قراءات نقدية
مولدي فرّوج: الصورة الباطنيّة في قصيدة: نهدان
المولدي فروج والياس قعلول/ تونس
توضيح: جمعني لقاء بمناسبة بالأستاذ الياس قعلول تداولنا الحديث حول الادب والثقافة وانتهينا الى التركيز على قصيدة كنت نشرتها منذ وقت. قال محدّثي أنّه تناول القصيدة من الجانب النفساني و اللاواعي الذي رافق ولادتها ورغب في أن أوضّح له بعض الأشياء الخفيّة التي وردت في القصيدة. فكان لنا هذا النّص المشترك الذي سمّاه صاحبي: الصورة الباطنية.
شكّلت الصّورة الشّعريّة منذ القديم هاجسا لدى الشّعراء والنّقاد على حدّ السّواء. وما زال أكثرهم يتدبّرون لها تعريفا دقيقا شأنها شأن الشّعر الذي لم يعثر هو الاخر على تعريف يشفي الغليل ويثبت ان الشّعر ليس كلاما بل فنّا في اللّغة ولم يكن بالضّرورة موزونا.
ولأنّ الصّورة الشّعرية ليست علما صحيحا خاضعا لقواعد فلن ينتهي الجدل حولها، وسيظل النّقّاد يختلفون فيها باختلاف اجتهاداتهم ودرجاتهم المعرفية. فالمتعارف عن الصّورة أنها تركيب لغوي يستعمله الشّاعر لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل. وهي أداة الشعر كما ان الفكرة أداة النثر. قال الجاحظ مؤكدا: الشّعر فنّ تصويري...
ورغم الغموض الذي قد يطبع حديثنا المشترك (الشاعر الطبيب والأستاذ الناقد) عن الصّورة فانه يمكننا تحديد مجالات معينة بالاعتماد على الاصطلاح والدّلالة.
تولد الصّورة الشّعرية في مخيلة الشّاعر مع ميلاد القصيد وتفتّقه. لتفصل بين الظاهر والباطن وبين الوعي واللاوعي. فاذا ما خرج النّصّ الى عامّة النّقّاد والفقرّاء صار بإمكاننا أن نستنطقه لنبحث عن الظروف التي رافقت ميلاده بدءا من لحظة المكاشفة واختيار العبارة المناسبة حتى الاكتمال والتزويق والخروج الى الضوء والورق. ويمكن لكل ناقد ان يحفر في النّص أفقيا بتتبّع العبارات وتسلسلها وتناغمها مع الموضوع العام الذي بني عليه النّص وعموديّا بالغوص فيه لاكتشاف الدالّ فيه على المدلول.
لا نروم في ورقتنا هذه تقديم مسح كاشف للصّورة الشّعرية وما احتوت من عناصر وما شملت من أنواع ولكننا رأينا من خلال قراءتنا لقصيدة "نهدان" للشّاعر التونسي المولدي فرّوج أنّها تصلح وحدها لتكون درسا تطبيقيّا لمختلف الأنماط الصّورة الشّعرية المتداولة الظاهرة أمام (القارئ – النّاقد) والخافية وهي ما نسمّيه بالمناسبة الصّورة الشّعرية الباطنية.
فلحظة ميلاد القصيد في مخيّلة الشّاعر ينشط لاوعيه واحساسه قبل أن ينقل نصّه كاملا على الورقة أو بالإنشاد، كما ينشط وعيه عند البحث في ذاكرته عن اللّفظ المناسب وطريقة ربطه بالألفاظ الأخرى لتوليد الصّورة. ولعلّ خير دليل على اختلاط الوعي باللاوعي في ذات الشّاعر نفسه قوله: قلْبي يفكّرُ فيهما...
قمنا بقراءة إجرائية لقصيدة "نهدان" وغصنا في لاوعي الشّاعر (وقد شهد على نفسه) فأُبهِرْنا بحضور كبير ومتجسّم لصورة النّهد فيه من خلال شكل الحروف التي تشبه نهد المرأة وهي حروف النّون والقاف وبشكل أقل حرف الفاء. ألا تدل استدارة حرف النّون على استدارة النّهد على صدر المرأة ونقطة الحرف على الحلمة؟ ألا يشكل حرف القاف والفاء في لا وعي الشّاعر صورة مجسّمة للنّهد وحلمته. فليس غريبا اذا، أن يتكرّر حرف النّون 33 مرّة وحرف القاف 17 وحرف الفاء 18 مرّة من مجموع 92 لفظة شكّلت مجموع الألفاظ في القصيدة. ألم تحقّق الصّورة الشعرية التّالية قمّة المتعة أم هي متعة مزدوجة: متعة تحدثها جمالية النّصّ وأخرى يصنعها خيال القارئ حتّى لكأنّه خالقها وهذه ميزة الصّورة الباطنيّة التي نتحدّث عنها. لن أترك صورة الأعمى الذي يسعى بضوء النّهدين في النفق ليرى النمل دون أن أسال لماذا استعمل الشّاعر "بضوئهما" ولم يقل "بنورهما"؟ أعتقد أنه واع تمام الابداع بأن الضّوء ينبعث من جسم أكبر من النّهدين وقد يكون جسد المرأة بصورته الكاملة في ذهن الشّاعر.
***
نَهْدَانِ / مولدي فرّوج
نهدان يَا خَوْفِي
علَى النَّهْدَيْنِ من لَهْفِي
فلي كفٌّ حَرِيقْ
عِقْدانِ مَرَّا
فَوْقَ عُودِهما الرَّقِيقْ
نهْدان مُذْ وُلِدا
كأنَّ الأرْضَ لمْ تنْهَضْ لَها
شَمسٌ، ولا قَمَرٌ،
ولا حتَّى بَرِيقْ
*
نَهْدانِ مُذْ كَبُرَا
وشَاع الخَوْفُ
لمْ يَتَبيّنَا وَجْهَ النَّهَارِ
فَلَوْ سَعَى...
أعْمَى... بِضَوْئِهمَا
لأبْصَرَ...في ظَلامِ الليلِ
نَمْلاً ..... في المَضِيقْ
نهْدان والحمّالة الحمقاءُ
تعتصِرُ الغَريقْ
نهدان لا يتَلامَسان
كأنّما
قد فرَّقَ الوجْدانُ بينَهما
فما حنَّ المُرَافِق للرّفِيق
*
نهدان لا يتَكاسَلان
وإنَّما قلْبي يفَكِّر فيهما
فيَهيمُ في رسْم الطَّريق
نهْدان نامَا فوق ظِلّهما
….فمنْ، من يَسْتفِيق
***