قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: زرقاء اليمامة.. تأويل الرؤيا الشعرية بين النبوءة والخذلان

دراسة هيرمينوطيقية في البنية الرمزية والجمالية لقصيدة ماجدة الفلاحي

تمثل قصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعرة ماجدة الفلاحي استدعاءً أسطوريًّا لشخصيةٍ غائرة في الذاكرة العربية، تكتسب حضورها لا بوصفها رمزاً أنثويّاً فحسب، بل بوصفها ضميراً جمعيّاً يرى ما لا يُرى، ويصرخ في وجه العمى العام.

في هذا النص، تتحول زرقاء اليمامة من أسطورة إلى كائن شعري معاصر، يتكلم بلغة النبوءة والحقيقة، ويُعاد إنتاجها في سياقٍ وطنيٍّ مأزومٍ يشي بانكسار البصيرة وانتصار الظلام.

أولًا: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية).

المنهج الهيرمينوطيقي يفترض أن المعنى ليس جاهزًا، بل يُنتَج في الحوار بين النص والمتلقي.

منذ المطلع:

 تخرج من حواشي البؤس / ومن تضاعيف القهر

تُعلن الشاعرة أن الولادة الشعرية هنا هي ولادة من الألم، من حواشي لا من المتون، من الهوامش التي تلد الرؤية.

تتجلى "زرقاء اليمامة" كصوت يتكلّم من هوامش التاريخ والجغرافيا، تقف في منطقةٍ وسطى بين النبوة والشهادة، بين الصمت والصراخ، بين الرؤية والعجز.

تُعيد الشاعرة قراءة الموروث الأسطوري تأويليّاً:

فـ"زرقاء اليمامة" لا تعود تلك المرأة الخارقة البصر في التاريخ، بل أنثى معاصرة تُرى من خلالها أزمنة القهر العربي وتكرار العمى الجمعي.

تتحول النبوءة إلى وعيٍ جريحٍ، والرؤية إلى لعنةٍ معرفية.

وهكذا تُنتج الفلاحي تأويلاً حديثًا للأسطورة، يمنحها بعدًا وجوديًّا ووطنيّاً.

ثانياً: القراءة الأسلوبية

تُبنى القصيدة على جمل قصيرة متوترة إيقاعيًا، تميل إلى الجمل الاسمية والفعلية ذات البنية المتوازنة، كقولها:

ليلها طويل... طويل كسرابٍ لا ينتهي

وصدرها حرائق لا تنطفئ

هذا التكرار الصوتي (طويل... طويل) يُجسّد ديمومة الانتظار والخذلان، في حين أن الصور (حرائق – جمر – غيم مثقل – غيث مؤجل) تشحن النص بطاقةٍ شعوريةٍ متوترة تجمع بين الاحتراق والخصب المؤجل.

كما أن الاعتماد على التوازي الأسلوبي في المقاطع الختامية:

 أنت الصوت / أنت النور / أنت الصرخة / أنت النصر / وأنت الحقيقة / وأنت الحياة

يؤسس لذروةٍ خطابيةٍ أقرب إلى البيان النبوي أو الإنشاد الطقوسي، مما يكرّس حضور "زرقاء اليمامة" بوصفها رمزًا للقداسة والرؤية والقيامة المعنوية.

ثالثًا: البنية الرمزية والسيميائية

من منظور سيميائي، تحوّلت العلامات الكبرى في النص إلى رموز متداخلة الدلالة:

١- العين: ليست أداة إبصار فحسب، بل رمز للوعي والنبوة والاختلاف. حين تقول الشاعرة:

 فلن يستطيعوا قلع عينيكِ

فإنها تؤكد أن رؤية الحقيقة لا تُقتل، وأن البصيرة لا تُستأصل حتى وإن عميت الأبصار.

٢- الليل: يحمل دلالة مزدوجة؛ إنه ليل القهر والجهل والخذلان الجماعي، لكنه أيضًا رحم النبوءة، حيث يولد الضوء.

٣- الصوت والقصيدة: يتحولان إلى وسيلة مقاومة، إلى معادل رمزي للوجود والحرية.

٤- القيود – الصحراء – الصمت – البحر الغائب: علامات سيميائية على غياب الخلاص الجمعي، واحتباس الروح في وطنٍ فاقدٍ للبحر أي للاتساع والانطلاق.

رابعاً: البنية النفسية والدينية

تستحضر الشاعرة البعد النفسي العميق لشخصية زرقاء اليمامة بوصفها امرأة "ترى أكثر مما يُحتمل".

هذا الإدراك الفائق يتحول إلى عبءٍ نفسيٍّ وكينونيٍّ؛ إذ تعيش حالة "الوعي المأساوي" التي وصفها نيتشه حين قال: من يرى الحقيقة كاملةً لا يملك إلا أن يتألم منها.

فالقصيدة تكشف الانقسام النفسي بين الرؤية والعجز عن التغيير.

زرقاء الفلاحي ليست مجنونة كما يقول عنها الآخرون، بل ضحية وعيها المتجاوز.

- أما البعد الديني في النص، فيتجلى عبر الإيحاء القرآني والنبوي، تقول:

 لا تقول إلا ما أوحي إليها

هذا التضمين الديني يعمّق من قداسة الرؤية الشعرية ويجعل الشاعرة تُعيد بناء مفهوم "الوحي" لا كمصدر لرسالة سماوية، بل كمصدر للإلهام الفني والمعرفي.

خامساً: المستوى الجمالي والوطني

الجمال في هذه القصيدة ليس جمال الصورة فحسب، بل جمال الموقف الوجودي.

زرقاء اليمامة تتحول إلى رمزٍ للوطن العربي المصلوب على أسوار المدن العمياء.

حين تقول:

 أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

تقدّم الفلاحي صورة مكثّفة للجبن الجمعي، وللخذلان الوطني في وجه الحقيقة.

إنها تصف انهيار النخوة، وانكفاء البصيرة، واستقالة الضمير، ليغدو النص مرثية للوطن ومرافعة عن الصدق.

الجمالية هنا تنبع من صدق الألم واتساق الرمز، لا من الزخرف اللفظي. فكل مفردة تخدم دلالة الرؤية الكبرى، وكل صورة تُسهم في بناء المشهد الدرامي للنبوءة المنكوبة.

سادساً: البنية التأويلية النهائية (ما تحت الجلد الشعري)

تحت الجلد الشعري، ينبض النص بتوترٍ خفيٍّ بين الرؤية والخذلان، الوعي والإنكار، النبوءة والاتهام بالجنون.

هذا الصراع هو جوهر الوجود الإنساني في مجتمعٍ يرفض الرؤية.

زرقاء اليمامة، في تأويلها الأخير، ليست امرأة من زمنٍ مضى، بل هي كل ذاتٍ مبصرةٍ تُعاقَب على وعيها.

القصيدة، بذلك، ليست فقط نصًّا شعريًّا بل صرخة معرفية ضد العمى الجمعي والاغتراب العربي.

خاتمة:

في ضوء التحليل الهيرمينوطيقي والأسلوبي والسيميائي والنفسي والديني، يمكن القول إن قصيدة "زرقاء اليمامة" لماجدة الفلاحي تُجسّد رؤية شعرية كبرى عن مصير الرؤية في زمن الانطفاء.

لقد استطاعت الشاعرة أن تُحوّل الأسطورة إلى كائنٍ معاصرٍ يتكلم بلسان الحقيقة والجرح معًا، وأن تخلق نصًّا تتعايش فيه الرموز الدينية مع البنية الوجدانية والجمالية، في توازنٍ نادر بين المأساة والنبوة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

"زرقاء اليمامة"

تخرجُ من حواشي البؤس

ومن تضاعيفِ القهر

امرأةٌ تأتي من زمنٍ ولّى

تكتم جراحها

تلملم ما تناثر من تاريخ نبوءتها

وتعبر الصمتَ بوجعٍ معلنٍ في مدى عينيها.

*

ليلُها طويل…

طويلٌ كسرابٍ لا ينتهي

بلا أجنحةٍ تطير

وصدرُها حرائقُ لا تنطفئ

وغيمٌ مثقلٌ بجمر الانتظار

وغيثٌ مؤجَّلٌ لا يأتي

وفي جوفها وَجَلٌ يسكنه الصدى.

*

تحاصرُ شفتيها قصيدةٌ عنيدة

وإن قالت

لا تقولُ إلا ما أُوحيَ إليها.

تتركُ البابَ مواربًا

وتختفي وراء جدرانٍ خرساءَ باردة،

ومن كهفها تتبعها تاؤُها كظلٍّ من ضوءٍ غابر.

*

نادت

حذّرت

أنذرت

قالت:

أرى أشجارَ بلدتي تموت واقفة

أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

أرى سيوفهم مغمدةً في صدر نبوءتي

وسياطهم تجلدُ ظهرَ قصيدتي

وأرى قيودهم في يدي

ولا بحرَ في بلدتي

ولا مركبَ أُلقي إليه شراعي.

*

هذا الغامضُ الخفيُّ يُنبئني:

أنا والمطلقُ واحد

لا حدودَ لرؤيتي.

*

قالوا عنها:

عرافة

قدّيسة

نبيّةٌ مرسلة.

قالوا: أنَّى لها الحكمة؟

*

ذاكرتُها وهمٌ

ولغتُها هذيان

وما تقول إلا خرفًا وثرثرة.

*

لا ملاذ لها هنا…

ما كذبت عيناها

بل هم كذبوا.

*

لا تتواري إن خذلوكِ

اصمدي ولا تُغادري

فلن يستطيعوا قلعَ عينيكِ

ولا صلبَكِ على بابِ المدينة.

*

أنتِ الصوتُ

أنتِ النورُ

أنتِ الصرخةُ

أنت النصر

وأنت الحقيقة

وأنت الحياة.

***

من ديوان مساء المرايا 2022

 

في المثقف اليوم