؟ الشيء الوحيد الذي خفف عني هو أن أكتب ما حدث. هذا كل ما أستطيعه".
" النجاة".... تلك الكلمة الواهية المثقلة بالفجائع، والمواجع، والعجز، والتهشم، والدمار، والانتهاك، فمن سيخرج من تلك المعتقلات لن يكون الإنسان ذاته الذي دخلها قبلها...
ولعلني أستحضر بعض تلك الممارسات التي قذفتني كقارئ في أتون الرعب، حتى لم أستطع بعدها أن أسيطر على الزلزال الذي تهاويت أسفله، ولا بالدموع والشهقات التي نهشت جسدي... ليس الأمر عاطفيا بحتا، لكن تلك المشاعر هي الإنسان، وهي أول تعبير عن تعاطفه مع ما اطلع عليه.
مزاوجة العمري بين ابني الخالة، والبيت الأكبر الذي ضمهما، والمعتقل في السجن ضمن تورية ذكية حقا، يتواجه فيها ابنا الخالة: الأبيض المدلل الذي اندفع لنصرة الثورة، والرمادي تجاهها، الذي لم ينل من الحظوة ما ناله ابن خالته في العائلة، والذي لم يجسر أن يعطي رأيا فيما يجري حوله، وكأني بمقارنته بينهما حتى في لون جلدهما يطرح انعكاسا لما حمله الأول من انفتاح للضياء، قوبل بالكتم، والنأي تجاه الأحداث السورية الفظيعة، والثورة التي بدأت شرارتها منذ سنوات، وأخنعت بشدة وبقسوة وإجرام طال من المدنيين البعيدين عنها ما طال من خاضوا غمار الجرأة، والتنديد أيضا..
أما التوثيق التاريخي، وأبطاله، فقد أضاف إلى الرواية مصداقية الربط بين جهات من الظلم طالت مدنيين في أنحاء العالم، وأما المفاجآت في الأحداث، وفي التزييف وفيما حملته الشخصيات من أسرار ينسدل الستار عنها في نهاية الرواية، فتلك التي لا بد أن تنهار أمامها بما أنك ما تزال تتحلى ببعض الإنسانية!..
"نور" أو "جوري" الشخصية النابضة الفاعلة بقوة في الرواية، والتي تمثل الفتاة التي شاركت انتفاضا خنق، وتناقضات انتمائها في حياتها الأسرية، وما تعرضت له من التعذيب في الاغتصاب عبر فنون طبق فيها الهلوكوست بإتقان، يقابلها أنس الثائر والناشط السياسي الذي انتهى منتحرا في ذكرى الثورة، والطبيب النفسي ابن خالته الذي كان يرى نفسه في بوتقة القرابة دونه مكانة، وفي المواقف أيضا، ليرتفع الجميع، وليتسامقوا رموزا عظيمة تنصهر في محبة وطن ينزف.
أما صوت المطربة أصالة، وكلمات أغنياتها التي تسرح فوق الألم بشغف السكين، وهي ترافق مشهد الانتحار الذي شهدته روح أنس وجسده، فقد جاءت التتويج والإطار الثري لكل الجروح والانتماءات والاختلافات التي يجدر أن تتبخر بين معصميك سورية..
ليست سوى كلمات.. كلمات ترسم لانطباع خارجي يبتعد عن التغور، والغوص المريع في رواية حملت سراديبها ما حملت من الأذى والانهيارات النفسية التي لن يشفع طيب السوريين لها بالنسيان ضمن فوضى التجعيد والتشرذم الذي غرر بهم، وطواهم، حتى وإن انتهبته سنوات وسنوات من محاولات التنظيف، والرتق إلى أن تنتصب العدالة الإنسانية بكيانها المرتجى!
" إلى الذين لا نعرف أسماءهم.."
بذا يكحّل العمري إهداءه، وأراني أستعيره لأختم به إحاطة لو قدّر لها المدد، فستنافس المحتوى دموية.
***
أمان السيد - كاتبة سورية أسترالية
سيدني / 2-10-2024