قراءات نقدية
كوثر بلعابي: "عمر الغرسلّي" شاعر يذيب الألم في صهد القلم
** في البدء:
الشّاعر المبدع "عمر الغرسلّي" عرفناه إنسانا طيّبا نقيّ القلب كطفل.. هادئا كمتصوّف لا همّ له من الدّنيا غير حكمة المعرفة.. خجولا كشفق الغروب على مُحيّا قمّة الشعانبي.. وعرفناه خاصّة شاعرا متمرّدا هائجا مائجا في فجاج اللغة العربيّة كرياح الشتاء في ثنايا القصرين.. قصائده نابسة به وبزمانها في حداثة مُتشبّعة بمَعينها العريق رغم تنوّع التّجربة الشاملة للشعر العمودي والشعر الحرّ والقصيد النثري وحتى الشعر الغنائي ورغم أنّ الكثيرين دأبوا على خوض غمار الحداثة بواسطة استقدام مناهج الكتابة التي روّجت لها المدارس الغربية الجديدة وفلسفاتها.. إلا أن تجربة عمر الغرسلّي الثريّ رغم أنّه مقلّ تظلّ لصيقة بذاته المنفعلة بحدّة وهو يتفاعل مع ظروفه الخاصة حينا ومع ما يدور حوله في الواقع العام حينا آخر.. هي باختصار قصائد كتبها بأقصى ما في وسعه من حبّ للحياة ومن نقمة على قسوتها معه ومع وطنه وحضارته ..
** أمّا بعدُ:
حين نتأمّل ما ورد في مجموعته ما شعور الرّمح لو طالته أحزاني ؟ نلمس لغة متضرّسة حينا ومترقرقة آخر محكومة بالمفارقات والانزياحات الطّريفة منذ العنوان.. هذا الذي صاغه على هيأة إشكال مستفزّ في تركيب قلب منطق تراتبيّة الوحدات اللغويّة رأسا على عقب ... فلم يكتفي بأن يستفزّك بمعجم السّلاح الفتّاك (الرّمح) أو يستفزك السّؤالِ المثير للفضول (ما شعور...؟) إنما يذهب ليستفزك بهذا القلب لمنطق التّركيب (فالاصل ان يكون: ما شعور أحزاني / فؤادي لو طالها الرّمح؟) فتصبح الأحزان لعمقها وكثرتها أشدّ فتكا كن الرّمح.. ليحقق الانزياح بهذا الشكل التّجسيد المطلوب لهذا الإحساس الثقيل على القلب كما رمت إليه الصّورة الشعرية..
وتمتد
ونلمس أيضا كونا شعريّا قاتما مكفهرّا غارقا في عمق الوجدان تتنازعه شكوى ذاتٍ إنسانيةٍ مستاءة ورفضُ ذاتٍ أدبيّةٍ غاضبة.. وهذا لم يبيّنه العنوان فقط إنما يشفّ عنه ايضا الإهداء والتصدير (الإهداء: إلى أمّي التي أحسنت تربية الحبّ فيّ.. إلى الذين راقصوا الجرح تحت ظلّ الشّمسِ وتفنّنوا في مغازلة الموت كي تحيا القضيّة.. إلى أصدقاء المحنة في هزل الزّمنِ الصّعب.. إلى والدتي العربية..)
(التّصدير: لا تسقني كأس الحياة بذلّة
بل فاسقتي بالعزّ كأس الحنظل
كأس الحياة بذلّة كجهنّم
وجهنّم بالعزّ أطيب منزل عنترة)
الذيْن أعلنا عن تجربة ابداعيّة تتشكّل الذات فيها مُكابِدة: من جهة أولى لأزمة قدريّة مع الظّروف القاهرة التي أجبرته على مغادرة مقاعد الدراسة بموطنه والسّفر للبحث عن فرصة أخرى تتيح له إكمال تعليمه في العراق ثم العودة ثانية إلى تونس في ظروف حرب الخليج وبين الذهاب والإياب خيبات مريرة ومطبّات عسيرة وضياع حبيبة العمر بين صفحات الأمكنة والأيام.. فكان القصيد ملاذا ومتنفّسا.. كتب في ص 69:
(عندما يأتي المساء
يكبر الحزن فأُظهِر
أوراق الآلامِ شِعرًا
حتّى لا أبكي فأُقهَر)
ومُكابِدة من جهة ثانية لأزمة حضاريّة ضربت الامّة العربية في مقتل بضرب العراق بلد مشروع البعث الحضاري وبلد الشّعر ودور النشر وشارع المتنبّي والبحث العلمي والجامعات التي فتحت أبوابها للشّباب العربي قاطبة من طلّاب العلم .. وهذا له حضور مُلحّ واقعًا ورمزا في قصائد شاعرنا الذي كتب ""عراق الأمّة "" في أزمة العراق وقد ألقت بظلالها على سائر المنطقة العربية المستهدَفة بالخيانات داخليّا وبالاعتداءات خارجيّا.. كتب مخاطبا العراق في ص 56:
(قليل من الشوق ما عاد يكفي
لإرواء ظمأى بِحوش هوايا
في سجنك القلب يبقى أسيرا
وحبّك في البال أنقى القضايا...)
وكتب أيضا في ص 75:
(لم يعد لي ما يُجيد الصّدّ
والعمر قد مرّ موجوع الفصول
لم يعد لي ما يزول
بعد أن فرّ الأمان من بلاد العُرب
في هذا الزّمان وانتهى الحلم الجميل..)
لذلك كثيرا ما تداخل في قصائده عشق الحبيبة الضائعة بعشق العراق المغدور ليبدو الشاعر بينهما بمثابة (شهيد بغزوة حبّ)
وتمثّل قصيدة: "" ما شعور الرمح لو طالته أحزاني"" (وهي القصيدة الثانية والعشرون من بين أربع وثلاثين قصيدة) مَعين التّيمات وهي التي وهبت للمجموعة عنوانها كقصيدة جامعة تقاطعت فيها مختلف مقوّمات الكون الشعرى الممتدّ على سائر محتويات القصائد.. تمثّل الشّاهد الأوفى والأجلى على ذلك إذ ورد فيها خاصّة ص 86:
(أيها الحبّ الفريد
هذا وجهي يتغذّى القهر منه
بعدما ضيّعتُ ظلّي
وغزا الظّلمُ ديارا
صار فيها الخوف ربّي...
أيها الحبّ الكبير
لا تلمني.. لا تلم شبلا غريبا
مَوسق الحزنُ خطاه
فسرى كالرّعد مجروح الجمال
يقتفي للمجد آثارا أُبيدت
ربما يحيا قليلا كي يرى
في العُرب يوما تلتقي فيه الجبال...)
وقد أقام شاعرنا هذا الكون الشّعريّ المعبّر عن غربته العميقة بمختلف مستوياتها على خطاب شعري يضجّ بالسؤال المحيّر
والمستفز في عناوين القصائد (كقصيدة: مَن علّم الدّمع سجر العيون؟ ص 23 وقصيدة: متى تأتي؟ ص 114..) كما في متونها كقوله في قصيدة: عندما يصبح الموت امتيازا ص 38 التي بُنِيت بكاملها على تواشج طريف بين السؤال الوجوديّ
والسؤال الحضاري:
(أ في كلّ حين نموت؟؟
ونشعر أنّا انتهَينا
بوجه جديد نعود
ونشعر أنّا اختفينا
لظى الشّوق فينا يزيد؟ ..
أ نمضي..؟
نزوّق وجه الزّمان
برمي الورود..
وقتل الجحود
ورفض السجود؟)
كما تميّز هذا الخطاب الشّعريّ بتنوّع مستويات التّجريب اللّغوي _سواء في مهارة المجاورة بين المعاجم المتباعدة كقوله مثلا في ص 91 ضمن تنويعة من معاجم الرّحيل والهندسة والقيم والجغرافيا والوجدان.. عبّرت أحسن تعبير عن تنوّع مظاهر غربة الذات:
(تعبت من السفر الدّائري
ومن زمن التّيه والجبناء
وصارت لديّ حدود وصارت لديّ قيود..
بعد عينيك.. وصار لديّ قفاء..)
- أو في مستوى توليد المجازات.. ومثل ذلك ما نجده في ص 112 من فنّيّة تحويل مشهد الوصال ليلا إلى وليمة لذيذة لها طعم ورائحة:
(تعالَيْ.. فطعم الليالي بقربك أشهى
وللحبّ رائحة تتهشّم
فوق رصيف البلاد
وتشتاق نوما على شرفات الأصيل..)
أو في مستوى قلب موازين التّركيب وبطرق متنوّعة كما ذكرت سابقا منه ما بدا في العنوان او في القصائد / المتن.. كتب في قصيدة: كي نعود لنا ص 94
(لغة تتجمّل صمتا .. تربك ذاكرتي
تأتي لا ترحم لي صفة.. كي تعبث بي.. كي تبعثرَني
تأتي متجمّرة.. كي تسبح نيرانها في دمي
كي يسهر عند كلينا الهوى....
لغة تتجمهر صمتا
تأتي ممرّضة
تتأمّل أوجاعا لم يقلها الهوى
كي تنهل من تيهي...)
** وفي الأخير:
هذا نزر ممّا استَوقَفني من تجربة شعريّة مميزة تضيف أثرا ذا قيمة وجَودة إلى مدوّنة الشعر التونسي في مرحلة التّحديث اختار صاحبها ان يواكب زمانه برصانة دون مكوث عند مآثر الأصيل ودون احتذاء ببهرج الدّخيل فكتب مكابدته وألمه (ليس بسيف عنترة إنّما بوهجه السّاطع.. وليس بقلب جميل إنّما برقّته وعِفّته.. وليس بقرطاس المتنبّي إنما بعنفوانه وهيبته) فواكب مسيرة كوكبة من جيله الذين لم تناسبهم مخرجات مؤتمر الحمامات الأدبي فكتبوا جراح الذات والوطن بمرارة إحساسهم بسطوة الحياة عليهم وبسطوة غيلان العالم على وطنهم أمثال محمد الهادي الجزيري والمرحوم رضا الجلالي وآخرين. ...
***
كوثر بلعابي - تونس