قراءات نقدية
الصراع السياسي الدموي في رواية (منازل العطراني) للأديب جمال العتابي
الحدث السردي يتناول بكل دقة وتفهم موضوعي تفاصيل، القضايا السياسية الحساسة والمهمة، في تاريخ السياسي العراقي العاصف باحداثه الدراماتيكية، بالضبط في فترة سقوط الملكية، وفي العهد الجمهوري، الذي تميز بالتخبط السياسي والفوضى والتناحر السياسي والحزبي، نتيجة غياب الرؤية السياسية الواضحة، والذي انتهى الى العنف السياسي الدموي، في انقلاب شباط عام 1963. الذي وضع العراق في حافة الخطر الجسيم، بأن أصبحت لغة السلاح تعلو على كل شيء في مصير العراق. هذا التوثيق التاريخي / السياسي، تناوله الحدث الروائي، وبكل تأكيد يحمل سمات المعايشة والتجربة، والتفاعل في الأحداث العاصفة كشاهد عيان، تلوع من نيران تلك التجربة العاصفة، في الزمن الجمهوري وسقوطه والأحداث اللاحقة بعد ذلك، مما يؤكد هذه الفوضى والتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وعندما يأخذ شكل التعامل في الصراع السياسي ، وينتقل الى العنف الدموي، وكسر العظم الخصم والمنافس والخصم، مما ولد من رحمه انقلاب دموي شرس لا يرحم، ليدخل العراق في عين العاصفة الهوجاء، في نهج التنكيل والبطش والإرهاب. منذ اليوم الأول للانقلاب ظهرت فرق الموت في الشوارع والطرقات، التي امتلأت بنقاط التفتيش، ووقوف السيارات في طوابير الانتظار الطويل، بحثاً عن خصومهم السياسيين، وفتحت السجون والمعتقلات وكثرة حفلات الإعدامات، وجريان الدماء حتى في الشوارع ، وأصبحت البيوت غير آمنة من زوار الفجر، ووضع البلاد في عدسة كبيرة من الأمن والمراقبة والتصيد والرصد، هذا جانب من السرد الروائي، ومن الجانب الآخر يتناول معضلة اليسار العراقي وأخطاؤه القاتلة والفداحة ، الذي تميزت بالتخبط وانعدام الرؤية السياسية الناضجة، والتخاذل في المجابهة وعدم تحصين الأعضاء والأنصار من المخاطر الجسيمة في الحياة والواقع اليومي، باختصار العبارة ، تركهم غنائم سهلة للذئاب الوحشية المتعطشة للدماء. هذا التناول الروائي في الجانبين ، وتسليط الضوء الكاشف على تلك المرحلة الحالكة من تاريخ العراق السياسي الدموي، التي انتهجت العنف المفرط ووحشي ، عبر تتبع أو تناول السيرة الحياتية للشخصية الروائية، السياسي المخضرم (محمد الخلف) الذي عانى معاناة قاسية وشديدة الخطورة، بسبب اعتناقه الفكر السياسي اليساري ومنتمياً حزبياً، فقد فصل من الوظيفة وزج في السجن، وعانى من المطاردة والتشريد، وينتقل من مكان الى آخر، ويتجول بزي قروي للتمويه من العيون الامنية، وحكم عليه غيابياً بخمس سنوات، فقد أدين بالافتراء والمكيدة، واصبحت حياته عبارة عن مطاردة مستمرة، ولا يستقر في مكان واحد، يتجول بين القرى والأرياف بهوية مزورة باسم (محمد العطراني) وترك عائلته وأولاده في شظف الحياة القاسية والفقر الشديد، ودفع الثمن الباهظ بسبب اعتناقه الفكر السياسي اليساري، أعدم ابنه (خالد) وتشرد ابنه الآخر (ضياء) في الغربة، وكذلك قتل شقيقه (خيون) بدم بارد، فقد نخرت جسمه رصاصات الموت، بسبب اشتراكه في انتفاضة الاهوار المسلحة، التي قادها الثائر (خالد أحمد زكي) والتي اجهضت بالدم، ان حياة (محمد الخلف) تؤكد عليه دوماً في النهار والليل، بأن البرابرة على الأبواب، لذلك يتحصن بالحيطة والحذر في تنقلاته، التشرد في النهار وتداهمه كوابيس مرعبة في الليل، وهو يدفع ضريبة الوطن في التحرر من القبضة الحديدية من السلطة الطاغية، التي جاءت في انقلاب دموي عام 1963، عندها اصبح الوطن يقبع في دهاليز السجن الكبير، تديره الذئاب البشرية المتعطشة لسفك الدماء، واصبحت لعلعة الرصاص في النهار والليل من الظواهر العادية جداً في الحياة اليومية ، ويفهم (محمد الخلف) انه بالمرصاد والمراقبة، ولهذا لايستقر في مكان واحد، بل يتنقل بين المدن والقرى، التي تطوقها فرق الموت، وبهذا يتحرك بحذر شديد وبهوية مزورة (احذر أن تصدر عنك اية كلمة تكشف هويتك، أنت بلا هوية تعريف، أياك الكلام، في الصمت النجاة، انه لغة التفاهم ومملكة الانسان السرية في هذا البلد يقتل الصمت، ينتزعونه منك بالتعذيب، تقلع العيون والاظفار أو بالاغتصاب) رغم ثقل المحنة التي لا تطاق، ورغم معاناة التشرد القاسية، فأنه مصر على مواصلة الطريق بثبات وتحدي ، ويحدوه الامل بالخروج العراق من هذا النفق المظلم، لم يستسلم للعنف الدموي، ويظل متمسك باصرار عنيد، يبحث عن الخلاص، يبحث عن الحياة المخطوفة، ويحاول ان يبعد هواجس الخوف واليأس والقلق، انه الباحث عن الحياة دون ظلم وطغيان، كالكلكامش الباحث عن عشبة الحياة، ويواسي نفسه المفجوعة، باغاني اليسار (نحن نحب الحياة، لكننا نعتبر السجن (سعادة) والموت شهادة) ص11، وفي ليالي التشرد والمطاردة، يتذكر زوجته (زهرة) بحنان وشوق متلهف ، حيث ارتبط معها بحب صادق تكلل بالزوج، وكان يمني نفسه آنذاك، بايام جميلة وحياة حلوة في بيت فسيح الارجاء، تحيط به حديقة، مفتوحة للشمس والعصافير تتسع لابنائه، ويرفل في مسار الحياة الزوجية المستقرة، لكن تعصف الرياح بما لا تشتهي السفن، ويتذكر حينما يناله التعب والارهاق، يجد زوجته بجانبه تشد أزره وتقوي عزيمته، وتخفف من وطئة معاناته، وتطلب منه ان يتجلد بالصبر والقوة والعزيمة، وهي تذكره بعنفوان شبابه أنذاك ، يواجه نفسه وجهاً لوجه (- الخطايا تتطلب أثمانها يا زهرة، أنتِ لا ترين مجد (النضال) ! نساء (المناضلين) يرين اللعنة يعيشنها، يتركن لرجالهن أن يتحدثوا عن (أمجادهم) وحدهم !، لابد من كبش للمحرقة) ص 48. ويحاور زوجته بصمت و بشفقة (- في سنوات تلت كان لنا حب في كل خفقة قلب، عبرناها مثل لمح البصر، كنتِ طوال العمر تتحدين القسوة وشظف العيش، صبرتِ على صعاب الأيام، في انفاسكِ عتب دائم لا تعلنين عنه) ص 46. وقد اصبحت حياته مثل حياة العراق كالشاة التي يطاردها ذئب متوحش متعطش للدماء (العمر يمر يا محمد، خسرت حلماً جميلاً يا وطني) ص89. ويتحسر بأنفاس القهر ويحاور نفسه، اين المسار؟ ومتى تزول غشاوة الظلام عن وجه العراق ؟ ويمني روحه، لابد ان تشرق الشمس ويصمت رصاص الطغاة، ويسقط عرش الطغاة ، ويبتسم وجه العراق من جديد ، ولكن الأحداث تثبت العكس، لم يتهنى الشعب باسترداد انفاسه الثقيلة، حتى صعق في صبيحة تموز الساخن عام 1968، يقطع البث الإذاعي تلاوة القرآن الصباحي، ويعزف اناشيد عسكرية يعلوها نشيد (الله أكبر) ويعود من جديد صوت (الله اكبر) و لاحت رؤوس الحرابي، ليعودون من جديد، ولكن بقناع مخادع، حتى ثبتت اقدامهم في اركان الحكم، حتى كشفوا عن وجههم الحقيقي كما كانوا في انقلاب شباط عام 1963، ويتاجرون بالشعارات البراقة بالحرية والاشتراكية كذباً ونفاقاً (هل تخلت عنا السماء، الى اين يذهبون بالبلاد ؟ يرفعون شعارات الحرية والاشتراكية على صعيد الخطاب، لكنهم في الممارسة يتعاملون مع المختلف بلغة القتل والعنف والإقصاء ضد حق الاختلاف وحرية الرأي) ص97. في النهج الإرهابي والاسلوب الدموي لكل من يقف أمامهم، ويبقى العراق بدون امل وحلم، سوى أنه يبقى، الوريث الشرعي الاحزان وتوابيت الموتى في السلم والحرب، لا فرق بينهما طالما الجلاد هو من يملك الحرث والنسل.
***
جمعة عبد الله