قراءات نقدية
مرشدة جاويش: إضاءة لجماليات المنجز الفني الشعري سيمائياً
في القصيدة المسافرة ومحاكاة واقعها لدى الشاعر اليمني القدير (محمد ثابت السميعي)
***
بَرْقِيَّـاتْ!
مِنْ شاعرٍ
ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:
لمْ أعتدي !
*
مِنْ طالبٍ
شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:
ما بالْيَدِ !
*
مِنْ مُدَّعٍ
بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:
لا تقتدي !
*
مِنْ مُقْعَدٍ
- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -
هاكمْ يدي !
*
مِنْ مُعْدَمٍ
ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:
هاكُمْ غَدِي !
*
ما شِئْتُ هذا والذي
فَطَرَ النجومَ
لِنَهْتَدي !
***
التمهيد والرؤية العامة للنص:
يؤسس الناص بإنفراج فكري بمفارقات تقاسيم من واقع مدان. إنها القدرة وقابلية الوعي على الإستيعاب العقلاني للأحداث والوقائع وتحديد موقفه منها.
فلا يكفي أن نعي الأشياء والأحداث المتسلسلة بالوجع زمانياً والمتموضعة مكانياً بل يترتب اتخاذ موقف ما، من ذلك الشيء أو الحدث اللذين وعيناهما ونراهما ونشعرهما بعيداً عن هيمنة المؤسسة السلطوية بكل أحكامها وايدلوجيتها الثقافية على موضوعة الفهم. والذي هو الأساس الأول لنشوء وتكوّن الوعي في عقلية الإنسان.
من هنا اعتمد شاعرنا على مبدأ (قدسية اللغة) الذي أدى إلى ترسيخ خطابه التخارجي الموجه والمحدد والمحكوم تعبيرياً وفق آلية (الدال والمدلول) وقاموسية المعاني في مصرع الحاجة التعبيرية لتواجد المؤثر والمحفز الواقعي المحزن وما تفرضه حتمية الموقف.
وما أضفى أيضاً تلك القدسية على اللغة النصية هو إرتباطها التلازمي مع (الدين) وقناعته من خلاله بحكم حالة التماس والتفاعل الإنساني ومشيئة التأثر القسري، لإخضاع الفعل الكتابي من خلال كل ذلك كما أبدعه الشاعر في نصه 24/9/2024
الإضاءة الكلية:
من منصة العنونة المتنية والتي هي الدلالة الكلية لمضمون النص ومرتكزه بالإنفتاح نمعن بمفردة العنونة
//برقيات//
فالبرقية معجمياً هي آلية
الإرسال الشيء من مكان لآخر أو بالأحرى إرسال رسالة مهما كان نوعها من مكان إلى آخر
ولكن الناص كان مهتماً بالإرسال مخاطِباً موجهاً حروفه من خلال البرقيات
لم يقتصد بالفكرة بمفردة برقية مثلاً
بل لجأ إلى صيغة الجمع (برقيات)
وذلك للتوزع الكلي لما رغبه من خلالها
ألا وهو الإنتشار / وتنوع الرسالة أو البرقية
وركز الشاعر على المؤشر الرمزي السيميولوجي
أو السيميائي إشاراتياً بالنص كبنية كلية حدثية
// مِنْ شاعرٍ
ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:
لمْ أعتدي !
فذاك الإعتداء الباطل
كان سبباً للزج
فالزج ترميز لتقييد حراك ذاك الشاعر
الذي أنفى التهمة عنه في زمن العفن
لقطة جمالية عالية الفنية
تعطي دلالة تقييد الفكر
فالعلامات السيميائية فعلية هنا دلالة الزج
فهو فعل ماضوي
لم اعتدي يعطي الزمانية الآنية الحاضروية مما يدعنا نرى امتداد الإعتداء بين ماض وحاضر أي استمراريته
فالعلامات السيميائية
ليست متباينة بل جميعها غايتها واحدة بالإرسال برقياً
ضمن كينونة النص
نجد (الناص) رتب اللقطات النصية بمعاني أبعد ماتكون عن الحشو فالقارئ الحصيف يتكيف مع الجمل ونتاج المعنى بعناية لأن عَرْض النص مقنع ومصور بوظيفية تلمح إلى المأساة العامة للخطاب
أي (الناص) رصد شعريته على مبدأ نقاء النوع الذي اعتمده وفرادته ضمن بنائية النص
بتوظيف الشعورية الأنوية إتجاه الآخر
// مِنْ طالبٍ
شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:
ما بالْيَدِ ! //
على لسان ذلك الطالب يتكلم وهذا يدع المتلقي ينتابه فضول المتابعة الكلية
أشار إلى الحالة العامة تقريباً التي تحصل في مجتمعاتنا عن الطلبة المتخرجين
فالفعلية الماضوية: شهد
ووو
أخذتنا إلى زمكنية مؤكدة للصورة المرادة بهذا التعجب لما يحصل من خلال واقع مر
إذا لاحول ولاقوة أمام كل هذا الأمر
ماباليد!
فالنص اتسم بالموضوعية وابتعد عن الذاتية المطلقة إلا من جانب الصوت اللفظي الموجه للآخر بثيمة وصفية تحيط الفقرات الشعرية
بالإحالة والانزياح بخروج معني واضح الاشارة والمعيار بإشتغالات تصويرية بكل فقرة
وبإستهجان ونهي على لسان
مُدَّع
بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:
لا تقتدي !
دعوة لعدم الإقتداء
إعتمد الشاعر على المفردة الدينية للإثراء الحيوي للمعنى
فالمدعي عموماً: هو من يرفع دعوى للوصول إلى حقه قانوناً
العمامة:
لباس عربي منذ القدم يحيط بالرأس
اللحية:
فرض لا يجوز تركه وأمر الرسول على وجوبه
فمن هنا كانت إشارة الناص لعدم هدم التراث الديني بهذا المد الديني المعكر
فالإفتاء هو صادر عن أهل العلم والفقه والخير وعن أهل المعرفة لا كما نراه حالياً وغالباً من أهل الفقه والمدعين في مستنقع الهدم للدين
الناص أكد على الجانب الصوتي غالباً بعلائق المفردة بكل التقاطة شعرية هذا الصوت خفي لكنه لاذع بالإرسال
مِنْ مُقْعَدٍ
- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -
هاكمْ يدي !
فهو الحلم المؤمل لذاك المقعد إلى قادم مضيء
وكان الإيثار مستفحل بالصورة المعطاءة
// هاكم يدي// التي صورت بكل فنية
فالمقعد:
هو المعاق والقاصر عن الحراك ويشار غالباً لمن فقد أطرافه السفلية
فالمُقعد يؤثر الأمل على ما تبقى لديه
حين يهب يديه إضافة الى إعاقته غاية انفراج قادم
فالمشهدية متمازجة بين ناسج الفكرة مع الآخر برؤيةٍ بل دعم وتبيان
وهذا ما يسمى بالرسالة الموجهة المضمنة الخفية وهو جزء من أدب الرسائل القصيرة الموجهة والمحددة:
من شاعر... من طالب
من مدعّي...من مقعد
...من معدم
أي (من / وإلى)
هي التبادلية فالشاعر يتكلم بلسان الآخر
// مِنْ مُعْدَمٍ
ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:
هاكُمْ غَدِي !//
إنه الغد المذبوح لذاك المعدم الذي أنهكته التأوهات والحسرة مع كل الألم
من ثم كان ختام النص المحسوم بيقين الناص وتأكيده
ما شئت هنا نفي للرغبة
أي الناص ما أحبّ ذلك
فهو يتخذ من نفسه
القيّم على الآخر ومابه
وكأنه هو المسؤول عن كل تنابذه وعن استنكاره وعن استهجانه وعن آماله
تلك المفارقات لم يكن الناص يرغبها لكنه أوصل ما يجب
فيقسم "والذي فطر النجوم" بالله أنه لم يكن له يد فيها أي بذاك الخراب فهو يتنحى عن صفة الهدم لكنه أوصل رسالته
ومن بعد القسم يلجأ إلى العبرة والإرشاد إلى الصوابية
// فلنهتدي//
نجد رسالة لها طعم الاستنكار المحزن المبطون
بالفعل الحاضروي ليعطي للفكرة متسعها الزمني الممتد وأيضاً لتأكيدية الحدثية الزمنية المستمرة
// ماشِئْتُ هذا والذي
فَطَرَ النجومَ
لِنَهْتَدي !//
فالوطنية لدى الشاعر هنا إلتزام اتجاه مايحدث هي مفهوم اخلاقي
ولم تنفصل الوطنية عن الحرية بالنسبة
//جان جاك روسو// وجادل باستحالتها في مجتمع مستعبد
فالناص كان التزامه أمام مايراه هو الإستنكار والاشارة
لأن الفرد له حق الحرية والحياة والحق الفردي كما أشار المفكر والفيلسوف الإنجليزي // جان لوك//
البنية التركيبية استجرها الشاعر بكل مفاصلها إلى الإلتزام إتجاه مايحدث بمفهوم أخلاقي
للمواقف فلقد سلم الشاعر برقياته إلى الآخر يدونها هو لتوسيع الفكرة العامة وللإستطراد بالفضول
فلغة الناص:
الموجهة تُطلّ على منبر الروح كي نتغامى مع الكلمات
أقول حَيّ على الجمال
ثم أتلو الصلاة بين تهجداته القيّمة وهذا الإنتماء الشعوري المتفاعل مع محيطه ومطباته بحرية الفكر والإشارة فلم يثنه توجس ابداً بل كان قلمه حراً غنياً ذكرني ناسج الفكرة بمقولة عن #جبران خليل جبران
// التجاهل انتقام راقٍ وصدقة جارية على فقراء الأدب//
كانت اللغة المقتصدة بتعبيرية مقطعية منحازة لتكثيف الفكرة التي تنظم المفهوم الكلي لوحدته العضوية
لتعطي إنطباعات اللحظة الشعورية لكل مقطع
لغة ذات صوان راسخ لم تغفل عن جفن الحقيقة لشاعر مبدع له اسقاطاته ومحموله الذي اعتمد بسياقاته على نشر الدالية الذاكراتية لدى الآخر أو المرسل من واقع قابع بالقهر
*
أ. محمد شاعر قدير ملتزم بمصداقية مؤثرة
كل التحية والود
***
إضاءة:
د. مرشدة جاويش - سوريا